د. خالد فوزي حمزة يكتب: تأملات مع آية وحكم

  • أحمد عبد الله
  • السبت 13 مارس 2021, 9:20 مساءً
  • 1074



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد .. فقد قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]. قال ابن كثير: (هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء؛ ثم تتزوج إن شاءت). [تفسير ابن كثير (1/606)]. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: (ولم يختلف أهل اللغة والعلم بلسان العرب أن القرء يكون في اللسان العربي حيضة ويكون طهرا، ولا اختلف العلماء في ذلك أيضا وإنما اختلفوا في المعنى المراد بقوله عز وجل: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]، على القولين المذكورين. [الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (6/128)]

وقال القرطبي: (واختلف العلماء في الاقراء: فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلى وابن مسعود وأبى موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. 

فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر: (كرهت العقر عقر بنى شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح)

فقيل للحيض: وقت، وللطهر وقت، لأنهما يرجعان لوقت معلوم). [تفسير القرطبي (3/113)]

وقال ابن كثير: (وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو؟ على قولين: أحدهما: أن المراد بها: الأطهار، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال الزهري: فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه: ثلاثة قروء فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراءُ؟ إنما الأقراء: الأطهارُ.

وقال مالك: عن ابن شهاب، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك، يريد قول عائشة. وقال مالك: عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها. 

وقال مالك: وهو الأمر عندنا. ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وسالم، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباح، وقتادة، والزهري، وبقية الفقهاء السبعة، وهو مذهب مالك، والشافعي [وغير واحد، وداود وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في الأطهار. ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة

تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان].

واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى: (ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة ... تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا // مُوَرَّثة عدَّا، وفي الحيّ رفعة ... لما ضاع فيها من قُروء نسائكا) يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها.

والقول الثاني: أن المراد بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها. وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة. قال الثوري: عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد وضعت مائي وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر لعبد الله يعني ابن مسعود ما ترى؟ قال: أراها امرأته، ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك.

وهكذا روي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشعبي، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسدي، ومكحول، والضحاك، وعطاء الخراساني، أنهم قالوا: الأقراء: الحيض.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.

ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي، من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعي الصلاة أيام أقرائك" . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال ابن جرير: أصلُ القرء في كلام العرب: "الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم". وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الأصوليين فالله أعلم. وهذا قول الأصمعي: أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض: قُرْءًا، وتسمي الطهر: قرءا، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا: قرءا. [تفسير ابن كثير (1/608)].

قال ابن العربي: (هذه الآية من أشكل آية في كتاب الله تعالى من الأحكام، تردد فيها علماء الإسلام، واختلف فيها الصحابة قديما وحديثا، ولو شاء ربك لبين طريقها وأوضح تحقيقها، ولكنه وكل درك البيان إلى اجتهاد العلماء ليظهر فضل المعرفة في الدرجات الموعود بالرفع فيها؛ وقد أطال الخلق فيها النفس، فما استضاءوا بقبس، ولا حلوا عقدة الجلس؛ والضابط لأطرافها ينحصر في إحدى عشرة مسألة، ثم ذكرها. [أحكام القرآن لابن العربي (1/364)].

وأكثر ما يقع فيه الإشكال فيما تدل عليه الآية من أحكام هو معنى (القرء) وألتقط بعضاً من كلامه ليتبين ما مراده من الإشكال في تلك الأحكام.

قال: (كلمة القرء كلمة محتملة للطهر والحيض احتمالا واحدا، وبه تشاغل الناس قديما وحديثا من فقهاء ولغويين في تقديم أحدهما على الآخر؛ وأوصيكم ألا تشتغلوا الآن بذلك لوجوه؛ أقربها أن أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء الوقت، يكفيك هذا فيصلا بين المتشعبين وحسما لداء المختلفين؛ فإذا أرحت نفسك من هذا وقلت: المعنى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود، فوجب طلب بيان المعدود من غيرها، وقد اختلفنا فيها؛ ولنا أدلة ولهم أدلة استوفيناها في تلخيص الطريقتين على وجه بديع، وخلصنا بالسبك منها في تخليص التلخيص ما يغني عن جمعه اللبيب؛ وأقربها الآن إلى الغرض أن تعرض عن المعاني لأنها بحار تتقامس أمواجها، وتقبل على الأخبار فإنها أول وأولى [أحكام القرآن لابن العربي (1/365)].

ومما ذكره من الأحكام أيضاً: مسألة المفاضلة بين الرجال والنساء، قال: (قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة}: هذا نص في أنه مفضل عليها مقدم في حقوق النكاح فوقها، لكن الدرجة هاهنا مجملة غير مبين ما المراد بها منها ؟ وإنما أخذت من أدلة أخرى سوى هذه الآية، وأعلم الله تعالى النساء هاهنا أن الرجال فوقهن، ثم بين على لسان رسوله ذلك.

وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الدرجة على أقوال كثيرة؛ فقيل: هو الميراث، وقيل: هو الجهاد، وقيل: هو اللحية؛ فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله العظيم.

ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها.

لكن الآية لم تأت لبيان درجة مطلقة حتى يتصرف فيها بتعديد فضائل الرجال على النساء؛ فتعين أن يطلب ذلك بالحق في تقدمهن في النكاح؛ فوجدناها على سبعة أوجه: الأول: وجوب الطاعة، وهو حق عام. الثاني: حق الخدمة، وهو حق خاص، وله تفصيل، بيانه في مسائل الفروع. الثالث: حجر التصرف إلا بإذنه. الرابع: أن تقدم طاعته على طاعة الله تعالى في النوافل، فلا تصوم إلا بإذنه، ولا تحج إلا معه. الخامس: بذل الصداق. السادس: إدرار الإنفاق. السابع: جواز الأدب له فيها. [أحكام القرآن لابن العربي (1/373)].

وعلى كل؛ فكون القرء هو الطهر، أو هو الحيض؛ فالمذهبان مشهوران، ولكل واحد منهما ما يؤيده، والعامي على مذهب مفتيه، والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

ا.د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة 

- المدرس سابقاً بدار الحديث  - والمتعاون مع كلية الحرم بالحرم المكي، وجامعة أم القرى ـ سابقاً - والأستاذ المشارك بجامعتي العلا ومينيسوتا.

تعليقات