د. عباس شومان: اللغة العربية أشرف اللغات على الإطلاق
- الخميس 26 ديسمبر 2024
مقاربة نقدية لرواية
"مملكة الهالوك"
للكاتب : خالد بدوي
عتبة الرواية الأولى
العنوان : "مملكة
الهالوك"
والعنوان يحمل كلمتين :
الأولى ) مملكة ) :وهي تشير إلى:
المَمْلَكة - سُلْطان المَلِك
قالَ الرّاغِبُ: المَمْلَكَةُ: سُلْطانُ
المَلِكِ وبقاعُه الَّتِي يَتَمَلَّكُها.
فهي تشير إلى وجود ملُك ، ومملكة ، وسلطة وقوة .
الثانية (الهالوك) :
المعجم الوسيط
(الهالوك) نَبَات زهري
متطفل من الفصيلة المركبة وَمِنْه أَنْوَاع تتطفل على الفول والطماطم والباذنجان وَغَيرهَا
وَلَا تنْبت بذور الهالوك إِلَّا بجوار بذور العائل.
والإضافة هنا بيانية
والبَيانيّة ما كانت على تقدير "مِن".
فيكون معنى
"مملكة الهالوك " مملكة من الهالوك ، فجنس المملكة هو الهالوك
وتظهر هنا المفارقة
جلية بين الكلمتين، فالمملكة تحمل معاني العز والقوة والسلطة ، والهالوك يحمل كل
معاني الضعف والمهانة والضعة .
-
تنتمي الرواية إلى
الأدب الواقعي وتستخدم تكنيك تيار الوعي بشكل مكثف .
-
السردية تكاد تكون
سيرة لبطلها (حارس) ، ومن خلال هذه السيرة يدخلنا الكاتب في عالم كثيف الأحداث
تتكاثر فيه الشخصيات .
-
والسردية تكشف لنا عن
دقائق حياة وصراع واعتقدات وقيم فئة المهمشين، حيث تتناول مجموعة من الأسر قدموا
من الريف طلبا للرزق ، فلم يجدوا غير مساكن الإيواء والتي حشرتهم فيها الدولة وهي
غرف كانت بدرونات تستخدم للتخزين لا تصلح للحياة البشرية .
-
ويستعرض معنا الكاتب أحداث
هذه الحياة من خلال حياة تلك الأسر ، ويصف لنا بدقة كبيرة مدى سوء هذه الغرف.
وأثرها على حياة وقيم الذين يعيشون فيها، في سردية تنوعت فيها الأحداث والأشخاص .
1- تبدأ السردية
في تمهيدها، ببيان علاقة السلطة أو الدولة بهذه المملكة بمجيء موظف من المحافظة
يتفحص الوضع ويأخذ الأسماء بدعوى نقلهم من هذه الجحور إلى أماكن أفضل. الموظف من
طرف الدولة يبيع الحلم للأموات، ثم نكتشف أنه يطلب مقابل مادي لا يستطيعه أكثر
هؤلاء السكان
- يبدأ الفصل الأول
بعبارة سياسية وهي: "الحكومات ترتكب الجريمة غير اللائقة في حق شعوبها تحت
مسميات لائقه، والآباء الفقراء أيضا يرتكبون نفس الجرائم لكن تحت مسمى القدر
والنصيب "
هنا نلمح الفكرة السياسية والاجتماعية التي تعبر
عن مضمون الرواية. فالسردية من خلال استعراض الأحوال المعيشية المتردية تتهم
السلطة المستبدة والفساد الإداري عن سوء الأحول وفي نفس الوقت لا تخلى مسؤلية
الطبقات المستعبدة البائسة من المسؤلية ، وإذا كانت السلطة تجرم بوازع من فسادها،
فالمجتمعات المقهورة تجرم بسبب سلبيتها وارتمائها في حلقة مفرغة اسمها القدر
والنصيب .
