حسام عقل يكتب: «خير الله الجبل» .. مرآة كاشفة للهرم المقلوب
غلاف العمل
أبرز المفكر الجمالي " لوكاتش " ( 1885 _ 1971 ) _ في مجمل منجزه النقدي _
وثاقة العلاقات العضوية المترسخة بين " النص الروائي " من وجه ، و زخم "
الحراك الاجتماعي " المتنوع من وجه آخر ، و ما ينجم عن هذا التفاعل السديمي
الكبير من أنساق و رؤى ، تتجلى بحركة بندولية متوترة بين النص و المجتمع ،
تأثيرا ً و تأثرا ً . و قد أعاد الناقد البنيوي " لوسيان جولدمان " (
1913 _ 1970 ) ، في صلب نظريته النقدية ، تشكيل هذه العلاقة البندولية
المتوثبة ، مجددا ً ، من خلال منظوره الجديد للحراك الطبقي المتأزم في
المجتمعات الإنسانية ، و ما يلابس هذا الحراك الطبقي من صراعات و تداعيات و
انحيازات إيديولوجية ، تحاول من خلالها كل طبقة فرض نموذجها المعرفي و
الاجتماعي و الحضاري و المذهبي ، و هو ما حدا به إلى تذكيرنا بحركة "
الجانسنزم " ( حركة دينية ظهرت في القرن السابع عشر ) و كيف انطبعت آثارها
على الصراع الطبقي و تجليات الإبداع الروائي الممتدة إلى القرن التاسع عشر .
و تجلى ذلك بصفة خاصة في كتابه : " الإله الخفي " . و عاود " جولدمان " من
خلال منحى البنيوية التوليدية و رؤيتها الفريدة ، تحليل هذه العلاقات
المتفاعلة ، بجدلها الحي ، بين " النص " و " الحراك المجتمعي / الطبقي " في
سياق تحليله لنصوص " أندريه مارلو " ، و تحول قوس البطولة من المنحى
الفردي _ كما في روايتي : " الغزاة " و " الطريق الملكي " _ إلى المنحى
الاجتماعي الرحيب _ كما في رواية : " الوضع الإنساني " _ لتظل نصوص " مارلو
" شاهدا ً حيا ً على هذا التحول و التفاعل النامي .
و قد انطبعت هذه
العلاقات الحية اللاحمة بين السرد و المجتمع ، بثنائياتها المتعارضة و
جدلها المتصل ، على السرد المصري في العقدين الأخيرين ، بقوة ووضوح ، حيث
نجم عن السياق الانفتاحي المتفجر منذ السبعينيات في المجتمع المصري ، تحول
جذري في هرم الحراك الطبقي ، و مثلثه الكبير ، فدار هذه الهرم الطبقي حول
ذاته نصف دورة _ لا دورة كاملة ليعود إلى وضعيته الطبيعية _ و نجم عن ذلك
أن تنكس على رأسه بدل أن ينتصب على قاعدته ، و هو ما تهاوت معه الطبقة
المتوسطة إلى قرارة القاع ، فيما وثبت طبقات طفيلية ضحلة تملك الريع دون
الثقافة و المنظومة القيمية البناءة _ بطفرة مذهلة _ لتتسنم مرقاة الهرم
الطبقي و تتربع فوقه ، و تفرض أنساقها و فكرها و تحيزاتها الإيديولوجية /
الطبقية الجديدة .
و تضافرت روايات مصرية طليعية ، لترصد هذا
الانتكاس الطبقي الهرمي ، و تتقصى نتائجه و آثاره البليغة المنطبعة على
إنسان الطبقتين : المتوسطة و الدنيا ، و رؤاه و مشروعه الوطني بعد أن نقضت
الحركة المجتمعية غزلها على نحو صادم ، فرجحت كفة " رأس المال " الجديد ،
بحضوره الطفيلي و توحشه في التغول و ضراوته في سحق الطبقات المغايرة
لموقعه .
و قد كانت رواية : " خير الله الجبل " للقاص " علاء
فرغلي " ، من جملة النصوص السردية الطليعية التي رصدت هذا الحراك ، و تقصت
فضاءه الدرامي المواكب ، و تتبعت في مساره الملحمي المحتقن ، ما رشح على
الإنسان المصري من نتائج عميقة الأثر ، جراء هذا الحراك الطبقي الموار منذ
العقد السبعيني ، و الذي وصل على عتبة الألف الميلادية الثالثة إلى تداعيات
مدمرة ، سقط معها إنسان الطبقة المتوسطة عن عرشه الصداري ، و تراجع إلى
الذيل ، فسحب معه الخطابات الدينية و الإعلامية و التربوية و التعليمية و
السياسية و الاقتصادية ، إلى مواقع التراجع ذاتها ، ووحده بقي رأس المال
السياسي الجديد على قمة الحركة المجتمعية عبر ما يزيد عن ثلاثة عقود ،
يصنع لحنه الغليظ ، و يواصل هيمنته الشاملة ، و يستمر في إحكام قبضته على
بوصلة الحركة و الوجهة و الأنفاس !
