حاتم عبد الهادي يكتب: رؤية نقدية حول "العازف" لـ غادة صلاح الدين

  • أحمد عبد الله
  • السبت 06 فبراير 2021, 06:47 صباحا
  • 930

مفارقات السرد الفطرى

وقضايا الواقع المصرى المعاصر

حاتم عبدالهادى السيد


تجىء البدايات – دوماً – باللغة البكر؛ والصورة الفطرية التى تدخل إلى القوب بعمق؛ وتحفر في غبشها منمنمات الجمال والحب؛ عبر الإتكاء على قيم الواقع، ومرموزاته؛ وإحالاته الجمالية الفطرية الدافقة . وفى مجموعتها " العازف " تحيلنا المبدعة / غادة صلاح الدين إلى الحكايات،القصص الإجتماعية المضيئة ؛عبر سرد واصف للحدث؛وعبر لغة إشراقية؛ تتغيا " جماليات الفطرة الإنسانية " وتلك – لعمرى – غاية نبيلة تتقصدها الكاتبة عبر قصصها المتتابعة؛وغاياتها التأصيلية الجميلة  . ولعلنا نلمح ذلك من مقولة " شكسبير " التى صدرت بها المجموعة ؛ حين قال : " شق طريقك بإيتسامتك أفضل من أن تشقه بسيفك" ؛ ولعل هذه المقولة تنشد غائية كبرى لدى الكاتبة؛ وتستشرف الجمال والبهجة والإبتسامة للواقع الذى فقد جمالياته بفعل ميكانيكية الحياة، وديناميكيات الواقع المتكلس، الواهن، والغريب كذلك، فهى تتغيا القيم الإيجابية، وتعبر بالإبتسامة إلى قلوبنا الحزينة عبر مشاكل الحياة، وصراعاتها الهادرة الممتدة .

وتأخنا الكاتبة مباشرة - عبر قصة "العازف" ،والتي تحمل اسم المجموعة - إلى قضية ملحة تخصنا جميعاً؛  عبر" أدب الجائحة "؛ وما فعلته "كورونا- كوفيد 19 " بالناس ؛عبر العزلة التى جعلتهم يركنون إلى الصمت والسكون؛ لكن صوت العازف من آلة الساكسفون قد أعاد للحياة بريقها، عبر التطهر بالغناء؛ والهروب من آفاق العزلة إلى ألحان الحياة؛ لكن سلمى بحصافتها ؛ وانسانيتها المرهفة ؛رأيناها تلمح في عينى العازف انكساراً؛ فتتذكر أوجاعها مع الزوج السابق؛ فترق لحاله ؛وترسل إليه ورقة مالية، وسرعان ما التقطها وهو يقبل يد الصغيرة، ليتحول المكان إلى عطاء ممتد؛فرأينا الجيران يقومون بتقليد سلمى لتتغير حاله، وتتكدس الأوراق النقدية علي جيوبه الخالية، ثم لتنتشر شاشات المحمول بتلك الصورة المفعمة بالحياة الجميلة، والسعادة التى غمرته؛ بعد أن غمرهم بالأمل الجديد .. وهنا قصة انسانية من الطراز الجميل، ولقطة من معتركات الحياة التى غيرت النظرة إلى الحياة والواقع من الخوف والهلع من الجائحة ؛إلى تجدد الحياة بالعزف ، واستمراريتها بالعزيمة والعطاء .

كما تعكس قصة " أم ديلفرى " صورة أخرى لجوانب الواقع الحديث؛ لحياة المطلقة  "هدى" من "هانى" حيث تفرق الزوجان بسبب المشاجرات المتكررة ؛ ليتركا الأولاد  في معية  مشكلاتهما، وتتفاقم مشاكل الأطفال في المدرسة لتقف هدى أمام مفاجأة ألجمتها فقد كان الولد الذى تشاجر مع ابنها يعانى من غياب الأم الدائم، والتي شبهها الصغير بأنها " أم ديلفرى " أى كالوجبات الجاهزة التى لا تفيد الجسد؛ بل  قد تضر في كثير من الأحايين ، وهى قصة تكشف غياب القيم لتلك الأم ؛ منزوعة الحنان .

ومع تثميننا  لمسيرة السرد ؛ إلا أننا حين نعرف أنها المجموعة الأولى للكاتبة التى ملأت الدنيا جمالاً - من خلال صالونها الثقافى المعروف - فإننا نتلمس لها بعض العذر ؛فيما أقدمت عليه؛ ففن القصة القصيرة فن شائك، ويحتاج إلى دربة وممارسة شديدة الإرهاق والصعوبة ؛لكنها نجحت – رغم هذا – في اجتياز كثير من عقبات  تراتبية هارمونية السرد، وطغت الموضوعات الإنسانية على الشكل؛ لتعيد تأسيس الفطرة الإنسانية، التى تؤكد القيم، والمواقف الإنسانية المجتمعية، بل وقضايا المرأة المصرية من طلاق وزواج، ومواقف الأبناء، ونوستالجيا السرد المضىء؛ الإستشرافى، على فنيات السرد؛  الذى لا  يركز على واصفات السرد وتركيبيته؛ بقدر ما يركز على جماليات الموضوع المسرود؛ وتلك غائية جميلة، نبيلة، وسامقة كذلك . وتتوالى القصص التى تنشد القيم ، وتترصد مشكلات الواقع، وتعبر بجماليات السرد الفطرى إلى آفاق قلوبنا؛وإلى بوابات أرواحنا التى تحتاج إلى استراحة بعد أعباء الحياة، وتزجية للواقع من خلال معزوفات السرد المموسق، والنابع من فطرة وقلب محبة ، وعاشقة للإنسانية بصفة عامة .