ومن هنا يأتي دور
الأدب لكشف الواقع البائس والأحلام المجهضة، بل كما يقول ماشري الباحث الفرنسي :
"«إن العمل الأدبي لا يرتبط بالإيديولوجيا عن طريق ما يقوله، بل عن طريق ما
لا يقوله، فنحن لا نشعر بوجود الإيديولوجيا في النص الأدبي إلا من خلال جوانبه
الصامتة الدالة، أي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائبة»، إن الرؤى الأدبية
تعري الفساد وتكشف مواطنه .
2 - وجاءت البداية بتكثيف
زمنى لماض طويل في حيز صغير، ومنه بدأت عملية سرد استرجاعي لندخل في متن الرواية
-
ويقوم الراوي بعملية
حذف لثلاث عشرة سنة من حياته في المدينة منذ أتى من قريته التي لم يذكرها الإدريسي
في معجمه لحقارتها .
-
وتوظيف الحذف هنا إشارة ، بأن هذه السنوات سقطت من الذاكرة ، حيث لا تحمل أي حركة او تطور
إنه العمر الذي يتسرب من بين يديه إنه سكون الأموات . حياة فارغة رتيبة ليس لها
معنى أو ناتج، عمر ضائع.
-
وتبدو المفارقة الحادة
بين الأحلام في بداية السردية :"المستقبل
الذي سمعت نداءه لي عبر عجلات قطار الصعید التي تحتك بالقضبان الحدیدیة، كأنها
معزوفةٌ موسیقیة تعزفها أنامل الطبیعة.. أنّ الأحلام الجمیلة الممزوجة بالتفاؤل هي
الدافع لنا لمواصلة الحیاة."
وبين نهاية السردية
حيث اصبح أعمى يتسول .
-
ورغم أن السردية
اشتملت على مقاطع وصفية كبيرة إلا أن ذلك لم يمثل توقف أو انقطاع ، بل كان وصفا
حركيا تعبيريا ، فلم يثقل السردية أو يُملّ
القارئ .
-
وأتت التفاصيل الوصفية
كما في وصف مقام الامبابي، ووصف الشوارع المحيطة بأسمائها ليعايش القارئ السردية
وكأنها حقيقة معاشة .
-
ونلاحظ استخدام الكاتب
لتكنيك تيار الوعي بكثافة حيث تشظي الزمن، فلم يستخدم الزمن الصاعد المتسلسل ، بل استخدم تكنيك رواية تيار الوعي في القفزات الزمنية من الحاضر إلى الماضي ، فبينما
هو يصف لنا أحوال أهل غرف الإيواء والحمام والنساء ونظام استخدامه ، وما كان يفعله
وأخوه ، إذا به ينتقل إلى قريته في الصعيد ليصف لنا أبنيتها ونخلها وبؤسها
.واضطرار والده إلى النزوح عنها ، ويصف لنا رحلته وأسرته إلى القاهرة ، وأحلامه
الكبيرة والتحاقه بالمدرسة الثانوية العسكرية بامبابه .
-
ويبرز المنهج الواقعي
في الكتابة عندما يقطع هذه الأحداث ، حدث
جلل يغير من رتابة السرد
-
و يمثل تطورا "ديناميا" يخل بتوازن الأحداث
ويتسبب في دفع الأمور إلى المرحلة التالية. .
-
(موت الاب – وترك حارس الدراسة – وعمله بويجي)
-
وهو كما نلاحظ سبب قدري حيث تعمل الأقدار في
توجيه حيوات الشخصيات بلا إرادة منهم بل هم مسوقون بفعل الأقدار التي تهيمن على
حياتهم السليبة، وهو ما يشيع في كل مفاصل السردية .
واستطع الكاتب بمهارة اتباع
خط مستقيم في التسلسل الزمني الرئيسي أي
في مستوى القص الأول بحيث ساعد القارئ على تتبع التسلسل الزمني في حركة طبيعية لا
يفصلها فاصل . رغم كثرة القفزات الزمنية نتيجة التداعي الحر .
- الكاتب يشير إلى أثر التكرار والتعود بالتأقلم
الإنساني "حيث يقول : "رائحة رغوة
الصابون رخیص الثمن تزكم أنفي، مختلطةً برائحة میاه الصرف الصحي، لم تعُد تثیراشمِئزازي".