عبر نحو من أربعمائة و
اثنتي عشرة صفحة ( و هو حجم ملحمي لا يقل في عملقته عن الملحمة الاجتماعية
التي يرصدها ) ، مضى " علاء فرغلي " يرسم بضربات ريشته اللاذعة ، هذا
الحراك المجتمعي ، بمثلثاته المنكسة ، و أهراماته المعكوسة ، من خلال ملحمة
عزبة " خير الله الجبل " ، التي توصف في الأدبيات الإنشائية / المعمارية ب
" المنطقة العشوائية " ، و تقصى مع هذا الرصد الملحمي الكبير ما يطبع حركة
" العشوائيات " في مصر من مخاضات و مرارات ، و علاقات شاذة ، و صراعات
مكتومة و معلنة .
مضى الرواي بضمير الغائب " third person
narrative بحركته الموارة ، تجسيدا ً للأحداث و رسما ً للشخوص و تشكيلا ً
لدوامة الصراعات الدرامية الكبيرة ، حيث رست حركته عند أربعة محاور ، أو
أربع مناطق رسو إستراتيجية كبيرة :
أولا ً : تجسيد دلالة الشق
الطبقي الضخم _ بمظاهره و تجلياته _ من خلال عدسة إنسان العشوائيات بحركة
مزدوجة تعتمد الإضاءة المتزامنة و المتوازية لحراك طبقتين متعاديتين _
خصوصا ً في الثلث الأخير من الرواية _ حيث لم تتمكن النخبة الطليعية من عقد
أية مصالحات أو تفاهمات بينهما .
ثانيا ً : تبئير الضوء و
إراقته بكثافة على فضاء العشوائيات _ عبر كاميرا سخية التفاصيل _ بما يلابس
هذا الفضاء من قهر و إحباط و تطرف و أحلام مجهضة . و كانت حركة الكاميرا
في هذه الرقعة بالضرورة " حركة فردية " ، تباشر إراقة الضوء على طبقة وحيدة
، تتبنى رؤيتها ، و تنطق بأشواقها . و قد هيمن هذا المسح السردي الشامل
على الثلثين الأولين من الرواية .
ثالثا ً : تسريب خيوط الضوء
بذكاء و حصافة ، على الجيوب البرجوازية المتنوعة ، فضلا ً عن جيوب رأس
المال السياسي ، و العوالم المغلقة الغامضة لرجال الأعمال ، و هم يباشرون
شفرة شبه سرية ، لا يفض معمياتها إلا هم ، و لا يفهم معادلاتها المرمزة إلا
هذه الشريحة الغامضة ، التي أطلق عليها في مستهل العقد السبعيني " القطط
السمان " ، و تغيرت أسماؤها عبر عقود لاحقة !
رابعا ً : تحريك
قوس المواجهة بين الفئات المهمشة ، و المجتمعات الفوقية / المخملية لرجال
الأعمال . و هو ما تجلى _ بتأزم واضح _ في مشهد اجتياح عزبة " خير الله
الجبل " بالبلدوزرات . و يعد هذا المشهد الدامي ذروة التصعيد في النص ، في
المستويين الدرامي و السوسيولجي معا ً .