إن الكاتبة / غادة صلاح الدين تركز على اليومى والحياتى المعيش، لمشهدية المواطن المصرى، والأسرة المصرية؛ وتدخلنا إلى المطبخ العصرى، وتقاليد الأسرة للزمن الجميل، ولقيم الحياة الأسرية ؛عبر ريفنا ومدننا ؛ وعبر رفد موضوعاتها بقضايا معيشية  تستلبنا، ونعايشها كذلك، فهو قص واقعى بإمتياز، وسرد كلاسيكى جميل، فطرى، يأتى دون تكلف، بما ينم عن  جمالية فطرة، وعفوية وصف، وجمالية موضوع، ولو ركزنا ودققنا النظر فسنجدها قد ركزت على مشكلات المرأة ،والأسرة المصرية الراهنة، وكشفت لنا الكثير من الجوانب المضيئة في حياتنا العامة ؛والخاصة .

وفى قصتها " رسالة غامضة " تبدو مثاقفة السرد الجميل في التكشف عن روح محبة عاشقة للشعر، والقراءة من خلال أشعار فاروق جويدة،نزار قبانى، ومن خلال قصص وروايات عملاق الرواية العربية / نجيب محفوظ وغيرهما، ووجدناها تضفر سياقات السرد بالشعر الجميل البرىء على لسان موظفة البنك " رشا "؛ واحدى عملاء البنك الذى يعمل ناشراً لتبدأ في اظهار مواهيها في الإلقاء ؛ فيستمع إلى مقطع من الشعر فيعجبه فتعود مسرورة إلى المنزل ؛وتفتح جهاز الكمبيوتر فتجد رسالة من معجب،فتغلق الجهاز، ثم تتوالى الأيام وتتوالى رسائله إليها، فتتخيله في صورة نزار قبانى يسمعها كلمات غير الكلمات ؛فتعيش لحظة  حب صادقة من وقع الثناء – والغوانى يغرهن الثناء -  وتتوالى لقاءات الماسنجر عبر صفحات التواصل الإجتماعى لتعرف أنه كاتب قصة من "بورسعيد"، لكن تجىء النهاية المفارقة : ( سمعت صوت رسالة الماسنجر،وطار قلبها فرحاً،هرعت إلى الهاتف،فوجدت رسالة من صديق لرأفت :البقاء لله ..مات قلبك في حادث سير ) .

إنها مفارقات السرد؛ والنهاية التراجيدية عبر القص المتنامى الجميل، الموضوعاتى، دون أن نتحدث عن سياقات السرد،واشكالاته،ولكننا نشير إلى التناص ؛وجماليات التضمين لشعر نزار قبانى؛والذى أحدثت فروقات بين مسروديات القص؛وهذه القصة تحديداً، وتجىء النهاية الفاجعة لتستيقظ من أحلام الأنترنت على الواقع القاسى المرير، وكم من قصص حب أفضت إلى الزواج عبر الأنترنت، وكذلك العكس، فهى تحكى واقع الحياة اليومية للشباب، كما تسرد لنا الكثير من يوميات الحياة المصرية .

في النهاية : نحن أمام قاصة واعدة، تعبر بمسرودياتها إلى آفاق أكثر جمالية،عبر سيمولوجيا الواقع الآنى ، وتكشف لنا الكثير من التفاصيل الحياتية، وأزعم أنها ستكون قاصة لافتة؛ لما يعترى السرد من أفق جمالى، عبر لغة فطرية ، تخرج من روحها لتخش إلى قلوبنا – دون استئذان – ودون وسيط؛ عبر لغة دافئة، وسرد سيميائى حالم ، ورؤى أكثر بساطة وجمالية ،وأفق عبر المخيال الذى يتقصد رصد كثير  من همومنا المجتمعية الكثيرة،فهى تضع أيدينا على مجترحات الواقع؛ وتحاول – بقدر ما تطيق – إلى جذب القارىء عبر موضوعات حياتية معاشة، وعبر واقع نعيشه، وهو الجديد، والفطرى، والأثير، والجميل أيضاً .

تظل / غادة صلاح الدين كاتبة واعدة؛ ذات قلب محب رهيف؛ وعشق للمجتمع والحياة، وتلك أولى مراحل الولوج إلى آفاق السرد الجميل الماتع، والجميل أيضاً .

_____________

*العازف، غادة صلاح الدين؛ مجموعة قصصية ؛ دار نشر أفاتار، مصر ، 2020م .

 

 

تعليقات