باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
تساؤلات وتشكك
دموع البروفسور تنهمر؟
وكيف أجاب عن سؤال: هل لمعاناتنا في الحياة فائدة؟
متى قال: لم أعد أثق في إلحادي؟
في الحلقتين السابقتين من قصة إسلام
بروفسور الرياضيات " جيفري لانغ " تعرضنا لرحلته مع القرآن ومحاوراته
التي كان يدخل فيها بكل جدية، وعرفنا أن قصة خلق آدم عليه السلام أثارت انتباهه
وبدأت تُحدث تغييراً كبيراً في تصوراته، ولكنه كما أخبر عن نفسه بقيت لديه بعض
الشكوك، وخاض مرحلة من المقاومة بحكم إلحاده السابق، فلم يستسلم للقرآن، واستمر في
طرح الأسئلة، واستمرت دراسته للقرآن تأخذ طابع المد والجزر.
وقد تجلى الأمر السابق في قوله: (لقد
مرت علي أوقات وأنا أقرأ فيها القرآن، وأكون على وشك الاستسلام، فأشعر أن كلماته
تغمرني، وأن الله هو الذي يكلمني من خلال هذا الكتاب، ولا أرتبك إن قلت: إني كنت
أتأثر بحيث تنهمر دموعي على وجنتي في مناسبات عديدة، وأشعر أني في حضرة قوة هائلة
ورحمة غامرة، كانت اللحظات الروحية هذه تأخذني دائماً على حين غرة. وكنت أحاول مقاومتها،
وإبعادها عني، ولكنها كانت أقوى من أن تقاوم، وكانت مؤثرة جداً بحيث لا يمكن
دفعها، لذلك كانت مقاومتي تضعف أكثر كلما توغلت في النص، وأتت علي لحظات تيقنت
فيها من وجود الله، عندما كنت أشعر بوجود إله أعرفه، ولكني كنت أحاول نسيانه، لم أعرف
إن كنت في حالة أفضل أو أسوأ لدى قراءة القرآن، ولكني عرفت أني تغيرت، وأني لم أعد
أثق بإلحادي ) ضياع ديني (ص136).
هذه الكلمات النابضة بالصدق والتي
تحكي مرحلة سبقت إسلام "البروفسور" قرأتها عدة مرات إعجاباً بمضمونها ؛
لأن فيها تشخيصاً دقيقاً لحالة "المتشككين" ففي بعض اللحظات يزورهم يقين
هش، لكنه يتفتت سريعاً أمام قوة الشك المترسخ، وهذا الرجل أوصلته تجربته لحالة قل
أن يعترف بها العقل "المتكبر" وهي بلوغ شعور "لم أعد أثق
بإلحادي"، أو بمعنى آخر " بدأت أشك في شكوكي " أو " لم أعد
أؤمن بلا أدريتي "، الاعتراف بهزيمة الشك مرحلة انتقالية مهمة ممهدة للوصول
إلى سماء الإيمان، فالأمور لا تحدث قفزاً أو وفق نظرية حرق المراحل، هناك تدرجات
لابد من التفطن لها، وقد فطن "البروفسور" بذكاء إلى أن القرآن أوصله في
تلك المرحلة إلى عدم الثقة بإلحاده وشكوكه، وهذا كان إنجازاً مهماً.
هل لمعاناتنا فائدة؟
يبدأ البروفسور
" جيفري لانغ " رحلته مع القرآن، وقد اكتشف شيئا مهماً سيغيره جداً،
يقول: استطعت من خلال
دراستي للقرآن أن أرى بوضوح أنه يلح على أن المعاناة عنصر حاسم في ارتقاء البشر
وتطورهم {لقد خلقنا الإنسان في كبد} [سورة البلد: 4]، {ونبلوكم
بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [سورة الأنبياء: 35]، {أحسب الناس أن يتركوا أن
يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت:2]
تأملتُ ذلك فوجدته في الحياة هو من
البدهيات، فلا شيء يحصل مقابل لا شيء فمثلاً: لقد علق مدرب الرياضة بجامعتنا
إعلاناً في غرفة ملابس الرياضيين مفادها: " لا ألم.. لا فوز " بمعنى أن
تحسين الأداء الرياضي يتطلب منا الرغبة في المعاناة.
وقال لنا مدرس الرياضيات ذات مرة: إن
المسائل الصعبة هي التي نتعلم منها أكثر.