-
ويقول بلزاك "أن المكان الذي يسكنه الشخص مرآة
لطباعه ولذلك اهتم اهتماما خاصا بوصف المكان .
-
فالساكن هو المسكن ، فمن هنا تأتي وظيفة الوصف
التفسيرية"
-
يلفت نظرنا هنا أن
شخصيات الرواية جلهم فشل في حياته إما مات بائسا في مياه المجاري كسمير المشلول ،
وعرفة الذي تاجر بمرضه ، ومحروس الذي قتل، وحارس الذي عمي وامتهن التسول، إلا
جماعة السريحة ، فهذه الجماعة التي تأتي كفريق وتعود كفريق ، ثم هم يأتون إلى
المدينة بهدف واضح تجميع المال ثم العودة إلى قراهم ، ثم أنهم يأتون على حساب رأسمالي
صغير هو (ناصرشكر الله القبطي ) والذي يوفر لهم المسكن ويسلم كل واحد عربة صغيرة
ليسرح بها ليجمع الروبابيكيا (الاشياء القديمة ) ، ولهم كبير أو رئيس ولو صوري ،
فهذه الصفات ، منحتهم ميزات تمكنهم من تحقق اهدافهم . فلم تصبهم تلك اللعنة التي
اصابت من سواهم .
-
وهي لفتة ذات مغزى في
السردية ، حيث لم تكتف بالنقد المجتمعي بل أشارت من طرف خفي إلى النجاح من المنظور
الأيدولوجي لها .
-
- وفي ص26
حوار ذو دلالة وهو حوار بين سامية وحارس ، ويقول أثناء الحوار في جملة اعتراضية
خارج الحوار مفاجئة :
-
دهست بشبشبها صرصار ضل
الطريق ، رأته خارج من الممر نحو الشارع العمومي ، ولم تطل الاخر الذي هرب نحو
الممر "
-
إن الجميع في القيمة الاجتماعية مثل هذه الصراصير
، اذا خرج دهسته الأقدام فلا حياة له خارج هذا الممر.
-
ويستطرد بعد سطور "رحلت سامية لأن موعد
العمل قد حان ... وتركتني أتفحص أشلاء الصرصار " ، ليمهد لنا أنه بدون سامية
هذا فهو صرصار أو احشاء صرصار . فاقد القيمة فاقد الانسانية فاقد البصر.
-
تميزت السردية بالقص
داخل القص ، اذ يرى عرفه فيقص علينا حكايته وعلاقته بزوجته ، ومتاجرته بمرضه .
-
ثم ينتقل بشكل متداعي
لحبه وقصته مع نرجس ، هذه القصة التي تنتهي بشكل متسق مع مضمون السرد الذي يبين أن
المهمشين لا حقوق لهم ولا يمكن ان يجدوا حظهم من الدنيا .
-
ربما كانت قصة الحب
والتعبير الذي أتى على لسان المحبين ، أرق مما يمكن أن يكون في هذه البيئة المشوهة
، كما كان الحوار اكثر شاعرية مما تسمح به البيئة والحالة الثقافية . ففي مثل هذه
البيئات يكون الحب أكثر حسية وأقل شاعرية.
-
- وربما كانت
العلاقة التي وصف فيها حالته مع سامية بعد الزواج هي الأقرب للوضع البيئي والثقافي
-
- كما كان
الارتكاز على كتاب طوق الحمامة لابن حزم أعلى من مستوى الطرفين ثقافة وعمرا . .
-
فيقول (ريموت رايش )
في كتابه (النشاط الجنسي وصراع الطبقات ) " يتأثر السلوك الجنسي للفرد ، حتى
في أدق تفاعلاته بالوضع الاقتصادي ، وبصورة أخص ، بالوسط الذي يعمل فيه ذلك الفرد "
-
- ويقول
" إن نقص الرهافة ، وانتفاء طابع الحب وسحر الشهوة ، في العلاقات الجنسية
لأبناء الفئات الدنيا ، يعودان في شطر لا بأس به منهما إلى تشويه قدرتهم
التخيليية. "
-
ص86
-
يقول " إن منظومة الرقابة الخلقية
والعقوبات القضائية المتشددة لا تصل إلى الثقافات- التحتية- أو الباطنية – للأحياء
الأشد فقرا ، ولا "إلى حطام الناس ، غير المرغوب فيهم " الذين لفظتهم
حركة الانتاج . ومن طبيعة منطق الاشياء أن تعرف هذه الجماعات "فقدانا مطلقا
للقيم والمعايير "
-
ويظهر ذلك في العلاقة
بين محروس وأم سامية المرأة الاربعينية المترهلة ، وعلاقة خميس بأخته.
