أحمد إدريس الطعان يكتب: تجربة مع الموت.. وصايا وعبر للملاحدة

  • د. شيماء عمارة
  • الخميس 04 فبراير 2021, 03:19 صباحا
  • 792
التفكر في الموت

التفكر في الموت



إن ما مررت به من تجربة مرضية خلال اليوم الأول، ثم الثاني، واختلاط المشاعر، و تزاحم الخواطر، لو ذهبت أنثره في كتاب لما كان كثيراً، بل لا تفي به كتب، وكان سيل الخواطر في قلبي، مع سيل الدموع من عيني مترافقان طوال الليل والنهار، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أمسك بكل شعور أو خاطرة وأدونها مباشرة مكتوبة أو مسموعة لكن هيهات ... فما تحل في نفسي خاطرةٌ أو شعورٌ حتى ترحل بسرعة وتترك المجال لغيرها ...

شعوري الأساسي الذي تحدثت عنه كثيرا ، وأَعدْتُه هو الشعور بالقوة بحمد الله عز وجل، شعرت أني (( آويت إلى ركن شديد )) ، وأني (( لذت بجناب عظيم ))، وأني رابض في عرين الأسد، أصبحت أنظر إلى الدنيا من قمة عالية، وأشعر بتفاهتها، وحقارتها، كما جَسَّدَها الباري عز وجل بقوله:﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [ الحديد : 20 ] ﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [ الرعد:26 ]، ﴿وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزخرف:35 ] لم تَعدْ تَفِ الكلمات في وصف بؤس وفقر وتفاهة هذه الحياة الدنيا، تخيلوا هذا الشعور مع شعور العبد المدلل، الذي يجلس في عرين الملك، ينظر باستخفاف إلى كل ما حوله، كأنه في قمة السماء، قمة الملك والملكوت، ينظر إلى دنيا لا تساوي جناح بعوضة، إلى دنيا هي عبارة عن حفنة من الهشيم المحتظر، حفنة من الرماد المتناثر ... 

نعم إنه العبد الذي لاذ بجناب الله عز وجل، آوى إلى ركن عظيم، آوى إلى منعة وعزة، آوى إلى قوة مطلقة، وغنى مطلق، أصبح عبداً ربانياً ﴿ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [ آل عمران:79 ] فإن مات أو عاش، أو شُفي أو مرض، فإنما هو في قبضة الله عز وجل ومُلْكه، بين يدي عظمته وجبروته، لم يبق ثمة دنيا وآخرة، وموت وحياة، بقي الله عز وجل وحده ﴿ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [ الرحمن : 27 ] ، وعبده المدلل المستكين بين يديه، المستسلم لأمره، المستميت أمام عظمته، إنه كالطفل الضائع الهائم الذي وجد حضن أمه . 

هذا هو حال العبد المؤمن بالله عز جل في تلك اللحظات، تُرى ما هو حال الملحد؟ لمن يلجأ الملحد؟ أين يلوذ الملحد؟ بمن يستجير في هذه اللحظات الصعبة؟! 

لا يستطيع الإنسان أن يتكبر ويتنكر في هذه اللحظات، مهما كان متجبراً ومتكبراً، لا بد أن تستيقظ في داخله عبوديتُه شاء أم أبى ؟ اختيارا أو اضطرارا، لا بد أن يستيقظ ضعفُه، وتستيقظ هويتُه اليائسة، وتصحو طبيعته البائسة الحزينة، ربما يستطيع أن يستمر في التجاهل والنكران، ولكن إلى متى؟ لن يستطيع الاستمرار، لا بد أن تدمعَ عيناه، وتخورَ قواه، ويستسلمَ لضعفه، ويبدأ بالبحث عن الملجأ والملاذ، كما قال الله عز وجل: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [ يونس: 22 ] 

إلى من تلجأ في مثل هذه اللحظات حين يحيط بك الموت أخي الملحد ؟

والملاحدة نوعان إخواني الكرام : 

نوع متكبرٌ، متجبرٌ متعالٍ على الله عز وجل، ومتعالٍ على الحقيقة، لا يبحث عن الحقيقة، ولا تهمُّه أصلا، بل وضعَ بينه وبين الحقيقة سدًا من الكبر والطغيان، و يتحدى الباري سبحانه وتعالى، ويتحدى الحقيقة، ويتحدى كل شيء، بل إن بعضهم لشدة طغيانه يطلب من الله عز وجل أن يَرميَ به جهنم، وأنه لا يريد معرفة الحقيقة ولا تهمُّه . 