بدأت الرواية قدح
شرارة الأحداث من مشهد سقوط " بيت المعصرة " على رأس الأم التي لفظت
أنفاسها الأخيرة تحت الأنقاض ، و خلفت طللا ً رمزيا ً ، استثمره الراوي ،
بقوة ، في الحلقات و المشاهد السردية اللاحقة . و غاصت الكاميرا _ بما يشبه
المسح الراداري الكبير _ في عمق القوقعة العشوائية ، بسماتها الفوضوية و
شذوذها الإنساني و نضالاتها الرهيبة التي تنافح تحت السطح ، لتضع _ بخلع
الأضراس _ خيشوما ً فوق سطح الماء تشم به بعضا ً من الأنسام ! و قد تجلى
جزء من هذا النضال الفروسي في مسلك المرأة المناضلة " صالحين " ، و هي
تدافع بأظافرها عن حق الأسرة في الحياة ، حيث بقي الصغير " علي " _ بتعبير
الراوي _ " .. يطن كنحلة بين أزهار يابسة .." ( ص 14 )
و لأن
أناس العشوائيات _ كما في " عزبة النخل " _ يتلفتون حولهم ، فلا يجدون سوى
" الكلاب المسعورة " و " الصخور الوعرة " ، فقد انتقلت أحلامهم الصاعدة ،
برفيفها المجنح ، من سطح الواقع المسنون الدامي ، إلى فضاء الميثولوجيا
الشعبية ، التي تجمح بالخيال الفانتازي المتهوس ، و ترسم أيقونة مستترة في
الغيب ، و تبدى ذلك فيما أشاعه الجدود في أروقة العزبة العشوائية ، من
أمثولة مدارها كنز اليهودي " خير الله الجبل " ، و هو الكنز الذي " دفسه في
الطاحونة قبل هجرته إلى إسرائيل ...." ( ص 14 )
لم يستطع
كثيرون في " خير الله الجبل " أن يعوا بوضوح ، أو يتقبلوا بتفهم ، ما تصنعه
" صالحين " _ لتنجو بأسرتها في عين العاصفة _ فنسبوا إليها ما أسماه
الراوي : " دقة عبط " ( ص 18 ) ! فلم يعتد كثيرون في فضاء الصراع الطبقي
الأسود هذا النمط من التضحية ، و لا دار بخلدهم أن يرفع إنسان ما مستوى
عطائه السخي إلى هذا السقف ! و لم تستطع " صالحين " أن تجني من السواد
الأعظم للقوقعة العشوائية سوى السخرية أو التبلد أو _ في الحد الأقصى _
التعاطف الكسيح الصامت ، فيما بقيت تلاحقها الضحكات الهازئة من " الشيخ
يونس " ، و هي الضحكات التي تشبه : " كركرة الجوزة السوهاجي .." ( ص 19 )
فيما يرى الراوي / المشاكس .
لم يفت الراوي أن يريق ضوءا ً
كاشفا ً على فنون " إنسان العشوائيات " و جمالياته الخاصة ، و هي _ في
الأعم _ " جماليات القبح " ، حيث ظهر الصغير " علي " في مدرسته و هو يرسم "
قطارا ً يقف قرب عامود معدني يحمل لافتة ، كتب عليها : " خطر الموت " ! (
تجسيد لبعض فنون المهمشين داخل العزبة ) فيما تسعى " صالحين " لنقله إلى
مدرسة " المعصرة " ، فكانت الترحالات و التنقلات المعنتة ، جزءا ً عضويا ً
دالا ً من نضال " صالحين " فارسة القوقعة دون منافس : " .. أيام كانت
خلالها تحمل محمدا ً على كتفها ، و تجر " مصطفى " في كفها تقطع الطريق
القبلي .. ، و بعد سبع محطات متتالية تنزل المعصرة .." ( ص 23 )
لجأ
الراوي ، و هو الذي آنسنا قدرته على التعبير الجزل و الإيجاز المكثف ، إلى
بعض " الثرثرة المتعمدة " في بعض المقاطع الروائية ، متماهيا ً ، في تشاكل
بنيوي لافت ، مع " ثرثرة شخوص العشوائية " في هذا العالم المهمش / المنسي ،
فكان هذا التشاكل مفضيا ً _ في تكثيفه و تناميه _ إلى تماهي سمات الراوي و
الشخوص عن قصدية و عمد ، بما جاوز معه الراوي مربع التعاطف مع صرخات
المهمشين النازفة ، إلى مربع التقمص التام ، و تبني رؤيتهم ، بأدق خصائصها و
مناحيها .
و قد حتمت هذه السمة / التشاكلية ، أن يغذي الراوي "
أداءه الأسلوبي " ببعض من العصير الشعبي للدارجة ، ليثرى نسغ " السرد "
نفسه _ لا الحوار فحسب _ بطعوم العامية و مذاقاتها الحريفة المتوائمة مع
نزق القوقعة و حسها التمردي الطافح ، كقوله عن الشيخ " يونس " : " سيعمل
ليلة لله مثل الليلة التي عملها " أبو ياسين " ( عمنوِل ) عندما أنجب
ولدا ً .." ( ص 24 ) .
