حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
مقال: مشكلة الشرّ: صخرة الإلحاد تحت المجهر
الحديث في «مشكلة الشر» مسألة قديمة، لكنها في الوقت الحالي أصبحت شبهة مركزية في دعم الإلحاد، وتناولها في هذا المقال سيكون استنادًا إلى قطعيّات الكتاب والسنة، من خلال منطلقها الرئيس فيما يتعلق بالكمال الإلهي، ودرء التعارض المطروح بين كمال صفات الخالق سبحانه ووجود الشر، مع الإجابة عن العديد من التساؤلات المتفرعة من هذه الشبهة.
مقدمة:
في خضمِّ ما يقع على المسلمين اليوم في شتى بقاع الأرض، مِن قتل وتعذيب وتشريد، واضطهاد وظلم واستعباد، يعود من وفَّقهم الله إلى توجيهات الوحي للتَّثبيث والتطمين، وبيان الموقف الذي يجب أن يتَّخذوه من هذه المصائب، وكيفية التعامل معها، فتسكن قلوبهم، ويكونوا من الذين قال الله فيهم: ﴿أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٧].
لكن الشيطان قد ينزغ في قلوب آخرين، فيوقع في قلوبهم الحيرة والشكَّ قائلًا لهم: «ترون كلَّ هذه الشرور والمصائب والكوارث تقع، وكيف يعيث الظَّلَمة في الأرض فسادًا وتخريبًا، فهل يستوي عقلًا أن يقع كل ذلك مع وجود الله؟! أما كان له أن يمنع كل ذلك، ويجنب المسلمين بل والبشرية جمعاء هذا الظلم والقهر؟!». ثم إذا نجح في إيقاعهم في شباكه وبث الشك فيهم أجابهم: «لا يمكن ذلك إلا باحتمالين، إما أن تكون صفات الكمال ناقصة أو منعدمة في هذا الرب، أو أن يكون وجوده معدومًا بالكلية!»، ويزيد قائلًا: «وجود الشر في هذا العالم يتنافى مع أن يكون هذا الربّ عليمًا؛ لأنّ علمه يقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود، ويتنافى مع أنه قدير؛ لأن قدرته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود، ويتنافى مع أنه رحيم؛ لأن رحمته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود. ولذلك فإنّ وجود الشر ينفي وجود هذا الإله الذي لا يمكن أن يفتقد الصفات الثلاث السابقة جملة»[1].
تُعرَف هذه المشكلة بـ «مشكلة الشر»، وهي من أشهر المشكلات القديمة المتجدِّدة التي يطرحُها الخطاب التشكيكي الإلحادي، حتى إنَّه يُطلق عليها عند البعض «صخرة الإلحاد» كونها واحدةً من أقوى الشبهات المركزية التي «تدعم» فكرة الإلحاد بزعمهم. وفي المقابل طُرحت الكثير من محاولات الإجابة عن هذه الإشكالية من الكثير من الشخصيات على مختلف مذاهبهم ومعتقداتهم، وتباينت مسالكهم في ذلك.
وهذا المقال إسهام في تقديم إجابة مختصرة، بالاستناد إلى قطعيات الدين من الكتاب والسنة.
لا تعارُض بين وجود الله ووجود الشر:
ينطلق منكرو وجود الله بناء على «مشكلة وجود الشر» من ما يعرف بـ(مشكلة الشر المنطقية)، والتي تُطرح بالتسلسل التالي: «لا يستقيم منطقيًا أن يسمح الإله الكامل بوجود الشر، فبما أنَّ الشر موجود، فإذن: الإله غير موجود».
وهو تسلسلٌ هشٌّ مُضطرب، أقرَّ باضطرابه الملاحدة أنفسهم. كما ذكر الفيلسوف الأسترالي جي. إل. ماكي: «فالاحتجاج بوجود الشر لنفي وجود الخالق يعد قفزة غير منطقية واستنتاج خائب»[2]. ويعود ضعف هذا الاستدلال للأسباب الآتية:
"يختزل الملاحدة تصوُّرهم للكمال الإلهي في عددٍ من الصفات، ويفهمونها وفق تصورٍ فاسد، ثم يستنتجون وجوب منع وقوع الشر بالكلية، مغفلين وجود حِكم وجوده وأسبابها"
والرد على ذلك: أنَّ الكمال الإلهي يشمل اتصاف الإله بهذه الصفات وغيرها، كالحكمة والخبرة والعدل، وكل صفة منها لها آثارها ومقتضياتها، وهي متكاملة فيما بينها. بالإضافة إلى صحة فهم معاني تلك الصفات على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، وبناء على هذا التصور الصحيح الكامل تكون النتيجة: أنَّ وجود الشر ليس قادحًا في الكمال الإلهي، بل قد يقدّر الإله وجود الشر لحِكم وأسباب هو أعلم بمدى صلاحيتها وخيريتها، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وفي المحور القادم مناقشة أكثر تفصيلًا لإثبات عدم تعارض كمال صفات الله مع وجود الشر.
لا تعارُض بين كمال صفات الله من علم ورحمة وقدرة، ووجود الشر:
وبيان ذلك كما يلي:
١- لا تعارُض بين علم الله وعدم منعه للشر:
فالقول بالتعارض بين علم الله ووجود الشر ناشئٌ عن قصورٍ في معرفة حِكَم الله سبحانه والغاية من خلق الحياة. فالحكمة الأساسية هي ابتلاء الناس واختبارُهم، وذلك لا يكون إلا بوجود الشر، ليحصل الصراع بينه وبين الخير، ويتدافع الحق والباطل. وأظهرُ الأدلة على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: ٢]، وقوله: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، والأدلة على ذلك كثيرةٌ منثورةٌ في القرآن والسنة.
فالغاية من خلق الحياة كما أخبر الله سبحانه ليست التنعّم الأبدي، ولا الخلود والركون للدنيا، ولا السعي وراء الملذّات والشهوات، بل العمل للآخرة، فكون الابتلاء هو الحكمة من الحياة يقتضي عدم دوام النعيم في الدنيا، ويقتضي أيضًا عدم خلوِّها من المنغّصات والشرور، كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: ١٥٥].
"ادّعاء التعارُض بين علم الله ووجود الشر؛ مبنيٌّ على مقدمةٍ خاطئةٍ بأنَّ الله خلق الحياة للنعيم الأبدي، والصواب أنَّ الله خلق الحياة للابتلاء الذي لا يمكن أن يقع إلا بوجود الشر."
وهنا يتبيَّن مكمن الخلل في ادّعاء التعارُض بين علم الله ووجود الشر؛ إذ هو مبنيٌّ على مقدمةٍ خاطئةٍ بأنَّ الله خلق الحياة للنعيم الأبدي، وبالتالي فعلى الإله أن يمنع وجود أي شرٍّ ينغّص على هذا النعيم الذي خلق الحياة لأجله، فإن لم يفعل فإما أنه غير موجود، أو غير كامل الصفات!
والصواب أن الله الذي خلق الحياة للابتلاء لا يخفى عليه وجود الشر الذي لا يُمكن الابتلاء إلا به.
.......................................................................
الهوامش
المقال من موقع "على بصيرة"
[1] مشكلة الشر ووجود الله، د.سامي عامري، ص (٢٢).
[2] كتاب «evil and omnipotence» ص (٢٠١).