ونحن إذا نظرنا في القرآن الكريم سنجد أن هذا النوع من الملاحدة والكفرة المتكبرين هم الذين يُبكِّتهم القرآن ويتوعدهم، ويتهددهم بالعذاب، ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [ الأعراف: 146 ] وأنه سبحانه تَوعَّدَهم بالإضلال والخذلان، لأنهم يرفضون الحقيقة من حيث المبدأ . 

النوع الثاني: من الملاحدة يمكن أن نسميهم الملاحدة المتواضعون، الذين يبحثون فعلا بكل صدق عن الحقيقة، يبحثون عن الله عز وجل بكل تواضع، ويتمنون لو أن الله عز وجل يهديهم، ويدلُّهم على الحقيقة، هؤلاء إن كانوا صادقين في بحثهم، ولا تحجزهم الأهواء والمصالح والشهوات غالباً يصلون إلى الإيمان بالله عز وجل، وغالباً تنتهي حياتهم بالهداية، وعلى كل الأحوال حتى لو ماتوا وهم يبحثون عن الحقيقة بصدق فإن الله عز وجل أرحم من أن يُعذبهم، ونحن نكِلُ أمرهم إلى الله عز جل، فقد يعذبهم، وقد يختبرهم، وقد يعفو عنهم: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾[ الأنبياء: 23 ].

هذا النوع من الملاحدة هم إخواننا في الإنسانية، وليس بيننا وبينهم مشكلة، ونرجو لهم الهداية والرشاد، ونرجو من الله عز وجل أن يهديهم، ولو في آخر لحظة من حياتهم، ونرجو من الله عز وجل أن يتوبَ عليهم، ويدخلهم الجنة، فهذا يَسرُّ كل مؤمن، ولا يضيّق علينا في جنة عرضها السماوات والأرض . 

وسؤالي هو موجه لهذا النوع من الملاحدة، في لحظات الموت الأخيرة التي لا يبقى فيها إلا الإنسان وهو يواجه مصيره الحتمي والنهائي، ماذا تنتظرون؟ إلى من تلجؤون؟ بمن تستجيرون؟ كل الذين كانوا يحبونكم ويحترمونكم سيقفون بعيداً عنكم، سيقولون: لروحه السلام، او الخلود أو غير ذلك ثم ينسونكم ؟! وكل الذين كانوا يشيدون بكم وبإلحادكم، ويصفونكم: بالمفكر الكبير، أو الفيلسوف العظيم، أو يصفونكم : بالشجاعة، والتمرد على المعتقدات البالية، كل هؤلاء انتهى دورهم الآن، وأصبحتم وحدَكم في مواجهة الحقيقة، والنهاية ؟ فماذا أنتم قائلون؟ وماذا أنتم فاعلون؟ وإلى من ستلجؤون؟ وبمن تستجيرون؟ الأمر جِدُّ حقيقة، ولا تنفع هنا المكابرة، إنه سلطان الموت الذي لا مفر منه . 

هل تعتقدون أن العدم هو المصير ؟ وأن الإنسان سينتهي ويتلاشى بعد الموت فلا يوجد ثمة شيء ؟ أيُعقلُ هذا أيها الأخ الملحد؟ أيليق العدم بهذا العقل البشري المحدود ؟ فضلا عن العقل الإلهي العظيم ؟ !ما يعيشه الإنسان طوال حياته من معقولات ودلائل وحكم وعجائب من المعقولات والمخلوقات على مستوى هذا العقل البشري المحدود يقول لنا: إن العدم نقص لا يليق بالإنسان، وما حباه الله عز وجل به من نعم ودلائل وبراهين، فكيف يليق العدم إذا ما انتقل العقل إلى رحابةٍ أوسع من التفكير بالكون وعظمته وتاريخه وما يحمله من دلائل وعبر وعقل وعظمة ؟!

