باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
الانتحار
للصدفة الكثير من النقاشات الفلسفيَّة، لكنْ في نطاق الإلحاد تكتسب أهميَّةً خاصَّةً؛ حيث هي التفسير الذي يستطيع المُلحد قوله أو خداع نفسه به ليفسِّر هذا الكون الضخم والضبط الدقيق الذي يحكمه.
وهنا يُعرِّف الكاتب الصدفة بأنَّها فراغ تفسيريّ في الذهن عند المُلحد، أو هي طريقته لإنهاء النقاش فيما يعجز عن تفسيره، ويشبه عملُها عنده عمل السِّحر عند العوام أو هذا القول الأبله الذي يُردَّد من قِبَل بعض المُلحدين عن الكون واتفاقاته المُحكمة أنَّه “حدث صدفةً”، “هكذا دون سبب”.
والحقيقة أنَّ الصدفة -أو ما يُسمَّى صدفة- هي أعمال تدبيريَّة للكون من إله حكيم عليم، وليستْ فجوات في التصرُّف الإنسانيّ أو الكونيّ. ولا يمكن للصدفة -بمفهوم الإلحاد- تحت أيّ تصوُّر أنْ تكون عِلَّة أو مُحرِّكًا. والعجيب أنَّ كثيرًا منهم يؤمن أنَّ مزيدًا من الفهم والتعلُّم سيُكسب الأمر الذي كان يعتقد أنَّه صدفة فهمًا ويكشف حقيقته؛ وهذا دليل منه على بُطلان مفهوم الصدفة وأنَّه فعل حكيم لمْ يفهمْه بعد.
أحببت التنويه هنا عن هذه الفكرة خاصَّةً لأنَّ كثيرًا مِنَّا يستخدمها عفوًا دون معرفة بهذا الجانب الفكريّ العميق -للصدفة تصوُّرات أخرى أشدّ صعوبةً-. والأفضل أنْ نستخدم كلمة قَدَرًا لا صدفةً فنقول -مثلًا: قابلتُك قَدَرًا لا قابلتُك صدفةً. والأهمُّ من الكلمة هو اعتقادنا الراسخ أنَّ حياتنا ذات حِكمة مُقدَّرة من الله، وهذا ينقلنا إلى مفهوم عظيم هو “معنى الحياة”.
تصوُّر معنى الحياة يتوقَّف على المنظومة الفكريَّة التي يتبعها الإنسان؛ فكلُّ منظومة فكريَّة تُعطي للحياة معنى ومضمونًا يختلف بشدَّة في جوهره، وبالتبعة يُشكِّل رؤيةً وسلوكًا مُختلفًا بالنسبة للإنسان نفسه. فمثلاً الإلحاد الذي كان عليه مدار الحديث لا يترك للإنسان التابع لأفكاره تصوُّرًا واضحًا عن الحياة وتفسير وجودها، ومعيشة الإنسان فيها؛ لأنَّه لا يملك الجواب عنه بسبب إنكاره لفكرة المُوجِد لهذا الكون الباعث لتلك الحياة.
وبغضّ النظر عن تفصيلات فلسفيَّة يجد المُلحدُ نفسَه أمام تصوُّرات عن الحياة تتراوح بين الفراغ من الهدف والمعنى، وبين اعتقاد الشُّؤم والظُّلم في وجوده في حياة لا يريد الوجود فيها، وبين صناعة أهداف لنفسه بنفسه منها النجاح في الحياة أو حيازة الثروة التي تنتج على الأمد البعيد الشعور بالضياع نفسه.
ويورد لنا الكاتب تقريرًا لمركز عيادة كليفلاند الذي صنَّفَ الانتحار ضمن الأسباب العشرة الأولى للموت في “الولايات المتحدة الأمريكيَّة“! مُتوقِّعًا أنَّ نسبته ستزيد في القادم من الزمن، وأنَّ نسبة الانتحار زادت 25% بين عامَيْ 2016:1999م.
هذه الإحصاءات المُريعة تطلعنا على مركزيَّة قضيَّة المعنى وراء الحياة بالنسبة للإنسان. ولكثرة هذه الحالات في مجتمعنا المُعاصر يشير الكاتب إلى إنشاء حقل من العلاج النفسيّ يُسمَّى “العلاج بالمعنى” والذي يرى أنَّ كثيرًا من أمراضنا دواؤها هو شعور المريض بمعنى وهدف.
يتبيِّن لنا أهميَّة شعور الإنسان بمعنى وهدف وراء حياته، وأنَّ ضياع هذا الشعور يؤدي بالإنسان إلى الاختلال حتمًا.
