حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه..
أما
بعد .. فمع
بدايات ظهور البنوك الإسلامية في السبعينيات من القرن الميلادي السابق؛ والبحوث
الإسلامية تزداد في طرق التمويل غير الربوي، وهو راجع إلى أن تكييف عمليات البنوك
إنما هي بين القرض والإقراض، والقرض في الشريعة هو عبارة عن عقد ارتفاق، وليس من
عقود المعاوضات، ولذا فلا يصلح القياس عليه في المعاوضات، وبصورة أيسر؛ فإنه لا
يجوز في القرض أن يقرضه شيئاً ويشترط عليه أن يرد أفضل منه، أو يشرط عليه نفعاً
ما، نحو أن يسكنه داره؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن
موضوعه. فالقرض
خولفت فيه ثلاث قواعد شرعية: الأولى: قاعدة الربا: إن كان القرض في الأموال الربوية (وهي المكيلات والموزونات
عند الحنفية والحنابلة [في الأصح] والنقدان، أو الاقتيات
عند المالكية، والنقدية، أو الطعم عند الشافعية والنقدية)، والثانية: قاعدة المزابنة: وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، إن كان القرض
غير المثليات كالحيوان ونحوه. والثالثة: قاعدة بيع ما ليس عند الإنسان: إن كان القرض في المثليات، والسبب في هذه المخالفات
هو مراعاة مصالح الناس والتيسير عليهم في القيام بصنائع المعروف، ولذا يحرم القرض
إن لم يكن القصد منه عمل المعروف كتحقيق منفعة للمقرض مثلا.
ويمكن
أيضا أن يقال: إن
الفرق بينهما أن القرض تبادل متجانسين والبيع تبادل مختلفين، والقرض عقد إرفاق والبيع عقد معاوضة،
والقرض فيه معنى المعاوضة من حيث أنه يرد مثله، ولكن المعاوضة فيه ناقصة، ويكملها
ثواب الله ويزيد، أما البيع فهو معاوضة كاملة في إطار الدنيا، والربا في القرض
مؤكد مستيقن، والربح في البيع احتمالي، سواء كان البيع معجلا أو مؤجلا، والقرض نشاط تمويلي ربوي منفصل، والبيع
المؤجل نشاطه التمويلي تابع للنشاط التجاري، ثم إن المشتري إذا لم يسدد الثمن لم تجز أي زيادة عليه بعد الاستحقاق
أي يصير في ذلك كالقرض. وما حال به بعض الباحثين
من القول بالتفرقة بين القرض الاستهلاكي، والقرض الإنتاجي، وهو ما يعبر عنه بعضهم
الآن بالتمويل، فهو بعيد، لعموم النصوص الواردة في تحريم الربا فإنها لم تفرق بين
ربا قرض استهلاكي وربا في قرض إنتاجي. ثم الواقع التاريخي
للقروض الجاهلية فقد كان أغلبها قروضاً استثمارية، وقد كانت للعرب في الجاهلية طريقان
لاستثمار أموالهم: القراض بأن يدفع المال إلى من يتجر فيه جزء من ربحه، أو القرض بأن
يدفع المال بزيادة ربوية ثابتة محددة ابتداءً، فجاء الإسلام فأقر الأولى وأبطل
الثانية.
وبعضهم
يظن أن التحريم في الربا يقتصر على الربا الفاحش لا ربا الاستغلال، وبعضهم يرى أن
اعتبار الفائدة البنكية إنما مقابل النفقة والمؤونة، وبعضهم يكيِّف ودائع المصارف
أنها من باب المضاربة والمشاركة، وكل هذا غير صحيح، بل التكييف الفقهي الصحيح لهذه
الودائع أنها قروض إلى المصارف، لأن حقيقة القرض تمليك للمال على أن يرد بدله،
والمصرف يخلط الودائع بأمواله ويتصرف فيها تصرف الملاك ثم يرد بدلها عند الاقتضاء،
ولما كانت العبرة في العقود للحقائق والمعاني وليس للألفاظ والمباني فإن الودائع
المصرفية هي قروض في الحقيقة وإن أطلق عليها غير ذلك، وتكييف الودائع على هذا
النحو متفق عليه في القانون. وقد تناولت ذلك بالتفصيل
والأدلة في رسالتي الدكتوراة (تأصيل وتخريج النوازل في المعاملات الاقتصادية
المعاصرة وأثر اختلاف النظرة الفقهية في الحكم عليها دراسة فقهية مقارنة)، والحمد لله.