-
وتؤكد الظروف والحوادث
القدرية في الرواية بموت زوجة رأفت المتدينة النظيفة صاحبة القيم أثناء صلاتها ،
لتنجو مما طالبها بها زوجها مما تأباه
-
وكأنها اشارة ايضا أن
البيئة الفاسدة لا تقبل الا الهوام والحشرات والمعوقين والنفوس
الشائهة .إن لم يكن اراديا فقدريا.
-
ثم تظهرثاني علاقة بين الدولة وأهل الغرف وهي
هجوم الشرطة على غرفتهم بحثا عن محروس الذي ضرب جامع الجباية من السائقين ، وتصرح
السردية ان الهجوم كتان انتقاما لرجلهم ، فهو يجمع الجباية لصالح الشرطة ، ثم
تعذيب محروس وقتله .
-
فانحصرت علاقة الدولة
بأهل الغرف في شكلين الاول موظف يبيع الوهم ، والشرطة التي تنتقم لنفسها منهم .
-
كما يلاحظ أنه رغم
تردده على مسجد الامبابي ، ومشاهدته للطرق الصوفية وحلقاتهم ، وتردد أبيه على
أضرحة الأولياء والثقة بهم ، إلا أن بطلنا لم تجذبه تلك الجماعات التي كان من
المتوقع أن يدفعه فقره و حرمانه وغربته إلى الانضمام اليها ليجد فيها بعض العزاء
-
- تلفت نظرنا جملة
تلخص سلبية الشخصية وانعدام الفضول المعرفي حيث يقول بطل سرديتنا : "كنت قرأت
داخل كتاب من تلك الكتب التي أقترضها من مرسي بائع الكتب : لكي تعیش سعیدًا لا
تُحلل كل شيء بدقة شدید، فإن الذین حللوا الماس وجدوه فحما".وربما هذا يمثل
بعض التناقض في الشخصية ، فالشخصية المولعة بالقراءة ، هي تمتلك ذلك الفضول
المعرفى ، وتغذيها القراءة .
-
- ربما كانت اللغة
التي شاعت في السردية لغة واحدة هي لغة الكاتب ، رغم التدني الثقافي لاشخاص
الرواية ، فكان الافضل لو تنوعت اللغات بحسب الشخصيات ، فاللغة جاءت أعلى بكثير من
المستوى الثقافي لأشخاص الرواية .كذلك عمق الافكار كانت أكثر من قدرة الاشخاص في
الرواية.
-
تتميز السردية بكثافة
الشخصيات وتعدد أشكالها وأنماطها ، ما أضاف ثراء وحيوية ، وأعلى من درجة التشويق ،
ففي كل صفحة حدثا.
-
رغم كثرة الشخصيات
وكثافة الأحداث واتباع تكنيك التداعي الحر ، نجح الكاتب ببراعة أن يجمع كل ذلك في
خيط واحد ، فأتت سردية ماتعة ومتميزه ومشحونة بالافكار والعواطف والاحزان
-
– يشكر
للكاتب تناوله لحياة المهمشين والمنسيين والمقهورين من الطبقات .
-
استخدم الكاتب الصور البلاغية باقتدار، ولم تخل
السردية من اقتباسات شعرية ومن تناص، واستخدم الحوار، فجاءت سردية متكاملة الأفكار متماسكة البنية .
-
- رغم أن
الرواية تحكي لنا عالم السكون الذي تشيع فيه السلبية بل والموت ، إلا أن النص
أدبيا يضج بالحياة وهنا تتجلى مقدرة
الكاتب وأدبيته .
هبه السهيت