فيلسوف.. قصة قصيرة لحاتم السروي

  • جداريات Jedariiat
  • الأحد 04 أغسطس 2019, 4:21 مساءً
  • 1066
الدهشة والحب والبراءة

الدهشة والحب والبراءة

 كان يسير في الشارع ويمد الخطا إذا تأخر وإذا شعر بالظمأ بادر إلى أقرب زير وإذا جاع دخل مطاعم الكشري أو اشترى بيضتين فقلاهما في السمن البلدي، وعندما كان يحصره البول يركض إلى دورة المياه، وكان يضحك ويبكي وتأتيه فورة النشاط فيخال أن لديه القدرة على نقل الجبال من أماكنها ثم ينتابه الكسل فيشعر أنه أضعف من هاموشة. وماذا بعد؟ ما الذي يمكن سرده من خلال يوميات معتادة يعايشها الجميع دونما استثناء، هل تريد الإثارة؟ هل ترغب في المتعة؟ هل تود قراءة حادث جلل غير مجرى حياته؟ لن تجد شيئًا من هذا..

بطل قصتنا يا سيدي ليس هو ذلك الرجل بل ولده الذي خرج من صلبه، وإذا كان الوالد قضى حياته في استقرار يولد الملل؛ فإن حياة الابن كانت مثاراً للتساؤل وأحياناً للشفقة وربما الاشمئزاز.

هو نفسه كان أول من يدرك عيوبه، وأولها شخصيته المتناقضة وخلطه بين الخير والشر، بين الخبث والغفلة، بين الحكمة والنزق، الطاعة والتمرد، التدين والمادية، كل شيء وعكسه، حتى كيانه الذي يغلي كالمرجل أدرك هو ما فيه من قلق وخوف وطموح ونقمة، كان فرداً في قبيلة المبدعين وكان غموضه وقود إبداعه وكانت أطواره المتقلبة دليل صدقٍ على أصالته.

على أنه كان يدرك أيضاً أن عقله لا يستقر على مذهب ولا يرضى برأي ولا يأوي إلى قناعة ولا ترضيه الأفكار إلا إذا تم صبغها بالمنطق واستطاع روادها أن يرتبوها ويصدقونها أولاً قبل غيرهم ثم يترافعون عنها أمام القاضي، والقاضي هو عقله، وهل غيره قاضي؟.

نحن إذن وباختصار أمام فيلسوف، هل تفهم الناس هذا الفيلسوف؟ الفيلسوف أماميَ الآن، ملقى على رصيف بشارع القصر العيني كالح البشرة أشعث الشعر منظره يثير الرثاء بقدر ما يصيبك بالغثيان. إنها نهاية طبيعية لرجلٍ غير طبيعي، وعالم حاول أن يوفق بين الفكر والدين فرماه أهل الدين بالمروق ونعته أهل الفكر بالتخلف، وحاربه الجميع في رزقه وسمعته حتى أنهم عيروه بأصله اليهودي، مع أن الإسلام قد دخل عائلته منذ مائة عام أو يزيد.

كيف رأيته؟ أخبرك بكل صدق وهل في جعبتي غير الصدق، ليس للكذب مكان وأنا أتكلم عن فيلسوف.

في ظهيرة يومٍ ألهبت شمس يوليو بشرته فجعلتها حمراء كالنار، كنت أسير في الشارع بينما العرق يدخل عينيَّ وأنا أغمضهما وأفتحهما في حركاتٍ سريعة ولا إرادية وجدته أمامي وقد أحال الجوع والتشرد جسده فأصبح هيكلاً وقد عهدته رابيَ البدن مكتنز الخدين وكنت أسمع أنه يحب الطعام، لم أعرفه لأول وهلة غير أن إحساساً بدأ يعتمل في قلبي أنني أمام رجلٍ أديب.