ثم
وجدت المصارف الإسلامية في جواز بيع المرابحة مجالاً ومساغاً عن المعاملات
الربوية، وذلك فيما اشتهر باسم: (بيع المرابحة للآمر
بالشراء) أو (الوعد بالشراء مرابحة)، لكن ظهرت بعض الموانع
التي منعت من إجراء المرابحة في البنوك وهي تعود إلي أمور، ومنها: أن المرابحة ليست بيعا
ولا شراءً، وإنما هي حيلة لأخذ الربا، وهي أشبه بالعينة أو منها؛ أو هي بيعتان في
بيعة، أو تدخل في النهي عن بيع ما لا يملك وهو ممنوع، أو أن فيها الزاما بالوعد
وهو إيجاب لم يوجبه الله.
ومع
محاولة وضع الضوابط لتكون هذه المعاملة البنكية معاملة شرعية، إلا أن العلماء
جعلوا يبحثون عن بديل تمويلي، ليس فيه هذه المحاذير، ومن هنا اتجهت الأنظار إلى
بيع التورق، وهو يشبه المرابحة من وجوه، والتورق أن يشتري سلعة لا بقصد الانتفاع
بها بل ينتفع بقيمتها، فيشتريها آجلاً، ويبيعها عاجلاً، والفرق بينها وبين العينة
أن يبيعها من غير من اشتراها منه، وسميت هذه المسألة بمسألة التورق لأن المقصود
منها الورق.
والتورق
المصرفي: أن
يقوم البنك بشراء سلعة لعميل، ثم يشتريها منه العميل آجلاً برهن توثيقي، ويوكله
العميل في بيعها، فيبيعها البنك لصالح العميل عاجلاً، بسعر أقل من سعر البيع،
وبالتالي يحصل المال للعميل، وعليه قيمة السلعة للبنك. وعقدت المؤتمرات واستكتب
الباحثون للنظر في شرعيتها بين المنع أو الجواز ووضع الضوابط لهذه المعاملة عند من
يرى جوازها، والخلاف بين المجيزين والمانعين يرجع في حقيقته إلى الخلاف في تكييفه.
فالمجيزون يرون أن هذا التورق هو مساوٍ في حقيقته للتورق الفردي، فهو شراء من
طرف وبيع لطرف ثالث، وليس في الشرع ما يمنع من أن يكون البائع الأول وكيلاً في
البيع الثاني؛ فإن الوكالة جائزة، واشتراط مال في الوكالة جائز، ومعونة المسلم في
بيع سلعته من الأمور المطلوبة شرعاً، فهو من أبواب الخير.
ثم
الابتعاد عن الربا ليس معناه قفل كل أبواب البيع الجائز، بل الابتعاد عن الربا
يجعل الإنسان يحتال بالحيل الشرعية التي تبعده عن الربا وتوصله لمقصوده، فإنه لما
كان بلال يشتري التمر الجيد ويدفع مقابله الرديء مع التفاضل، نهاه النبي r وقال (عين الربا)، ثم أمره بأن يجعل براً
أو شعيراً وسيطاً بين التمر الجيد والتمر الرديء. فالتوجيه للمصارف بهذا هو
من السنة. بل
لم يشترط أن يكون الشراء الثاني من البائع الأول أو غيره، وهو مستند من أجاز
العينة من العلماء. ثم إذا كانت عقود السلم والتحويل وسائر البيوع قد بني على شروطها
وأحكامها الشرعية كل العمليات البنكية المشابهة لها، من السلم المصرفي والتحويلات
المصرفية والبيوع البنكية، فلماذا يفرق إذاً بين التورق الفردي والتورق المصرفي؟؟
فتكييف التورق المصرفي بالتورق الفردي هو المعتمد.