لم ينس الراوي أن يشير إلى أن السبيكة
الاجتماعية _ في العشوائيات _ يمكن في لحظات المد الوطني أن تكون متماسكة ،
متصالحة مع ذاتها ، في غير احتياج إلى سرادقات الخطابة أو الوعظية
الإعلامية المسطحة التي تفيض بها الميديا تغريدا ً ل " الوحدة الوطنية " ،
فقد كان المداح " مكرم " هو الذي يغرد بالمدائح النبوية في فضاء العزبة ،
قبل أن نتبين ، لاحقا ً ، أن اسمه : " مكرم جبرائيل غالي " ، و هي القيثارة
ذاتها التي عزفت عليها الجارة " بطرسة " ، ففهمنا من مسارات الأحداث و
طبيعة العوالم القصصية المستدعاة ، أن التوتر الطائفي ، ( لقاح غريب ) لم
تجد به أرض العشوائيات ذاتها ، و إن حاولت الكيانات الدخيلة بذره في قلب
تربتها !
مضى بنا الراوي في رحلة " صالحين " إلى " خير الله
الجبل " ، و كأننا بإزاء " أوديسا " جديدة / معصرنة ، ترسم معلما ً
لملحمة مميزة ، حيث اجتاز بنا _ عبر مسارات رحلتها الملحمية _ ما بين " مدق
جبلي " و " جبانات البساتين " و " التونسي " و " السبع بنات " ، لتصل إلى
محطة الرسو ، بعد عنت كبير ، و نجح الراوي من خلال مواكبة المرتحلين
بالكاميرا في أن يباشر مسحا ً طوبغرافيا ً مذهلا ً للمكان السفلي / الموحش ،
بحس غرائبي لافت .
كان الراوي مصرا ً _ حد الإلحاح _ على أن
تظهر رحلة " صالحين " مع أخواتها الأربعة ، في مظهر ( الملحمة ) الكبيرة ،
التي تزيح العقبات من طريقها بمنحى بطولي ، و كأننا بإزاء " أوديسيوس "
جديد ، يطمح إلى العودة إلى وطنه : " إيثاكا " ، مجددا ً. و لا عجب أن يكيف
الراوي أداءه الأسلوبي ، عند هذه المحطة ، مع مفردة المعارك الحربية و
معجمها الخاص : " .. رحلة الجندي في الطريق إلى الالتحام بعدو لا يعرف عنه
الكثير ، و لم يستعد له كما ينبغي دون مؤونة أو خطط إمداد أو خطة انسحاب
احتياطية . بعد دقائق ستنتهي الرحلة و تبدأ حياة جديدة .." ( ص 37 )
و
كان وجود " الضبع " فتوة المنطقة مؤذنا ً باستيحاء ( عدالة الشارع ) ،
التي تقتص لذاتها بالمدى و الهراوات ، و توزع مراكز القوى بشكل قبلي أو
عائلي ، فإذن الضبع _ أو أحد رجاله _ شرط ضروري لشرعنة الخطوة أو الفعل أو
تشكيل علاقات الصداقة و العداء في قوقعة العشوائية ! ( و لا مفر هنا من أن
نقول إن " نجيب محفوظ " قد استنفد هذه المساحة في سرده بما حرم هذه الرقعة
من رواية فرغلي من أية مساحات للإدهاش أو مباغتة المتلقي بشيء)
أضاف
الراوي إلى فضاءات السرد ، فلذات توثيقية حية للمنطقة _ بما يؤكد أنه درس
المنطقة ( مسرح الحدث ) جغرافيا ً و تاريخيا ً ، و أعد لها سجلا ً
أرشيفيا ً معقدا ً متكاملا ً قبل الشروع في كتابة النص _ ففهمنا مثلا ً أن
المخرج الراحل " نيازي مصطفى " قد صور فيلم " عنترة بن شداد " عام 1960 في
هذه المنطقة قبل عقود ، و قبل أن يزحف إليها هذا العمران الفوضوي ، و ليس
ثمة مبالغة في أن نقول إن هنالك مقاطع روائية حية قد تحولت إلى ريبورتاج /
سردي يؤرخ للشخوص و الأزمنة و الأمكنة بمنحى معلوماتي راسخ ، يمكن الوثوق
من صحته .
