رئيس مجلس الإدارة

أ.د حسـام عقـل

جمال الخطيب يكتب: رؤية انبطاعية لقصة "علقة" للكاتبة مرفت البربري

  • أحمد عبد الله
  • الأحد 31 يناير 2021, 01:43 صباحا
  • 1068

للوهلة الأولى يبدو النص سلسا بسيطا ، فهو يخلو من الحبكة ، وعنصر التشويق ، اللذان يشدان القاريء ..وفي حقيقة الأمر أنه من ذلك النوع ( السهل الممتنع ) المليء بالنقاط على غرار أسئلة الثانوية العامة عندما كنا طلابا ، وما أن نخرج من قاعة الامتحان حتى تبدأ النقاط الكثيرة تتكشف ويبدأ اللغط . وهو أيضا على غرار القصص الغربية البسيطة التي تحمل الكثير ، والتي فتحت آفاقا في علم النفس والشخصية ، وكان لها الأثر ( نتيجة الوصف ) في اكتشاف أنماط الشخصية ، وأمراضها الاجتماعية والنفسية . قرأت العديد من ترجمات هذه القصص التي أعتبرها مفاتيح سلوكية ..صحيح أنني لا أحب دستوفسكي ، ولكن رؤيته في ( المراهق ، والأبله ) كانت مرجعا سلوكيا لدقته في وصف الشخصية .

لنعد الى النص :

بدا المدخل عاديا " ذات مساء برتقالي الغسق ....الخ " ..ثم " في لقاء رتبه كي يظهر في ثوب مصادفة " ..إذن نحن أمام شخصية تفكر وتخطط وترتب ، وليس شخصية عادية . تبدأ الكاتبة في الوصف الظاهري للبطل " إحدى قدميه عرجاء بوثاق جريمة ارتكبها " ..إذن هي حالة طارئة على جسده وليست متأصلة منذ الولادة ، وهذا سيغير طبيعة التحليل قليلا .." وذراعه مكسورة ...الخ " ..فهذا الكسر طاريء أيضا ، وطالما هي معلقة فالكسر يمكن إصلاحة ، ولم يشكل ندبا في الشخصية . إذن نحن أمام شخصية من نوعية ( صاحب الجنح .. المجرم ..المطارد ..خريج السجون ..اللص ..الخ ) . ولسنا أمام حالة ولدت بهذا الوصف ، وإلا لكان هناك عشرات الاحتمالات والرؤى . سأصفه ب ( الشخصية المنحرفة الصيادة ) ..التي تتقن فن الاستعطاف ، والتقرب عن طريق ادعاء الرغبة في التوبة ، والعودة الى الصلاح ..وذلك لهدف ما وضعه نصب عينيه ، وكانت فريسته الراوية التي عنونت النص ب ( علقة ) ..الحيوان الماص للدماء عن طريق الجلد . للنظر الى سلوك البطل لاحقا وعند أول اختبار ، فقد أراد مجاراة البطلة في ألعاب هو عاجز عنها ..هو لم يحاول ويفشل ، بل قفز مباشرة الى مضمار السباق معتمدا على قدرته ( كما اعتقد ) ، ثم فشل ، أولا وثانيا وثالثا ، وانسحب مؤقتا ليعيد الكرة عندما يقوى عليها ، ولهذا اتصل لاحقا ..كان متسرعا ، وأراد أن يظهر بمظهر القوة على حقيقته السابقة ، وبهذا كشف نفسه .

الندوب الجسدية في عالم الجريمة لها أصول نفسية تربوية منذ الطفولة ، وهي ستلقي بظلالها على من حولها بصورة طاغية ، وستؤثر على حياتهم سلبا ..هي شخصية لها سلوك سلبي ولو لم يكن مباشرا ، وبعد أن تطمئن الى فريستها سيظهر لا محالة . الكاتبه تريد أن توجه رسالة معينة ، مفادها أن الندوب والكسور في الشخصية لا يمكن إصلاحها ، او تلافيها ..ولو نجحنا في اصلاح عطب ، فسنفشل في الآخر ، ثم ستضيق الدائرة المهشمة حتى تغدو الشخصية عبئا أو كارثة على من حولها .