والمانعون يمنعون التورق المصرفي بتكييفه أنه عِينة، والعِينة هي أن يشتري من
شخص سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها له بثمن حال أنقص منه، والعينة محرمة في أظهر قولي
العلماء، يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (3/92): (فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل
فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما في السلعة
بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا
فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة، لا في شرع ولا في عقل
ولا عرف، بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد
منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص).
لكن
صورة التورق المنظم ليست مطابقة للعينة في الظاهر، لأن العينة تكون بين شخصين،
فالمشتري يشتري ثم يبيع لشخص واحد، وفي مسألتنا فالعميل يشتري من البنك لكنه يبع
لثالث، لكن لما كان العميل يوكل البنك في أن يبيع له، والوكالة عامة بتصرف البنك،
فكأنما باع المشتري للبنك وليس لثالث، ولذا قاموا بتكييفها أنها عِينة وحكموا
بتحريمها. فمعنى
ذلك أنك إذا وكلت البنك في أن يشتري لك ويبيع عنك فهو التورق الحرام. ولو اشتريت منه ثم بعت له
فهو التورق الحرام، أما إذا اشتريت السلعة ثم استلمتها، ثم ذهبت تبحث لها عن مشتر
لا علاقة له بالبنك فهو التورق الجائز.
ويمكن
النظر بتكييف آخر،
للمنع أيضاً أنه من باب الربا، فالربا الصريح هو بيع ربوي بجنسه متفاضلاً، ومنه
ربا القرض. إلا
أن أبواب الحيل المحرمة على الربا من باب الربا أيضاً، وقد سبق في تكييف المانعين
أنه من العِينة، وأن العينة من البيوع التي فيها تحايل على الربا كما قال فقيه
الأمة ابن عباس (دراهم بدراهم بينهما حريرة).
أو
أن هذه الصورة المصرفية ليست من ربا البيوع كالعِينة بل هي أشبه بما يقال له مسألة
(مد عجوة)، لأنه لا سلعة وسيطة في
حقيقة الأمر، فهو بيع الربوي بجنسه بنوع حيلة، يقول شيخ الإسلام كما في الفتاوى
الكبرى (4/19): (مسألة مد عجوة،
وضابطها أن يبيع ربويا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، كمن يكون غرضهما
بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك، فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر، حتى قد يبيع ألف
دينار في منديل بألفي دينار، فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت
مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك وأحمد ونحوهما، إنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل
من الكوفيين، وإن كان قدماء الكوفيين كانوا يحرمون هذا). والتورق المصرفي في هذه
الحالة شبيه بمد عجوة، لأن السلعة المتورَق عليها ليست حاضرة في البنك، ولا يحصل
لها القبض الشرعي، ولا يعرف عينها وصفتها العميل، بل ربما لا يعلم عنه الكثير كمن
يتورق على معادن كالفوسفات ولعله لم يره في حياته. فهو في الحقيقة يبيع
ويشتري على الورق، وليس في ذلك حقيقة البيع أو الشراء، بل هي دراهم بدراهم بينهما
ورق واستمارات البنك، فهو الربا المحرم الذي نهى الشرع عنه. غير ما يعتري التورق
غالباً من بيع ما لا يملك.