سحبنا الراوي _ بسعة حيلة _ بعد أن لاحم خيوط الصراع
الهيكلي الكبير الذي مدار ه خندقان متقابلان ، يتراكم في كل منهما خصائص
طبقة بعينها ( و تغدو الرؤية الفنية هاهنا " ضمير طبقة " كما يقول
جولدمان ) _ مازلنا في رحاب التحليل البنيوي السوسيولجي بمفهوم البنيوية
التوليدية _ و ليفتل الراوي الخيوط في النهاية بتمكن مخضرم في جديلة
صراعية واحدة ، و لنصل إلى نقطة الصدام الدامية في صراعات الكتل الطبقية
الماثلة و خرائطها المتداخلة في النص ، و قد تجلى ذلك في مشهد ( اقتحام
البلدوزرات ) للعزبة ، لتنفيذ قرار إزالة _ بالقوة الجبرية _ و تسليم
الأرض للشركة صاحبة حق الانتفاع ( ص 108 ) حيث نجح الأهالي _ خصوصا ً
الصبية _ في إجبار القوات و البلدوزرات على التراجع . و لم يكف الراوي مع
رمزية الحدث و دمويته ، عن السخرية النزقة من شخوصه و عوالمه المنسوجة ، بل
إنه _ بخفة ظل لا تخلو من الشكاس _ عنون لبعض الفصول بأغنيات شعبية ( من
مثل : " كتاب حياتي يا عين ) . و قد كان الراوي _ كما يبرز في تعليقاته
المهاترة / اللاذعة _ واعيا ً بضراوة الظروف البيئية المحيطة غير المحتملة
في العزبة ، لكنه حرص ، بالقدر ذاته ، على تذكيرنا بمنطق " التلون الحربائي
" القادر _ غريزيا ً _ على مجاراة البيئة أو تحملها : " .. يشب الصبي في "
خير الله " ، و سرعان ما تنمو له مخالب حادة ، و لسان أطول من عمر أجداده
..." ( ص 246 )
و تترسخ الأخطار المحدقة و تتعاظم ، فيناهضها
أناس العزبة ب " الكبريت الأحمر " و الرقية حينا ً ، أو بالتلاحم صفا ً
واحدا ً حينا ً ، أو بمحاولة الفهم و الوعي بمدركات البيئة المحيطة حينا ً ،
و يوثق الراوي هنا _ بالحس المعلوماتي ذاته _ لعملية مد الطريق الدائري
الكبير إلى عزبة " خير الله الجبل " حيث تتم البلدية حصر البيوت الداخلة في
الطريق الجديد بالعلامات الزرقاء و الصفراء ، فضلا ً عن " البيوت الناجية "
.
و من الإنصاف القول إن الراوي قد نجح ، بتشكيل البنية و
تكييف أنساقها و عناصرها ، و رسم الشخوص _ بشكل استقطابي حاد _ أقول نجح في
أن يجسد ، بما يجاوز الوضوح ، خطوط الخارطة الطبقية المحتقنة في فضاء
متوتر يحن _ بالتياع _ إلى العدالة الاجتماعية و ينشق عطرها أو حتى يتتبع
ظل هذا العطر ، و من الإنصاف كذلك القول إن الراوي قد حول كثيرا ً من
المشاهد إلى " يوتوبيا سوداء " ( يبيع " سيد زكريا كليته بخمسة آلاف جنيه !
) ، فأسقط سرده و شخوصه في قلب العتمة ، لكن الإنصاف ذاته يقتضينا
الاعتراف بأن نجاح " صالحين " في أن تشق الشعرة ، و تفتح في العتمة ثقوبا ً
للأمل ، حين وصلت بإخوتها إلى ممالك المناصب المرموقة ، يمثل بقعة ضوء
باعثة على الأمل في هذه الفضاءات الداكنة ، و قد عمقت " صالحين " معنى
الانتصار النضالي _ و لو كان جزئيا ً _ حين رفضت بشمم " قبول أموال
المساعدة و الزكاة ( ص 362 ) لتؤكد ، من بين أنقاض طبقتها الجريحة ، أن
الراية البيضاء لم تشهر بعد . و أن الطموح إلى ارتقاء النجاحات و الصعود
إلى سطح المياه _ و الحياة ! _ سيظل حلما ً يراود هذه الطبقة ، و يستوطن
مخيالها . و إذا كان النص _ كما يقول " إمبرتو إيكو " _ " آلة كسولة " ، و
إذا كان هذا يرتب على المتلقي _ كما يقول " إيكو " في : " ولوج الغابة " _
أن ينهض بتبعة " ملء الفجوات " ، فإن من ألزم الأمور أن نقوم ، بوعي
القراءة ، بتعدية النص من مستوياته الجزئية ، خروجا ً من قوقعة العشوائية ،
لنلحم المشاهد بالمشهد الاجتماعي الضخم في أوطاننا ، حيث نتأكد أن الشق
الطبقي الكبير ، لن يكون أبدا ً طريقا ً لاحبة للمستقبل ، و لنتأكد أن ثمة
جهدا ً كبيرا ً يتعين أن يبذل لننقض الثنائية التي طرحها " فؤاد نجم " من
قديم ( مصر العشة / و مصر القصر ) ، لتصبح الطبقتان نبض مسيرة ملحمية واحدة
على جسر واحد ، يصلنا بوعود العدالة و المساواة و تقاسم الخبز و الرفاهية
للجميع .