ولعلَّنا هنا نتذكَّر حالات كثيرة لانتحار المُلحدين -وللأسف رأينا منها حالات في مجتمعاتنا الإسلاميَّة- الذين لا يرون وراء الحياة معنى؛ مِمَّا يؤدي بهم إلى حالات عدميَّة وسوداويَّة كثيفة لا تُطيقها النفس البشريَّة ولا تحتمل الحياة في ظلِّها. فلا تجد هذه النفس الحائرة إلا التخلُّص من هذا العبء الثقيل الذي يُدعى الحياة.
ودعوني أوضِّح لمَن لمْ يستطع أنْ يحدِّد بدقة ما معنى مصطلح “معنى الحياة”؟ .. معنى الحياة يتمركز حول اقتناع الإنسان أنَّ وراء وجوده في الحياة ووراء الحياةِ نفسِها مُدبِّرًا، وأنَّ لحياته ولتفاصيلها ولأعاجيب المواقف التي يتعرَّض لها من توزيع الأرزاق ومواعيد الموت وكيفيَّاته، وبعض الأفعال التي يراها تنتسب للشَّرّ -ظُلم وخيانة له أو لغيره، صادرة منه أو من غيره- أنَّ وراء كلّ هذا تدبيرًا وحِكمةً لا فوضى وعبث.
ويعني أيضًا -اعتمادًا على الخطوة السابقة- وجود هدف مطلوب من الإنسان تحقيقه، وبالتبعة وجود ميثاق حياة أو أخلاق نسير وفقها وتحدِّد أفعالنا ووجهتنا، وهذا كلُّه يعني جزاءً بعد الموت. وافتقاد أيِّ من هذه الكُلِّيَّات يُحدث شرخًا ضخمًا داخل الوجود الإنسانيّ ويجعل الفرد مُتخبِّطًا تائهًا ما بين عدميَّة لا يرى فيها جدوى من أيّ فعل، وما بين ألوهيَّة خاصة بنفسه يصنعها هو عن طريق قوَّته. وكلاهُما عبث محض، وهذا باختصار ما أستطيع تبيينه في ثنايا الحديث.
نعود للكتاب فنجد أنَّ الكاتب رتَّب معاني بعضها بعد بعض وهي في شمولها تصنع رؤية للحياة ومعنى لها وللوجود الإنسانيّ. جعل ركيزتها الأولى مفهوم التوحيد الذي يُوحِّد كلَّ مصادر السلطان بيد الله الإله الواحد الأحد، والذي هو الخالق للإنسان ولكونه، المُدبِّر له ولكونه، وأنَّه الذي ستؤول إليه الحياةُ وكلُّ البشر في نهاية المطاف. مِمَّا يعني أنَّ دنيا الله ليست عبثًا وليست هَمَلاً متروكةً بلا رعاية ولا عناية ولا تدبير، بل كلُّ ما فيها يعلمه الله ويدبِّره. ومن هُنا يطمئن الإنسان للحِكمة التي يرى مظاهرها في الكون.
ومن هذا كلِّه نجد مفهومًا مركزيًّا آخر هو مفهوم العبادة لله وحده لا غيره.. والذي يعني أنَّ الله خلق الإنسان ليستهدف الله في كلّ أفعاله دون استثناء، وهذا معنى يُغيِّر حياة الشخص تحت عباءة الإسلام تمام التغيير. وينتج عنه مفهومُ الحُرِّيَّة التي يتمتع بها الإنسان حيث يستطيع بمحض إرادته أنْ يعصي الله خالقه أو أنْ يفعل غير ما أمره، مع علمه بحسابه فيما بعد.
ومن هذا أيضًا نرى فكرة الميثاق الأخلاقيّ الإنسانيّ الذي يُفسِّره المُؤلِّف بآية الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) -الأحزاب 72-. فهي القانون الأخلاقيّ الذي يرتفع بالإنسان. وكذلك يأتي مفهوم تكريم الإنسان في الإسلام.
وفي الإسلام الإنسان هو أحد أشكال الحياة لا شكلها النهائيّ الفريد، وهو أحد الأشكال التي قد يستبدلها الله بإرادته وأمره. ولا يمثِّل أمر اقتراب الإنسان وهيئته الجسديَّة والتكوينيَّة -الآفاق التي تتخذها نظريَّة التطوُّر– شيئًا بالنسبة لأخلاقيَّتهم. التي يقوم بها الارتباط بين الإنسان وأخيه وبين الإنسان وكونه على فكرة القانون الأخلاقيّ، ومفهوم الثواب والعقاب، وبحُكم العدالة التي يُقرُّها وجود الإله العظيم.