باحث بملف الإلحاد: الفرائض في الإسلام أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
- الجمعة 22 نوفمبر 2024
إعداد - الكاتبة عزة عز الدين
غيوم فرنسية.. قراءة متأنية
كان من الصعب علي أن اتعامل مع رواية غيوم فرنسية علي انها مجرد عمل روائي عادي. بغض النظر عن وقوع الأحداث في مرحلة تاريخية محددة الملامح والشخوص، ومدي ما يمثله ذلك من تحد كبير لأي كاتب يحاول وضع أفكاره في إطار تاريخي الأبعاد ومحدد المعالم مسبقا.
وقد وجدتني في مأزق حقيقي بعد ما اتممت قراءة الكتاب..ولا أقول الرواية، لأسباب سوف أشرحها لاحقا..ولأول مرة أجدني عاجزة عن تناول الموضوع بالصورة المناسبة..لقد سبب لي الكتاب ربكة فكرية كبيرة..وحرك بداخلي كل الأسئلة الفلسفية والوجودية التي تعتمل في ذهن أي شخص شغوف بالفلسفة والتأمل في تاريخ الفكر الإنساني عامة.
فبغض النظر عن الحقبة التاريخية التي جرت فيها الأحداث، الرواية تطرح معضلات فكرية وجودية ظلت بلا اجابة شافية حاسمة منذ بدأ الفكر الانساني، وعبر مختلف العصور. ولست أدري كيف تفتق ذهن الكاتبة عن هذا الطرح الاستثنائي من خلال أحداث حقيقية تاريخية موثقة، استطاعت بقلمها اعادة صياغتها بصورة ادبية إنسانية بالغة الحساسية. إنسانية مجردة كما هي في كل زمان ومكان.
واجرؤ علي القول بأن الرواية من وجهة نظري هي عبارة عن التساؤلات الإنسانية حول الأفكار العظيمة والكبيرة في التاريخ، من صاغوها.. ومن تفاعلوا معها..ومن اتخذوا منها تكئة لتحقيق طموحاتهم الكبري، بغض النظر عن آلاف البشر وأحلامهم بالحرية والعدالة والحق في الحياة الكريمة.
الكتاب ينبش في ماضي الفكر الإنساني، ليسقط علي الحاضر. الدائرة الأبدية من بزوغ شمس الأفكار العظيمة، تلك التي حركت الأحداث الكبيرة والفاصلة في التاريخ، والتي كان وقودها آلاف البشر من الحالمين بحياة افضل لهم ولأبنائهم..هل كان أولئك مخدوعين؟ هل تم استغلالهم؟ والزج بهم في أتون صراع مشتعل، والتضحية بهم على مذبح الطموحات وأحلام العظمة والمجد.
والقيم..تلك القيم التي يتمسك بها الإنسان لأنه نشأ عليها وشكلت وجدانه..أهي مطلقة؟ أم نسبية؟ أم لامنطقية؟ أم أنها متغيرة في فحواها وعناصرها ومظاهرها وفقا للزمان والمكان والأفراد.
ما مفهوم العدالة؟ هل نختصره في الرؤية الغربية..تلك الأمم التي طالما ظلمت وقهرت واستعبدت واستغلت واستعمرت وتعالت علي الأجناس الأخري. أتراها أفضل من يقدم هذه المفاهيم اليوم وينظر لها وينادي بها..لست متأكدة من الإجابة.
وما موقع العدالة من منظومة القيم وحقوق الإنسان وارتباطها بالعقيدة؟
الحلال والحرام..ما هي ماهيته وحدوده..كيف نفهمه..وكيف نتعامل معه في العصور المختلفة.
ما هي الخيانة؟ ومن ذا الذي من حقه أن يحكم على الآخرين ويصمهم بالخيانة..من اي منظور؟ ووفقا لأي معايير شخصية أو فردية أو عقائدية.
ما هي الحرية؟ وكيف يمكنك أن تشعر بها..وتعيش وفقا لها..وتدفع ثمنها..اتراك مستعدا لذلك.."جين" نموذج المرأة الفرنسية التي بيعت في سوق النخاسة وهي بعد طفلة اقتنصها القراصنة من علي ظهر سفينة..وبيعت لأحد الأمراء في مصر..ثم تمكنت من الهروب والعودة إلى بلدها بعد عشرين عاما مع خروج الحملة الفرنسية من مصر..لم تكن تدري كيف تعيش حرة..ولا كيف تتعامل مع الحرية المسئولة..امر لم تعتاده..ولم تدري كيف ولا ماذا عساها أن تفعل.
