ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
زينة وفرحة وبهجة
لرمضان فرح لا يخطئه القلب، فهو كما يقول جلال الدين الرومي؛ في كل ليلة قدر وكل نهار عيد.. تتسامح الكائنات وتفيض الروح خشوعا في شهر أنزل فيه القرآن.. وتمتد أسمطة الموائد على الإفطار لتشمل المسافر والقريب. . وتصطف الأبدان والأفئدة في المساجد التي يغشاها النور والتلاوة للذكر الحكيم.. وتوصل الأرحام فيجتمع شمل الأهل بعد طول غياب..
ولكن مصر تقف في منطقة فريدة للغاية في الاحتفال بهذا الشهر، منذ وصفها الرحالة ابن بطوطة ووفود الرسل الذين خرجوا إلى مختلف المراصد والأماكن لرصد قطعة صغيرة من النور ليس في السماء ما هو أرشق منها ولا أجمل، وما أن تثبت الرؤية حتى تدار أكواب العصير على الحاضرين وسط هتاف الصبية: (صيام صيام. بذا حكم قاضي الإسلام)..وينطلق الموكب الذي يجمع أرباب المهن يضرب وما إن يمر الموكب على مسجد حتى تضاء مئذنته ولا تنتهي مسيرته إلا وتكون مآذن القاهرة الألف قد أضيئت إيذاناً بدخول رمضان.. أو كما يصف الجبرتي حوانيت الناس وبيوتهم وقد أضاءت آلاف القناديل احتفالا بقدوم رمضان.. وهو نفس النور الذي لا يزال يصافح العابرين في ليالي رمضان..
من يملك تفسير تلك الروح العجيبة التي تسكنك وأنت تقطع أحد الشوارع وترى الزينات الملونة بألوان الخيامية المبهجة تتراقص وتعلو في حفيف وخشخشة مع نسمات الليل العذبة، وكأنها في حلقات نشيد، تغمرها أنوار الفوانيس النحاسية المعلقة.. فيما صوت الشيخ النقشبندي يتسامى كالقيثارة السماوية بابتهال "رمضان أهلا.. رمضان أهلا مرحبا رمضان..بالنور جئت وبالسرور..والناس فوق بساطه إخوان..يمشي الغني إلى الفقير بقلب ذا حب له..وبقلب ذا إحسان..إن يسكت الشيطان في نفسيهما صوت الضمير..تكلم الإنسان"
ومن يملك تفسير ذلك الفرح بنقرات المسحراتي مع صوت سيد مكاوي وكلمات فؤاد حداد، وهي تنساب من صندوق الإذاعة في كل بيت: مســحـراتى مـنـقـراتى..بادور وادور..يا فرْح قلبى..بيتنقل بى..من نور لنور..أشوف قبالى..على الطبالى..صحبة زهور..أقول يا زرعه هاتى السحور..لقمه هنيّه..تكفى مِيّه..فى سلطانيّه متسلطنه"
ولا تنتهي بك مراسم الفرح في دولة التفاريح كما سماها المؤرخون ، نسبة لما تركه لنا الفاطميون من طقوس متوارثة، فيمتد ذلك الشعور طالما طفت الشوارع وشاهدت صانع الكنافة وهو يلف يده بإناء العجيب المثقوب بعناية وبخفة فوق فرنه البلدي، محدثا أشكالا دائرية من عجينه الأبيض لتعلن الكنافة عن بهجتها، أو أقراصا دائرية من القطائف ، وكلتاهما تتحول للون ذهبي مسقي بالعسل يميز طقوس الفرح على مائدة الإفطار..
من يملك تفسير تلك السكينة التي تهبط على قلبك ما إن تطأ منطقة الحسين والأزهر، وتدلف لخان الخليلي وشارع المعز لدين الله الفاطمي، فتشاهد بقلبك أنواره الخافتة الفياضة بالروحانيات والمشعة من ثنايا نقوش المساجد، بألوان صفراء وخضراء وزرقاء، تختلط فتجعلك أسيرا لها، وقد داخلت حواسك روائع المسك والبخور البلدي، ومشاهد صناعة النحاس وفوانيسه تحت الربع، وصناعة الخيامية في الأزهر، وزينة رمضان في حارة اليهود، فيما المقاهي الحسينية عامرة بوجوه البشر التي لجأت إليها طلبا للأنس والراحة.. أو حين يمتد بك السير لمنطقة السيدة زينب فتشهد إلى جوار مسجد سليلة بيت النبوة، بائعي السبح والعطور والفوانيس والخيامية والكنافة في توليفة ساحرة تزيدها وجوه البشر الطيبين التي تصافحك أينما حللت بشوارع مصر.
