من آراء العلماء.. كيف يجادل المسلم غير المسلمين والملحدين؟
أسئلة وحيرة
{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
(العنكبوت: 46)
يقول العلامة الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي:
الحق - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا كيف نجادل أهل الكتاب، وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في القرآن الكريم نقول: ما معنى الجدل؟
الجدل:
مأخوذ من الجَدْل، وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان ليناً كما نفتل
حبالنا في الريف، فالقطن أو الصوف مثلاً يكون منتفشاً يأخذ حيزاً واسعاً،
فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطاً جمعنا بعض الشعيرات ليُقوِّي بعضها بعضاً
بلفِّها حول بعضها، وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى، وعلى قَدْر
الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته.
الغرض من الجدل
ومن
الجدل أُخِذ الجدال والجدَل والمجادلة، وفي معناها: الحوار والحجاج
والمناظرة، ومعناه أن يوجد فريقان لكل منها مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن
الآخر أي: ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو.
فإذا كان المقصود هو الحق
في الجدال أو الحِجَاج أو المناظرة فهذا الاسم يكفي، لكن إنْ دخل الجدال
إلى مِراءٍ أو لجاجة، فليس القصد هو الحق، إنما أنْ يتغلَّب أحد الفريقين
على الآخر، والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة، منها قوله تعالى:{
لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ.. }[المؤمنون: 75].
لكن إذا فَتَلْنا
الشيء المنفوش حتى صار مُضْمراً، وأخذ من الضمر قوة، أأنت تجعل في الجدل
خَصْمك قوياً؟ إنك تحاول أنْ تُقوِّي نفسك في مواجهته. قالوا: حين أنهاه عن
الباطل وأعطفه ناحية الحق، فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه، وكأنه كان
منتفشاً آخذاً حيِّزاً أكبر من حجمه بالباطل الذي كان عليه، فأنا قوّيته
بالحق. وفي العامية نقول (فلان منفوخ على الفاضي) أو نقول (فلان نافش ريشه)
كأنه أخذ حيزاً أكبر من حجمه.
لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل لا
يكون لمجرد الجدل، إنما تغلُّبك لحق ينفع الغير ويُقويه ويردّه إلى حجمه
الطبيعي. أو: أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الأرض، كأن يطرح القوي الضعيف
أرضاً في صراع مثلاً.
والجدال يكون بين شخصين، لكل منهما رأيه الذي
يألفه ويحبه ويقتنع به، فحين تجادله تريد أنْ تُخرِجه عن رأيه الذي يألف
إلى رأيك الذي لا يألفه ولم يعتده، فأنت تجمع عليه أمرين: أنْ تُخرجه عما
أَلف واعتاد إلى ما لم يألف، فلا يكُنْ ذلك بأسلوب يكرهه حتى لا تجمع عليه
شدتين.
طرق الجدال
فعليك
إذن باللين والاستمالة برفق؛ لأن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه الله: فلا
تجعله جبلاً، ولا ترسله جَدَلاً، وعادة ما يُظهِر الناصح أنه أفضل من
المنصوح. ويقولون: الحقائق مرة، فاستعيروا لها خِفَّة البيان؛ لأنك تُخِرج
خَصْمك عما أَلِف، فلا تخرجه عما ألف بما يكره، بل بما يحب.
والإنسان
قج يُعبِّر عن الحقيقة الواحدة تعبيراً يُكره، ويُعبِّر عنها تعبيراً يُحب
وترتاح إليه، كالملك الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطتْ، فطلب مَنْ
يُعبِّر له ما رأى، فجاءه المعبِّر واستمع منه، ثم قال: معنى هذه الرؤيا يا
مولاي أن أهلك جميعاً سيموتون، فتشاءم من هذا التعبير ولم يُعجبه، فأرسلوا
إلى آخر فقال: هذا يعني أنك ستكون أطولَ أهل بيتك عُمراً، فَسُرَّ الملك
بقوله.فهنا المعنى واحد، لكن أسلوب العرض مختلف.
ودخل رجل على آخر،
فوجده يبكي فقال: ما يُبكيك؟ قال: أخذْتُ ظلماً، فتعجب وقال: فكيف بك إذا
أُخِذْتَ عدلاً؟ أكنت تضحك. والمعنى أن مَنْ أُخذ ظلماً لا ينبغي له أن
يحزن؛ لأنه لم يفعل شيئاً يشينه، والأَوْلَى بالبكاء من أُخذ عدلاً وبحقٍّ.
ورجل
قُتِل له عزيز فجلس يصرح ويولول، فدخل عليه صاحبه مُواسياً فقال له الرجل:
إن ابني قُتِل ظلماً، فقال صاحبه: الحمد لله الذي جعل منك المقتول، ولم
يجعل منك القاتل.
إذن: سلامة المنطق وخِفَّة البيان أمر مهم، وعلى
المجادل أن يراعي بيانه، وأن يتحين الفرصة المناسبة، فلا تجادل خصمك وهو
غضبان منك أو وأنت غضبان منه. قالوا: مَرَّ رجل فوجد صبياً يغرق في البحر،
فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه، وألقى بنفسه وأنقذ الصبي، ثم أخذ يضربه ويلطمه،
والولد يقول: شكراً لك بارك الله فيك، لماذا؟ لأنه قسا عليه بعد أنْ أنقذه،
لكن ما الحال لو وقف على البَرِّ، وكال له الشتائم وعنَّفه، لماذا ينزل
البحر وهو لا يعرف العوم؟ لذلك يقول الحكماء: آسِ ثم أنصح.
