د. خالد فوزي حمزة يكتب: تأملات مع آية

  • أحمد عبد الله
  • الخميس 25 فبراير 2021, 06:57 صباحا
  • 1167

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..

أما بعد ..

فقد قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41]، ففي هذه الآية امتنان من الله تعالى على أهل مكة وقريش بحمل {ذُرِّيَّتَهُمْ} في الفلك المشحون، وجمهور المصنفين على أن المراد بالفلك المشحون: سفينة نوح، ومن هنا ظهر نوع إشكال إذ لو أطلقت الذرية على الأبناء، فليس المراد قطعاً بالفلك المشحون سفينة نوح، ولو كان كذلك فما المراد بالفلك حينئذ؟ ومن هنا ذهب من ذهب من المفسرين إلى أن المراد بقوله: {ذُرِّيَّتَهُمْ}: الآباء، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى: ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى: تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح، عليه السلام، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم؛ ولهذا قال: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: آباءهم، {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: في السفينة الموقرة المملوءة من الأمتعة والحيوانات، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين). [تفسير ابن كثير (6/579)].

فاختار رحمه الله أن الذرية هي الآباء ولم يشر إلى الإشكال اللغوي في التعبير عن الآباء بالذرية، ولذا نجد أن من المفسرين من أبى هذا عليه، فقد رده ابن سعدي بقوة، وقال: إن ما ذكره كثير من المفسرين، من أن المراد بالذرية الآباء، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء، بل فيها من الإيهام، وإخراج الكلام عن موضوعه، ما يأباه كلام رب العالمين، وإرادته البيان والتوضيح لعباده. [تفسير السعدي (1/696)]. ولعله أراد بذلك أن الخطاب لمشركي قريش، ولو قيل الذرية هم الأبناء؛ فأبناء مشركي قريش ما حملوا مع نوح عليه السلام.

وقد قال الماوردي: {وآية لهم} ( فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عبرة لهم لأن في الآيات اعتباراً. الثاني: نعمة عليهم لأن في الآيات إنعاماً. الثالث: إنذار لهم لأن في الآيات إنذاراً.

قال: {أنَّا حَملْنا ذُرّيتَهم في الفلك المشحون} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن الذرية الآباء حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام، قاله أبان بن عثمان، وسمى الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء.

الثاني: أن الذرية الأبناء والنساء لأنهم ذرء الآباء حملوا في السفن، والفلك هي السفن الكبار، قاله السدي.

الثالث: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهاً بالفلك المشحون، قاله عليّ رضي الله عنه. [تفسير الماوردى؛ النكت والعيون (5/19)].

قال النحاس في كتابه: إعراب القرآن: (هذه الآية من أشكل ما في السورة لقوله جل وعز: {حملنا ذرياتهم} لأنهم هم المحمولون؛ فسمعت علي بن سليمان يقول الضميران مختلفان والمعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذريات قوم نوح في الفلك.

وفيها قول آخر حسن وهو: أن يكون المعنى أن الله جل وعز أخبر بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذريات والصغار ويكون الضميران على هذا متفقين. [إعراب القرآن للنحاس (3/396)].

وعلى الوجه الثاني فالمراد بالفلك غير سفينة نوح عليه السلام.

وقال ابن سعدي: وهذا الموضع من أشكل المواضع عليَّ في التفسير، فإن ما ذكره كثير من المفسرين، من أن المراد بالذرية الآباء، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء، بل فيها من الإيهام، وإخراج الكلام عن موضوعه، ما يأباه كلام رب العالمين، وإرادته البيان والتوضيح لعباده...

ثم قال: وثَمَّ احتمال أحسن من هذا، وهو أن المراد بالذرية الجنس، وأنهم هم بأنفسهم، لأنهم هم من ذرية بني آدم، ولكن ينقض هذا المعنى قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} إن أريد: وخلقنا من مثل ذلك الفلك، أي: لهؤلاء المخاطبين، ما يركبون من أنواع الفلك، فيكون ذلك تكريرا للمعنى، تأباه فصاحة القرآن. فإن أريد بقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} الإبل، التي هي سفن البر، استقام المعنى واتضح، إلا أنه يبقى أيضا، أن يكون الكلام فيه تشويش، فإنه لو أريد هذا المعنى، لقال: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَاهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون،ِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، فأما أن يقول في الأول: وحملنا ذريتهم، وفي الثاني: حملناهم، فإنه لا يظهر المعنى، إلا أن يقال: الضمير عائد إلى الذرية، واللّه أعلم بحقيقة الحال.

فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى، وذلك أن من عرف جلالة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه، للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله، وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على عباده، من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة، ولم تزل موجودة في كل زمان، إلى زمان المواجهين بالقرآن.

فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن، وذكر حالة الفلك، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في غير وقتهم، وفي غير زمانهم، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية الشراعية منها والنارية، والجوية السابحة في الجو، كالطيور ونحوها، والمراكب البرية مما كانت الآية العظمى فيه لم توجد إلا في الذرية، نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم اللّه تعالى، ونجاهم بالأسباب التي علمهم اللّه بها، من الغرق، ولهذا نبههم على نعمته عليهم حيث أنجاهم مع قدرته على ذلك، فقال: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي: لا أحد يصرخ لهم فيعاونهم على الشدة، ولا يزيل عنهم المشقة، {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} مما هم فيه {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} حيث لم نغرقهم، لطفا بهم، وتمتيعا لهم إلى حين، لعلهم يرجعون، أو يستدركون ما فرط منهم. [تفسير السعدي (1/696)].

وقال القرطبي أن هذه الآية: (من أشكل ما في السورة، لأنهم هم المحمولون!

فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ؛ فالضميران مختلفان، ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن على بن سليمان أنه سمعه يقوله.

وقيل: الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون ذرياتُهم أولادَهم وضعفاءَهم.

فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس، خبر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين.

وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام، فالآباء ذرية والأبناء ذرية، بدليل هذه الآية، قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية، لأن منهم ذرأ الأبناء.

وقول رابع: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون، قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه، ذكره الماوردي. [تفسير القرطبي (15/34)].

وقال الشيخ درويش: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} اختلف في عود الضمير ونرى أن الأصوب أن يكون عاما وأن يكون بمثابة امتنان عليهم بأصناف من النعم منها حملهم في السفن فتكون الألف واللام في الفلك للجنس لا لسفينة نوح خاصة. وآية خبر مقدم ولهم صفة وأنا أن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وأن واسمها وجملة حملنا خبرها. [إعراب القرآن وبيانه (8/190)].

ثم نقل كلام القرطبي المتقدم، ولم يرتضه، بل قال: والقول الصحيح والوجيه ما أسلفناه. [إعراب القرآن وبيانه (8/193)].

وقال الشيخ محمد طنطاوي في تفسيره الوسيط: (والحاصل أن الله تعالى ذكر "نوعا آخر من النعم التي امتن بها على عباده فقال: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

وللمفسرين في تفسير هذه الآية أقوال منها: أن الضمير في «لهم» يعود إلى أهل مكة، والمراد بذريتهم: أولادهم صغارا أو كبارا، والمراد بالفلك المشحون: جنس السفن.

فيكون المعنى: ومن العلامات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، أننا حملنا بفضلنا ورحمتنا أولادهم صغارا وكبارا في السفن المملوءة بما ينفعهم دون أن يصيبهم أذى، وسخرنا لهم هذه السفن لينتقلوا فيها من مكان إلى آخر.

ويرى بعضهم أن الضمير في «لهم » يعود إلى الناس عامة، والمراد بذريتهم آباؤهم الأقدمون، والمراد بالفلك المشحون: سفينة نوح عليه السلام التي أنجاه اللّه تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم.

فيكون المعنى: وعلامة ودليل واضح للناس جميعا على قدرتنا، أننا حملنا بفضلنا ورحمتنا آباءهم الأقدمين الذين آمنوا بنوح عليه السلام في السفينة التي أمرناه بصنعها، والتي كانت مليئة ومشحونة، بما ينتفعون به في حياتهم.

قال الجمل: وإطلاق الذرية على الأصول صحيح، فإن لفظ الذرية مشترك بين الضدين، الأصول والفروع لأن الذرية من الذرء بمعنى الخلق. والفروع مخلوقون من الأصول، والأصول خلقت منها الفروع. فاسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد، وهذا الرأي الثاني قد اختاره الإمام ابن كثير ولم يذكر سواه. [التفسير الوسيط للقرآن الكريم (12/35)].

وعلى كل فكل ما ورد له وجهه، وإنما أردت التنبيه على هذه الأوجه، والقول بأنهم الآباء أقرب عندي، والله تعالى أعلى وأعلم.

والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه:

أ.د. خالد فوزي عبد الحميد حمزة

- المدرس سابقاً بدار الحديث  - والمتعاون مع كلية الحرم بالحرم المكي، وجامعة أم القرى ـ سابقاً - والأستاذ المشارك بجامعتي العلا ومينيسوتا.

تعليقات