لم أشك أبداً في أي من هذه البدهيات ؛
لأنها واضحة وطبيعية، ويشير القرآن أن القانون الطبيعي نفسه ينطبق على التنمية
الروحية، فالكائنات البشرية مخلوقات متفوقة العقل، والعقل لا ينمو إلا بالتعلم،
ولكن التعلم يستلزم الاختبار أي الابتلاء، وهي نقطة يكررها القرآن دائماً. إن
النمو الأخلاقي والروحي يتضمن تدريب إرادة المرء، واستخدام العقل وتنميته، ومعاناة
المحن.
وفي ضوء ما سبق طرح على نفسه هذا
السؤال: أليس الإلحاد من الشر فلماذا لم أولد مؤمناً لئلا أمر بآلام هذه التجربة؟ إن
إنكار وجود الله هو من دون شك من الكبائر، ولكن لأن يعصي المرء ثم يدرك مدى الضياع
والفراغ بسبب آثامه التي أعمت بصيرته، ثم يكتشف الإيمان ؛ لهي خبرة عظيمة رغم
مرارتها ؛ لأن ما مادعاه للإلحاد أصبح الآن أكثر من مجرد تحذيرات، لقد أصبح مع
التجربة والألم دروساً مندمجة مع النفس تقودها للهداية، وما لم نخطئ ثم ندرك
أخطاءنا ثم نصلحها، فإن روحانيتنا سوف تبقى ساكنة دون حراك، إذن الخطأ وإدراك
الخطأ ثم إصلاحه، هي أمور حيوية لتطورنا ونمائنا في هذه المرحلة الدنيوية.
لكن لماذا لم نُبرمج على الخير وعمل
الفضائل؟
لماذا لم يخلقنا الله بالصفات الفاضلة منذ البداية؟
والجواب: من الممكن أن نبرمج الحاسب
ليكون صحيحاً دائماً، ولكننا لا نستطيع وصفه بالصادق أو بالحكيم، وسماعة الطبيب
تساعد المريض، ولكننا لا نستطيع وصفها بالجهاز الرحيم... إن ما يجعل العمل فاضلاً
وصالحاً هو إرادة فعله، واستحسان الحاجة التي يتوجه إليها ذلك العمل، ولهذا جعل
الله الإنسان المؤمن الذي قاوم الإغواء وصبر على الآلام واختار رضا الله هو أفضل
حتى من الملائكة، ولذا أمرهم سبحانه بأن يسجدوا لآدم عليه السلام، فالملائكة مخلوقون
بغير قدرة على الاختيار، لا يعصون الله أبداً، ويفعلون ما يؤمرون به.
ومع كل صحيفة من القرآن أقرؤها تتعزز لدي صورة الحياة بأنها اختبار وامتحان.
لقد أصبح الأمر واضحاً لي الآن بأن
المعاناة ضرورية لنمونا في الفضيلة، وينطبق القول نفسه على العقل البشري والإرادة
البشرية. إذ يؤكد القرآن على كل من المعاناة والعقل والاختيار بصورة متكررة، ويؤكد
أن لها جميعاً أدواراً في تطورنا الروحي، إن عملية تعلم كيفية النمو في الرأفة
مثلاً لا يمكن أن تُدرك من دون المعاناة، وكلما ازددنا نمواً في الرحمة تعاظمت مقدرتنا
على معرفة رحمة الله غير المحدودة، وكلما تعلمنا الصفح والغفران أكثر، ازددنا
مقدرة على معرفة غفران الله وعفوه غير المحدود... إن المعاناة حيوية للعقل
والإرادة لنجرب هذه الفضائل وندركها.
ومع المضي في رحلتنا نجد أن القرآن يشدد على الملامح الثلاثة التالية من مسيرة حياة الإنسان
1. التفكير أو العقل
2. حرية الإرادة والاختيار
3. البلاء والمعاناة
بل القرآن يؤكد بصفة مستمرة وفي آيات كثيرة على أن تطور الإنسان الروحي والأخلاقي يمر بتلك المكونات الجوهرية
- العقل: وهو أداة قياس نتائج اختبارنا والتعلم منها
- الإرادة الحرة: أو القدرة على الاختيار
- المعاناة والشدائد والمحن: وهي لا تقل أهمية عن العنصرين السابقين.