دققت النظر فعرفته وشهقت من المفاجأة وتسارعت دقات قلبي وصحت: هل هو أنت؟ هل أحلم؟ هل رأت عيني ذلك الفيلسوف الذي تتلمذت على كتبه؟ الرجل الذي ردني إلى وطنيتي بعد أن كفرت بها، وجمع شملي بأهلي بعد أن كرهتهم، وجعلني أتمسك بديني بعدما لعب الشك في ذهني، الفارس الذي آمن بالغيب وحارب الخرافة. قال أنا هو الحب والطريق. أترانا قتلنا الحب أترانا ضللنا الطريق؟؟.

قم وانهض أيها الفيلسوف، بيتي أنا بيتك وليس لي أحد، يدي ممدودة إليك، خذها ولا تخف، خرجت ابتسامته من بين ركام الطين الذي غطى معالم وجهه وعادت إليه وسامته وأمسك بيدي ونهض.

سرنا معاً في الشارع الطويل وعيناه تشرقان بالأمل، وبعد عشر خطوات وجدنا صاحب البقالة الشهيرة ومعه ولديه يضربان زوكا.

زوكا شابٌ أصابه اللطف، هل تعرف ما هو اللطف؟؟، لطفٌ إلهي سلبه عقله حتى لا يموت قهراً من فساد الأمكنة، زوكا جلدته الظهيرة فراح يستغيث منها بقارورة مياه غازية، وتلقائيًا مدَّ يده إلى الثلاجة وأمسك بالقارورة وراح يجرعها مستمتعًا بطعمها وبرودتها، كان بريئاً بما يكفي لإثارة الكلب الذي يقبع في صاحب المحل، كان طيباً بما يكفي لإذكاء الشر في ولديه.

كان يحب كل الناس ويمد يده ليصافحهم فيأنفون من هيئته لكنه لا يحرمهم من ابتسامته الطفولية الرائعة.

رأيت ثلاثتهم يضربون زوكا، حاولت أن أخلصه من براثنهم، لا فائدة، شعرت أن ثمة مخالب تنهش أوتار قلبي، أصابني الوجوم ورحت أقلب كفًا على كف وأقول عليه العوض ومنه العوض.

لم يحتمل فيلسوفنا المشهد، وترنح جسده الذي فقد توازنه وارتمت جثته على الأسفلت، أقبلت عليه في لهفةٍ وجسدي يرتعش وجعلت أهزه بقوة، لكن الحياة فارقته أو فارق هو الحياة.

واصطحبت جسده إلى منزلي وقمت بتغسيله مع جيراني، وجدناه ملاكاً نائماً وعلى فمه شبه ابتسامة وقد رد الموت جمال قسماته وبدا كأن هالةً من نورٍ تحيط به.

دفنته في مقابر عائلتي وكنت كلما أرهقتني الحياة بين الناس وما فيها من العبث والعَتَه والإفك والحقد والغدر والغباء أذهب إلى قبره فتهب عليَّ نسمات الشعر والفكر والأدب وتمدني روحه بزادٍ من الجمال، أقتات عليه مدة أسبوع ثم أعاود الكرَّة.

واليوم ها تراني أمامك وقد وهن العظم مني وصالت في ملامحي تجاعيد الزمان واشتعل رأسي شيبا، هل تود أن تعرف أمنيتي؟ أمنيةٌ أرفعها إلى الله، ودعاءٌ حار أن يخرج من ظهور القطيع فيلسوفًا، لطالما سمعت أن الفلاسفة يُخلقون في الزمان الرديء، وهل أسوأ مما نحن فيه؟!.

نحن نسير في الشارع، نأكل الفول كل صباح، نعالج أنفسنا من أمراض المعدة، نشرب من الكولدير، نرى الخلق يتخطفون الهواء ويركضون خلف عربات الوهم، نشاهد برامج اللغو في أول الليل وتخرق الآذان صيحات عمرو أديب وهو ينادي على البطيخ، ثم تراني ألقي جسدي على فراشي وأفتح النافذة وأتملى في وجه القمر وأطلب من الله فيلسوفا.

تعليقات