ربما يتساءل الملحد فيقول: لم أجد في هذا الكون إلا الشرور والمصائب والآلام، فكيف يليق هذا بالخالق الذي تسمونه الله العظيم الكامل كمالا مطلقا؟! لذلك لا أستطيع الإيمان باله ناقص؟! والجواب على ذلك: لا شك أننا جميعا من المؤمنين والملحدين نبحث عن الكمال المطلق، ونبحث عن الخير المطلق والسعادة المطلقة. 

لكن السؤال للملاحدة: هل قال الله عز وجل أو وعَدَ في أي نسخة من نسخ الوحي الإلهي منذ آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الدنيا ستكون هي دار الكمال المطلق؟ هل وعد الله عز وجل على لسان أيِّ نبي من أنبيائه بأن الدنيا ستكون هي دار العدل والخير النهائي؟ إذا كان الله عز وجل قد قال ذلك، ووعد بذلك ثم لم يُحقّق وعده فإنه يكون قد أخلف وأخل بالوعد ونقض ما قال ((حاشاه سبحانه وتعالى )) .

لم يَعِدِ اللهُ عز وجل أبدا بأن الدنيا ستكون هي دار العدل والخير المطلق، بل الآخرة ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [ غافر: 39 ] ولمْ يَعِدْ ربنا سبحانه بأن الحياة الدنيا ستكون هي الحياة الحقيقية النهائية بل الآخرة ﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [ العنكبوت: 64 ] إذن ربنا سبحانه وتعالى منسجم مع رسله وأنبيائه وتعاليمه التي أرسلها لكل رسله وأنبيائه بلا تفريق بينهم، على مدى كل الشعوب والأنبياء والأمم . 

الدنيا دار ابتلاء واختبار وعذاب وامتحان بكل ما يتضمنه ذلك من قسوة وصعوبة، ربما لا تحتملها العقول والقلوب، أما الآخرة فهي دار الجزاء، دار الكمال المطلق، دار العدل المطلق، دار السعادة المطلقة، فما تبحثون عنه أيها الإخوة الملاحدة وما تطمحون إليه من خير مطلق، من عدل مطلق، من جمال مطلق، من سعادة مطلقة، من راحة مطلقة، وما نبحث عنه كذلك نحن المؤمنون هو أَمَامَنا وأَمَامَكم في الدار الآخرة، نعم إنه في الدار الآخرة،في ضيافة رب العالمين﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ [ القمر: 54- 55] هناك القضاء العدل والسعادة الأبدية، والشعور بالرضا والطمأنينة: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الزمر: 75 ] هناك الكمال المطلق، واللذة المطلقة، والخلود المطلق﴿ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ الزخرف: 71 ] وهناك الكثير من الأشياء الجميلة التي لا نعلمها والتي لم تخطر لنا على بال ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ السجدة: 17 ] وفي الحديث الصحيح : (( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) (1)

أخي الملحد: حتى لا تبقى وحيداً فريداً في مواجهة سلطان الموت، حتى لا تبقى عارياً حائراً ضعيفاً أمام سيف الفناء، حتى لا تبقى حزيناً صريعاً تعيش ألم الخذلان والوحدة والضعف والذل والهوان، حتى لا تبقى يائساً لوحدك، مُحْبَطاً في نهايتك، تتلفت باحثاً عن النجاة، باحثاً عن المعنى، باحثاً عن نفسك وإنسانيتك التي أهملتَها وضيَّعتَها، لا تزال هناك فرصة أمامك، فالله عز وجل يريدك، ويمدُّ إليك يده لينتشلَك من وهدة الضياع والشرود والضلال، بل إنه يمدُّ إليك حبلَه المتين، فقط تَمَسَّكْ به وستجد أنك أقوى، وأنك ذلك الإنسان العظيم الذي كان ضائعا، ستجد أنك وُلدتَ من جديد، وأن الحياة أجمل بكثير مما تظن . 

وأختم بالتذكير بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) (2) لو يعلم الملحد كم في هذا الحديث من المعاني التي ترفع من شأنه، وتُعلي من إنسانيته، وتَشُدُّه إلى ربه، لذاب خجلاً من الله عز وجل، وعاد إليه باكياً نادماً جاثياً بين يديه، حاثياً التراب على رأسه .

تعليقات