كانت الإسقاط على المزهرية ذكيا ، فهذه الكسور فيها ربما تجرحك ، وبعدها قد تضيق عليك المنزل ، ولا تعود ذات فائدة . بمعنى أو بآخر ، لا تصدقي أو تتزوجي منحرفا ، أو لصا أو متعاطي مخدرات أو شاذا أو خريج سجون احترف السجن ..ولو فاتك قطار العمر ، فهو سيحيل حياتك الى جحيم . أتقنت القاصة القفلة بكل ذكاء وبساطه ، بأن ( أقفلت الهاتف )، وبالتالي الطريق الى بابها عليه ..فلا داعي للألم ، أو المزيد منه . أحببت النص ، فهو بسيط ورائع ..رسالة بمنتهى الذكاء . عَــلَــقَـــة ذات مساء برتقالي الغسق، تأصلت شمسه وأطلت من الغروب، التقيته في لقاء رتبه كي يظهر في ثوب مصادفة،، كانت إحدى قدميه عرجاء، والأخرى مشدودة بوثاق جريمة ارتكبها، وإحدى عينيه قد جذب الحوّل مقلتها إلى اليسار، وذراعه مكسورة معلقة بعنقه بحبل متراخٍ لا يقيم اعوجاجا نتج عن كسرها، جاء ينشُد في قربي استقامة لهيكله الذي نخر العطب كل أجزائه. قال : أريد جبرا لكسري، وعين صديق تهديني السبيل، وسند يقيم أود عوجي. قلت : وما الصديق إلا العون والسند . لملمت شتات نفسه التي مزتقها يد التيه، سرت معه بضع خطوات في الطريق انتظمت خطواته بنظم خطوتي، كنت في الصباح التالي لذلك اليوم على موعد لسباقات عدة في ميادين أجيدها، سباق عدو، ومسابقة رماية، وأخرى للرسم، رافقني صديقي المشوة في تلك السباقات، وقف غير بعيد يتابع تفوقي، فظن برفقتي انه استقام، وباستناده على قامتي انه سليم، حاول أن يجاريني في سباق العدو فكسرت ساقاه ، وفي نزال الرماية أمسك بالسلاح وسدد رميته تجاه وجهه ففقأ عينه المبصرة ، وفي مسابقة الرسم نظر في المرآة فرسم خنزيرا مشوها... تذكرته بينما كنت أُعد قهوتي الصباحية ، سمعت أثناء إنشغالي بالمطبخ صوت شيء يتكسر، هرعت إلى مكان الصوت فوجدت قطتي قد اصطدمت بمزهريتي الأثيرة فكسرتها، ابتلعتني غصة الحزن، وأغرقني دمع الأسف، ربتُّ على رأسها وأبعدتها في حجرة أخرى كي لا تتأذى، وعدت ألملم الشظايا الصغيرة، لففتها في ورقة ثم في كيس سميك وآخر شددت وثاق عنقه، ووضعته في قعر سلة المهملات كي لا يؤذى أحدا، أمسكت بالقطع الكبيرة وجلست أجمعها لأرى كيف أرتق البقايا، هي المرة الثانية لإعادة تدويرها، فسيرتها الأولى كانت عندما أُهدتيها.. كبيرة الحجم تسكنها أفنان لأحلى الزهور، فوضعتها في واجهة حجرة الاستقبال، وبعدما ارتطمت بها يد أخي جمعت الكبير من أجزائها فكانت مزهرية تليق لطاولة جانبية في غرفة المعيشة تكفي لزهرات قليلة. ها أنا أنهيت ترتيب صورتها الجديدة بمادة لاصقة وأشرطة ملونة تخفي آثار الصدمة، ربما تتسع لزهرة أو زهرتين وسأودعها مكانًا قصيًا في غرفتي، ما عاد هناك مجال لإعادة تدويرها، فقد قل عدد ما يمكن تجميعه من جسدها المكلوم، وقلت حيلتي في إعادتها للحياة، تقلص عدد سكانها من الأزهار، فتوارى مكانها، بعد فراغي من عملي رأيت ندوبًا استوطنت راحتي بجوار سابقات كانت نتيجة تضميد القديم من جراح مزهريتي. رن هاتفي، أمسكت به فوجدت رقم رفيقي الأعرج، آلمني جرحي الذي لن يندمل فقمت بحظر الرقم وألقيت به في غيابات الذاكرة.

تعليقات