وتحتفظ مآذن مصر الأثرية بأسرارها التي ربما لا يعرفها إلا الطير الذي يسكن محيطها الصافي وأصوات الأذان وهي تصدح منها في خشوع وطمأنينة، فتصمت الحياة ونداءاتها لبرهة، وتعود للنفس تلك الطمأنينة الأولى، ولا شك أن تلك المشاعر قد عاينها كل من صلى القيام في مسجد عمرو بن العاص أقدم مساجد إفريقيا، أو مسجد السلطان حسن المهيب، وغيرها من المساجد التي تركها لنا العصر المملوكي.
من يمكنه نقل شعوره بالأمان وقد داهمه وقت الإفطار، واستمع لمدفع الإفطار الذي توارثناه عن زمن الإخشيديين حين فكر أحد الولاة بتجريب مدفع وتصادف أن خرجت أولى طلقاته وقت غروب الشمس، فتوافد الشيوخ والعامة يشكرونه وظلت عادة المصريين.. هذا المدفع في القاهرة يعني أن تجد من يلح عليك بشرب التمر الهندي والسوبيا ومنحك منقوع البلح حتى تمتليء شبعا، ثم تجد من يجذبك لموائد عامرة ممتدة في أغلب الشوارع ،تستقبل ضيوف الرحمن من كافة الطبقات الاجتماعية، قبل أن تخبره بأن لديك من ينتظرك على الإفطار..
ليس ثمة تفسير لروعة الجلوس أمام تفسير الشيخ الشعراوي وخواطره قبل موعد الإفطار بساعة، أو سماع تلاوة المقرئين المصريين، وبخاصة صوت الشيخ محمد رفعت وهو يعانق السماء ويتجلى بجلال الكون المفطور على التوحيد والخشوع، وأذانه المهيب ليعلن عن قدوم الإفطار، فتلتف وجوه الطيبين ممن افتقدتهم طويلا من أسرتك وعائلتك، ويتسابق الكل في طقس الفرح لتنظيم الأطباق والأكواب وملأها بالمستطاب، وحالة الأنس والود التي ملأت القلوب، فتدرك معنى السكن، ويحلو السمر والابتسام، كما يحلو الدعاء
وبعد ساعة ينطلق الأطفال للهو بالفوانيس، تحت نفس القناديل، ونفس الزينة، فتعود لذكريات طفولتك مع صوت عبدالعزيز محمود : مرحب شهر الصوم مرحب .. لياليك عادت في أمان.. بعد انتظارنا و شوقنا إليك .. جيت يا رمضان، وحاول أن تحتفظ بالوقت، لأن أيام رمضان تمر في لهفة، فتجد نفسك بين عشية وضحاها قد وقعت أذناك على أغنية شريفة فاضل : تم البدر بدري والله لسة بدري يا شهر الصيام، فيما صواني الكحك والبسكوت تفوح رائحة خبيزها من كل بيت..
وتظل إذاعة القرآن الكريم العريقة ، ينسكب النور منها إلى القلب، فالنقشبندي يغشاك صوته قائلا: أغيب وذو اللطائف لايغيب ..وأنزل حاجتي في كلِّ حال ،إلى من تطمئنُ بهِ القلوبُ، أو تلك الرائعة التي لحنها له بليغ حمدي: مولاي إني بابك قد بسطت يدي .. فيما يشرق صوت نصر طوبار وهو يشدو: ظمئا لنور من كتابك يسطع.. ايقظت قلبي فاستفاق ميمما.. شطر الهدى يرنو إليك ويسمع.. سأقوم ليلك داعيا متبتلا.. وأظل يومك خاشعا أتضرع.. يا موسم القرآن حسبك نفحة.. هذا الكتاب المستبين الأرفع.. هو منبع صاف لكل سعادة.. الله خلده ونعم المنبع.