وحتى يتعلم الإنسان أهمية الصدق فإن
هذا يتطلب وجود خيار الكذب وبالتالي: القدرة
على التمييز والاختيار... وهكذا فالحياة هي عملية مستمرة من النماء والفساد، وعلى
الرغم من أن الله يقدم لنا فرصاً عديدة لدرب الهداية إلا أنه يدعنا لنخطئ
فبالتجربة والخطأ، وبإدراكنا لأخطائنا وتسامينا فوقها نتعلم ونتقدم نحو مستوى أعلى
من الصلاح.
ومن أسئلة " جيفري " التي أقلقته وبحث عن إجابتها في القرآن:
هل نحن مزودون بالبيئة والقانون الملائمين لنمونا الروحي؟
وإذا كان الأمر كذلك هل ستكون ملائمة كذلك لو أزيلت الآلام منها؟
كانت كل أسئلته تقريباً تتلخص فيما يسمى بمشكلة الشر، لماذا هذا العالم يضج بالآلام والشرور؟
لماذا يوجد مرض وموت ومصائب وجرائم
وحروب ومعاناة؟
جاء طرحه لسؤاله السابق المكون من فقرتين بعد أن اهتدى إلى أن الله خلق آدم وميزه بالذكاء ومنحه العقل والإرادة الحرة الأخلاقية للتمييز بين الصواب والخطأ، وكم كان رائعاً وهو يفكر بعقلية منهجية في الجواب عن أسئلته، فقد قال: ( إن مفتاح الوصول إلى الحقيقة هو إيجاد الأسئلة الصحيحة، الأسئلة التي تعزل القضايا الجوهرية، فعندما بدأنا تحقيقاتنا كانت أسئلتنا عامة وتحوي أسئلة فرعية في ذاتها، ولكن إن كنا مفلحينفسوف نتمكن من تقسيم بحثنا إلى عدد من الأسئلة التي لا تتقلص و تُختزل، ومن نجيب عنها واحداً تلو آخر. هذا ما ساعدني القرآن على عمله، لم يزودني دائماً بأجوبة واضحة، ولكنه كان يرشدني من خلال عملية التساؤل، وعندما وصلت إلى السؤال المذكور آنفاً لم أتعب في البحث عن جوابه. فالأمر واضح بأننا مزودون ببيئة وقانون ملائمين لنمونا في الفضيلة، وهناك أمثلة كثيرة عنّا... هناك أمثلة عديدة لحالات درامية تتعلق بمجرمين انقلبوا في النهاية إلى صالحين يضرب بهم المثل في الفضيلة، ففي حياتي الخاصة واجهتُ فرصاً عديدة للاختيار بين الصواب والخطأ، عرفتُ بفضلها نتائج الشر المدمرة، ونتائج الخير المعمرة، وعلمت بفضل ملاحظاتي وخبرتي أن السلوك الخاطئ والسلوك الصحيح يغدوان عادة تتأصل في شخصية المرء.
باختصار وتصرف من: كتاب ضياع ديني ص
148 – 150، وكتاب حتى الملائكة تسأل ص 54، وص 103-105
ويقف " جيفري" موقف المراجع لنفسه بعد أن وجد تأثير القرآن وحقائقه عليه، ويسطر لنا ببراعة مثيرة تلك اللحظات، لحظات التردد: إلى أين سينتهي بي المطاف مع هذا القرآن؟
فيقول: ( بدأت دراستي للقرآن كتحقيق منطقي عقلي بسيط، ولكنها بدأت تأخذ بالتدريج أبعاداً روحية، واكتشفت في أثناء قراءتي للقرآن أن مناقشاتي الفسلفية ضد وجود الله - - وكنت أعتقد أنها قوية منيعة - أضعف بكثير مما كنت أظن، وجدت أنها كانت مبنية على مجموعة مقولات لم يقبلها القرآن، ومن جهة أخرى عرض القرآن تفسيراً للوجود البشري قائماً على تصورات لم أفكر بها من قبل أبداً ومع ذلك بدت لي طبيعية إذ اكتشفت تماسكاً ملفتاً للنظر، وعندما تبددت معارضاتي لوجود الله بدأت تنتابني الشكوك بشأن الإلحاد ) ضياع ديني ص 164
وهنا تبلغ الحبكة قمة التعقيد، فماذا بقي في جعبة " جيفري " وصراعه مع شكوكه؟ هذا ما سنحاول اكتشافه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
..............................................................
الكاتب:
خالد بن منصور الدريس
أستاذ
مشارك قسم الحديث في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود بالرياض. ومدير
موقع تعليم التفكير من منظور إسلامي