د. خالد فوزي حمزة يكتب: النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 19 مارس 2021, 8:08 مساءً
  • 1106


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد .. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا رحمة مهداة) [أخرجه ابن سعد والحاكم وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع].

فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين، ولا غرو فقد آمنوا به، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، ولا سيما الصحب الكرام، فقد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).

وهو صلى الله عليه وسلم رحمة حتى للبهائم، فقد جاء عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حايش نخل فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال: من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه) [ومعنى تدئبه: تكده وتتعبه، رواه أبو داود وصححه الألباني]. وأيضاً فقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه قال: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة)، [رواه أبو داود وصححه الألباني].

وهو صلى الله عليه وسلم رحمة للطير، فعن ابن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا يسأله الله عز وجل عنها، قيل يا رسول الله وما حقها قال أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها)، [رواه النسائي والحاكم وصححه، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب]. 

ورسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. لكن يرد السؤال في تفسير هذه الآية أي رحمة حصلت لمن كفر به؟

وقد توارد العلماء على الإجابة عن ذلك بأن الرحمة شملت الكافر بتأخير العذاب، أو بعدم عذاب الاستئصال في الدنيا، أو للنظر في الحكمة، أو نحو ذلك خروجاً من الإشكال.

قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (فإن قيل: فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير: .. وساق السند عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف) [تفسير ابن كثير (5/387)؛ الطبري (18/552)]. وهذه الرواية عن ابن عباس رواها أيضاً ابن أبي حاتم والطبراني، وفيها ضعف [قال الهيثمي في المجمع (7/170): رواه الطبراني وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف جدا،].

كذلك الآيات الأخرى بينت المقصود من الرحمة بالنسبة للكافر، وكذلك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب والآيات في ذلك كثيرة منها: قوله تعالى في شأن نوح عليه السلام وقومه: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) [الأعراف:64]، وقال تعالى في شأن هود عليه السلام وقومه: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [الأعراف:72]، وقال تعالى في شأن صالح عليه السلام وقومه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (*) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 78-79]. وقال تعالى في شأن لوط عليه السلام وقومه: (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (*) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف: 83-84]. فكان بذا صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للعالمين [خصائص المصطفى  بين الغلو والجفاء للصادق إبراهيم (1/36)].

والآيات كثيرة، وأما من السنة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة [أخرجه مسلم]. وهذه الرحمة هي للمؤمن، والمنافق، والكافر. قال القاضي عياض في الشفا: (للمؤمن رحمة بالهداية، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب) [الشفا للقاضي عياض (1/91)]. 

قال المقريزي: (فإن قيل: كيف يكون رحمة للعالمين وقد أنزل بمن عاداه الذل والصّغار، فحطّم بعد الرفعة، وأهانهم بعد المنعة، وصيرهم بعد الملك إلى الهلك، بأن حوى أموالهم، وسبى حريمهم، وملك معاقلهم، وقتل حماتهم، ثم إن أصحابه من بعده دوخوا ممالك الأرض بدعوته، فاجتاحوا العرب من بني حنيفة وغيرهم عند ارتدادهم عن ملته، ومزقوا ملك كسرى وملك فارس، وأذلوا الفرس، وشردوا قيصر ملك الروم عن الشام والجزيرة، وقتلوا الروم والفرس أبرح قتل، وغلبوا قبط مصر وجبروهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بعد ما ملكوا ديارهم وأموالهم بمصر، وأزاحوا البربر عن بلاد المغرب وانتزعوها منهم ومن القوط الجلالقة، فلم يتركوا نوعا من أنواع العذاب حتى أحلّوه بمن ذكرنا من الأمم، وهم سكان البسيطة ومعظم الخليقة من البشر؟.

قلنا: هذا اعتراض من لم ترض نفسه بالحكمة، حتى غفل عن ترتيب حكمة الباري تعالى في مصنوعاته، ولم يعلم ما تعطيه حقائق الأشياء، وذلك أن المحالّ إنما تقبل على قدر الاستعداد المهيأ فيها، وبيان ذلك أن الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه هدى للناس، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]، وهذا عام مطّرد باعتبار القوة والصلاحية، أي في قوته وصلاحيته أن يهدي جميع الناس، وهو عام مخصوص بمن لم يهتد باعتبار الفعل، إذ كثير من الناس لم يهتد به.

ثم وصف تعالى كتابه بوصفين متضادين في وروده على الناس بحسب قبول قلوبهم له على قدر استعدادها، قال تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ من يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125]، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ من الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ من مَكانٍ بَعِيدٍ}  [فصلت: 44].

فانظر أعزك الله؛ كيف كانت عين القرآن واحدة، وأثره في قلوب الناس مختلف، فيزيد المؤمن به إيمانا على إيمانه، ويزداد به الكافر كفرا على كفره حتى يموت كافرا، وانظر كيف تكون شفاء ورحمة لقوم وخسارا لآخرين، وكيف يهتدي به قوم ويكون عمى على قوم؟، وذلك بحسب ما أعطاه الله من الاستعداد والمهيأ للقبول، وقد كشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قناع هذا المعنى ببليغ بيانه: فخرج البخاري ومسلم، وذكر حديث الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به) [متفق عليه]. 

وقال أبو نعيم في دلائل النبوة: فأمَّن أعداؤه من العذاب مدة حياته عليه السلام فيهم، وذلك قوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم [الأنفال: 33]، قلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به [دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 3)]. 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وقال تعالى {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} وقال تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قالوا هو محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا قال قائل: فقد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب كان عن هذا جوابان:

أحدهما: أنه نفعهم بحسب الإمكان فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره فكان ذلك تقليلا لشره والرسل صلوات الله عليهم؛ بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.

والجواب الثاني: أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقصارين ونحوهم وما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيرا مقصودا ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس. 

وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية وهو جواب كثير من المتفلسفة. 

وقال هؤلاء: جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال الله تعالى {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال {الذي أحسن كل شيء خلقه} والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شرا مطلقا وإن كان شرا بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله [مجموع الفتاوى (8/93)].

فعلى كل الوجوه فقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ.د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة 

- المدرس سابقاً بدار الحديث  - والمتعاون مع كلية الحرم بالحرم المكي، وجامعة أم القرى ـ سابقاً - والأستاذ المشارك بجامعتي العلا ومينيسوتا.

تعليقات