وبعض
البنوك يخرج التورق بمخرج جيد،
فيقوم البنك بشراء قطع معادن كالتيتانيوم، وكل قطعة عليها الرقم التسلسلي، ويبقيها
عنده في مخازن البنك، فيتملكها بذلك، فيأتي العميل ويشتريها آجلاً بمائة مثلاً،
وتنتقل السلعة بأرقامها التسلسلية إلى العميل، ثم البنك بوكالة العميل يبيعها في
البورصة لصالح العميل لبعض الشركات التي تتعامل بذلك، بالسعر الذي يراه العميل
واتفق عليه، وليكن ثمانين مثلاً، فتنقل السلعة بأرقامها التسلسلية إلى الشركة
المشترية، وتنزل الثمانون في حساب العميل، وعليه للبنك مائة مؤجلة. فهنا البيع والشراء
حقيقيان، فالقاعدة عندي: أن انتقال الضمان يصير
العقد الصوري حقيقياً [وهي إحدى القواعد التي
كانت من نتائج رسالتي الدكتوراة]، وبالتالي فلا يعيب هذه الطريقة شيء مما ذكره
المانعون، إلا أنه يعتورها أمران:
الأمر
الأول: قبض
السلعة، فإن في الحديث (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم
يضمن ولا بيع ما ليس عندك) [رواه أصحاب السنن وصححه
الألباني]، ومعنى ربح ما لم يضمن
ربح ما بيع قبل القبض، فالبيع باطل، وربحه لا يجوز؛ لأن المبيع في ضمان البائع
الأول، وليس في ضمان المشتري منه، لعدم القبض، والقبض يكون بالحوز إلى الرحال
للحديث (أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). والعميل لم يأخذها من
مخازن البنك.
لكن
يمكن يجاب عن هذا بأن الخلاف واقع بين العلماء فيما دل عليه الحديث:
-. هل هو عام في كل شيء لقول ابن عباس رضي الله عنه: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) [متفق عليه]، أي مثل الطعام. ولرواية (نهى أن تباع السلع حيث
تبتاع). ففيه
العموم في لفظ (السلع).
-. أو أن الحديث مختص بالطعام، لأنه وارد في الطعام
فقد قال ابن عمر رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينهون أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم) [متفق عليه]، أو بالطعام والمنقولات،
وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف بيع العقار قبل قبضه استحسانا، ثم عدم الصحة هنا عند
الحنفية هو الفساد لا البطلان.
ومذهب
المالكية أن المحرم المفسد للبيع، هو بيع الطعام دون غيره من جميع الأشياء قبل
قبضه لغلبة تغير الطعام دونما سواه، قال ابن عبد البر:
"الأصح أن الذي يمنع من
بيعه قبل قبضه: هو
الطعام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم {نهى عن بيع الطعام قبل
قبضه} فمفهومه
إباحة ما سواه قبل قبضه"، وهو المجمع عليه فقط، قال ابن المنذر:
"أجمع أهل العلم على أن من
اشترى طعاما، فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه".
فيكون بيع التورق بالصورة
السابقة هذا ليس من الممنوع عند المالكية
-. ثم قد يقال أيضاً إن البيع بانتقال الضمان
بالرقم التسلسلي للقطعة المباعة، هو نوع من القبض، فإن انتقال الأرقام التسلسلية
في البورصة الدولية يفيد الحيازة القانونية، فهو قبض حقيقي أيضاً، فتكون عملية
التورق هكذا جائزة على جميع المذاهب بهذا التوجيه.
الأمر الثاني: أن صيغ التورق هذه تؤدي إلى استغناء البنوك الإسلامية مستقبلا عن صيغ العقود الأخرى وتكون عملية التورق هي العملية السائدة فتنصرف البنوك الإسلامية عن الاستثمار الحقيقي التي تسهم في قضية التنمية، فيؤدي إلى فقدان البنوك الإسلامية أساس وجودها، والوسائل التي تتردد بين أن تكون ذريعة إلى مفسدة وبين ألا تكون، فهو القسم المختلف فيه بين العلماء في باب سد الذرائع، فمنهم من جوزه ومنهم من منعه سدا لذريعة الفساد. ويدخل في هذا القسم التورق الذي هو محل البحث.
ولذا
فمع ميلي للقول بجوازه بالضوابط التي أشرت إليها، إلا أنه ينبغي النظر في حلول
تنموية حقيقية للاستثمار.
والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه:
أ.د. خالد فوزي عبد الحميد
حمزة - المدرس سابقاً بدار الحديث - والمتعاون مع كلية الحرم
بالحرم المكي، وجامعة أم القرى ـ سابقاً