لذلك
يُعلِّمنا ربنا - عز وجل - أصول الجدل وآدابه؛ لأنه يريد أن يُخرِج بهذا
الجدل أناساً من الكفر إلى الإيمان، ومن الجحود إلى اليقين، وهذا لا يتأتّى
إلا باللطف واللين، كما قال سبحانه:{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ... }[النحل: 125].
ويُعلِّمنا سبحانه أن للجدل مراتبَ بحسب
حالة الخَصم، فالذي ينكر وجود الله له جدل مخصوص، والذي يؤمن بوجود الله
ويقول: إن معه شريكاً. له جدل آخر، ومَنْ يؤمن بالله ويقول سأتبع نبيِّ ولن
أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص، والمختلفون معك من أهل مِلَّتك لهم جدل يليق
بحالهم.
مراتب الجدال
إذن:
للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن، فبم جادل الذين لا يؤمنون بوجود إله؟
قال:{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ * أَمْ
خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ }[الطور: 35 -
36].
فأتى لهم بمسألة الخَلْق الظاهرة التي لم يدَّعها أحد، ولا
يجرؤ أحد على إنكارها، حتى المشركون والملاحدة؛ لأن أتفه الأشياء في
صناعاتهم يعرفون صانعها، ويُقرُّون له بصنعته، ولو كانت كوباً من زجاج أو
حتى قلم رصاص، لا بُدَّ أن لكل صنعة صانعاً يناسبها.
أليس مَنْ خلق
السماوات والأرض والشمس والقمر.. إلخ أَوْلَى بأن يعترفوا له سبحانه
بالخَلْق؟ وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنَّا خلقنا أنفسنا، ولم يقولوا
خلقنا غيرنا، فمَنْ خلقهم إذن؟
وقلنا: إن الدَّعْوى تثبت لصاحبها ما
لم يَقُم لها معارض، والحق - سبحانه وتعالى - قال علانية، وعلى لسان رسله،
وفي قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة، وأسمع الجميع: أنا خالق هذا الكون.فإنْ
قال معاند: فَمَنْ خلق الله؟ نقول: الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه.
والحق
سبحانه شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ
إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ... } [آل عمران: 18] ولم يقُلْ أحد أنا الإله. إذن:
الذين ينكرون الخالق لا حَقَّ لهم. هذا في جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود
الله.
أما الذين يؤمنون بوجود الله، لكن يتخذون معه سبحانه شركاء،
فنجادلهم على النحو التالي: شركاؤكم مع الله غَيْب أم شهادة؟ إنْ قالوا:
غَيْب فإن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية. وقال: أنا واحد لا شريك لي،
فأين كان شركاؤكم؟
لماذا لم يدافعوا عن ألوهيتهم مع الله؟ إما لأنهم
ما دروا بهذا الإعلان، وإما أنهم دَرَوا وعجزوا عن المواجهة، وفي كلتا
الحالتين تنفي عنهم صفة الألوهية، فأيُّ إله هذا الذي لا يدري بما يدور
حوله، أو يجبن عن مواجهة خَصْمه؟
فإنْ قالوا: شركاؤنا الأصنام
والأشجار والكواكب وغيرها، فهذه من صُنْع أيديهم، فكيف يعبدونها، ثم هي
آلهة لا منهجَ لها ولا تكاليفَ، وإلا فبماذا أمرتهم وعَمَّ نهتْهم؟ إذن:
عبادتهم لها باطلة.
ثم نسأل الذين يتخذون مع الله شركاء: أهؤلاء
الذين تشركونهم مع الله يتواردون على الأشياء بقدرة واحدة، أم يتناوبون
عليها، كل منهم بقدر على شيء معين؟
إنْ كانوا يزاولون بقدرة واحدة،
فواحد منهم يكفي والباقون لا فائدة منهم، وإنْ كانوا يتناوبون على الأشياء،
فكلٌّ منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الآخر، والإله لا يكون عاجزاً.
وقد
رَدَّ الحق سبحانه على هؤلاء بقوله تعالى: { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ
آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ
سَبِيلاً }[الإسراء: 42] أي: لَذهبوا إليه إما ليُعنِّفوه ويُصَفّوا
حساباتهم معه، وكيف أخذ الأمر لنفسه، وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه.
وفي موضع آخر: { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ... }[المؤمنون: 91].
جدال أهل الكتاب
وبعد
أنْ بينَّا جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله وجدال أهل الشرك نجادل
أهل الكتاب، وهم ألطفُ من سابقيهم؛ لأنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق، ومؤمنون
بالبلاغ عن الله، ومؤمنون بالكتب التي نزلت، والخلاف بيننا وبينهم أنهم لا
يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في حين نؤمن نحن برسلهم وكتبهم،
وهذه أول مَيزة تميَّز بها الإسلام على الأديان الأخرى.
ونقول
لهؤلاء: لقد آمنت برسولك، وقد سبقه رسل، فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده؟ ثم
هل جاء الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الأشياء؟ إنهم جميعاً متفقون على
أصول العقيدة والأخلاق، متفقون على أنهم عباد لله متحابون، فلماذا تختلفون
أنتم؟
فربنا - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ
أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... } [العنكبوت: 46]
لأنهم ليسوا ملاحدة ولا مشركين، فهُمْ مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب، غاية
ما هنالك أنهم لا يؤمنون برسولكم.
لذلك يعترض بعض الناس: كيف يبيح
الإسلام أنْ يتزوج المسلم من كتابية، ولا يبيح للمسلمة أن تتزوج كتابياً؟
نقول: لأن أصل القِوَامة في الزواج للرجل، والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية
مؤمن برسولها، أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة، فالفَرْق بينهما
كبير.
*******************************
من موقع: بناء انسان