واحدة من النماذج البشرية مثل فابيان، ذلك الضابط الفرنسي الذي آمن بالثورة ومبادئها، وضحى بكل شيئ من أجل قناعته..ثم اكتشف انه كان مثل الكثيرين غيره..مخدوع..تم استخدامه.
التاريخ الإنساني الزاخر بأمم قاتلت غيرها وابادت الآلاف من البشر دون رحمة..فقط لتفرض أفكارها وتحقق اطماعها وطموحات قادتها في السيطرة والتسيد.
كيف نقهر الآخرين ونذبحهم لمجرد اختلافهم في العقيدة.
ما هي حقوق الإنسان؟ وكيف يجب تناولها والنظر فيها؟ أتراها واحدة في كل زمان ومكان.. وكيف نفسرها.. أهي مطلقة في اشكالها..ام نسبية؟
فضل، القبطي المصري أبا عن جد..لماذا تم تهميشه والتقليل من شأنه ومن مكانته كإنسان في وطنه، لأنه تمسك بعقيدته المرتكزة علي ديانة سماوية..لماذا يحال بينه وبين طموحاته ورغباته الحياتية رغم قدراته..والمسكين يفر من الجحيم إلي النار..ليجد نفسه في ارض الحرية والعدالة مطرودا من الملة..يعامله بني دينه على انه كافر لإختلافه في المذهب، رغم انتماءه لنفس العقيدة..لا أظن ان الله قد أمرنا بذلك..ولا أعتقد أن ذلك هو مغزى العقيدة..ذلك النموذج الانساني الذي ظل يتعذب طوال عمره لإقتناعه أنه أخطأ وخالف الطهر والعقيدة، حين وجد نفسه فجأة بين رحي ثقافة مختلفة بتفاصيلها ومعاييرها..تقبله وتبجله وتتيح له كل الفرص التي كان يتوق اليها..لكن المعايير مختلفة..والحنين يقتله..والذنب يعذبه.. وكلها أفكار ورؤى مختلفة لنفس الواقع..يجعل الصورة غائمة ملتبسة..تشتعل الأفكار داخل الرؤوس، ولا إجابات شافية.
زهرة التي تزوجت في مصر من ضابط فرنسي كبير في حملة نابليون بعد أن ردد الشهادتين امام الشيخ، وان بقي علي عقيدته وعاد إليها مع عودته لوطنه..كانت ترى ذلك حلالا، رغم أنها لم تكن تحبه..لكنها ترفض الارتباط بمنصور ،رغم كونه مصري ورغم مشاعرها تجاهه، بسبب إختلاف العقيدة.
ومثله يقال علي كل شخصية بالتفصيل.
كل هذا وأكثر كثيرا من التأملات والأفكار حركها هذا الكتاب بما طرحه من أفكار ورصد لأحداث التاريخ وسلوكيات البشر.
لهذا السبب لا يمكن أن اتعامل معها كرواية عادية تقليدية..ليست مجرد قصة وأحداث وشخصيات..هي تأملات فلسفية عميقة في تاريخ الإنسانية، وكنه المبادئ والقيم والأفكار العظيمة وما قدر له منها أن يتحقق علي أرض الواقع.
والتساؤل الذي ظل يتردد في ذهني منذ ان أتممت قراءة هذا العمل الأدبي المتميز.. كيف بعد كل هذه القرون..وكل هذا الفكر..والتحضر..والتقدم..والرقي الانساني..والقيم الرفيعة..والعقيدة..والفن..كيف نقتل بإسم الحرية؟ كيف نقهر تحت بند العقيدة..ماذا بتبقى من الانسان؟ والإنسانية..وكيف تزهق أرواحا من أجل فرض أفكار.. مهما كانت قيمتها..لماذا؟ وتحت اي مسمي؟ اهذا هو الايمان؟ الإيمان بأي شيئ كان..عقيدة أو أفكار.
كل قوم أذاقوا الآخرين وبالا وظلما وقهرا واجحافا، وأوسعوهم قتلا من اجل فرض افكار او وعقائد.
وفي نهاية المطاف، كلها مجرد أفكار وقناعات تتحكم في عقول البشر..فتسير حياتهم وفقا لها..وكم من حياة ضاعت هباءا من جراء وهم أو فكرة أو عقيدة..أثرت علي مجريات حياة البشر واخذتها في طريق الآلام بلا عودة..والسؤال الآن أترى الأمر كان يستحق؟!
احيي د.ضحي علي هذا العمل المتميز.. وهذه الرؤية الإنسانية العميقة الراقية في مغزاها والعبقرية في طرحها..وهو الدور الحقيقي للأدب والفن كما أراه..وأسجل أعجابي بالجهد البحثي الكبير المبذول من أجل تحقيق الأحداث التاريخية واستخدامها كإطار لتفاعل الشخصيات والأفكار.