حسام عقل يكتب: «خير الله الجبل» .. مرآة كاشفة للهرم المقلوب

  • د. حسام عقل
  • الإثنين 27 مايو 2019, 07:56 صباحا
  • 1604
غلاف العمل

غلاف العمل

أبرز المفكر الجمالي " لوكاتش " ( 1885 _ 1971 )  _ في مجمل منجزه النقدي _ وثاقة العلاقات العضوية المترسخة بين " النص الروائي " من وجه ، و زخم " الحراك الاجتماعي " المتنوع من وجه آخر ، و ما ينجم عن هذا التفاعل السديمي الكبير من أنساق و رؤى ، تتجلى بحركة بندولية متوترة بين النص و المجتمع ، تأثيرا ً و تأثرا ً . و قد أعاد الناقد البنيوي " لوسيان جولدمان "  ( 1913 _ 1970 ) ، في صلب نظريته النقدية ، تشكيل هذه العلاقة البندولية المتوثبة ، مجددا ً ، من خلال منظوره الجديد للحراك الطبقي المتأزم في المجتمعات الإنسانية ، و ما يلابس هذا الحراك الطبقي من صراعات و تداعيات و انحيازات إيديولوجية  ، تحاول من خلالها كل طبقة فرض نموذجها المعرفي و الاجتماعي و الحضاري و المذهبي ، و هو ما حدا به إلى تذكيرنا بحركة " الجانسنزم " ( حركة دينية ظهرت في القرن السابع عشر ) و كيف انطبعت آثارها على الصراع الطبقي و تجليات الإبداع الروائي الممتدة إلى القرن التاسع عشر .


و تجلى ذلك بصفة خاصة في كتابه : " الإله الخفي " . و عاود " جولدمان " من خلال منحى البنيوية التوليدية و رؤيتها الفريدة ، تحليل هذه العلاقات المتفاعلة ، بجدلها الحي ، بين " النص " و " الحراك المجتمعي / الطبقي " في سياق تحليله لنصوص " أندريه مارلو " ، و تحول قوس البطولة من المنحى الفردي _ كما في روايتي : " الغزاة " و " الطريق الملكي " _ إلى المنحى الاجتماعي الرحيب _ كما في رواية : " الوضع الإنساني " _ لتظل نصوص " مارلو " شاهدا ً حيا ً على هذا التحول و التفاعل النامي . 


 و قد انطبعت هذه العلاقات الحية اللاحمة بين السرد و المجتمع  ، بثنائياتها المتعارضة و جدلها المتصل ، على السرد المصري في العقدين الأخيرين ، بقوة ووضوح ، حيث نجم عن السياق الانفتاحي المتفجر منذ السبعينيات في المجتمع المصري ، تحول جذري في هرم الحراك الطبقي ، و مثلثه الكبير ، فدار هذه الهرم الطبقي حول ذاته نصف دورة _ لا دورة كاملة ليعود إلى وضعيته الطبيعية _ و نجم عن ذلك أن  تنكس على رأسه بدل أن ينتصب على قاعدته ، و هو ما تهاوت معه الطبقة المتوسطة إلى قرارة القاع ، فيما وثبت طبقات طفيلية ضحلة  تملك الريع دون الثقافة و المنظومة القيمية البناءة _ بطفرة مذهلة _ لتتسنم مرقاة الهرم الطبقي و تتربع فوقه ، و تفرض أنساقها و فكرها و تحيزاتها الإيديولوجية / الطبقية الجديدة . 






 و تضافرت روايات مصرية طليعية ، لترصد هذا الانتكاس الطبقي الهرمي ، و تتقصى نتائجه و آثاره البليغة المنطبعة على إنسان الطبقتين :  المتوسطة و الدنيا ، و رؤاه و مشروعه الوطني بعد أن نقضت الحركة المجتمعية غزلها  على نحو صادم  ، فرجحت كفة " رأس المال " الجديد ، بحضوره الطفيلي و توحشه في التغول و  ضراوته في سحق الطبقات المغايرة لموقعه . 

 و قد كانت رواية : " خير الله الجبل " للقاص " علاء فرغلي " ، من جملة النصوص السردية الطليعية التي رصدت هذا الحراك ، و تقصت فضاءه الدرامي المواكب ، و تتبعت في مساره الملحمي المحتقن ، ما رشح على الإنسان المصري من نتائج عميقة الأثر ، جراء هذا الحراك الطبقي الموار منذ العقد السبعيني ، و الذي وصل على عتبة الألف الميلادية الثالثة إلى تداعيات مدمرة ، سقط معها إنسان الطبقة المتوسطة عن عرشه الصداري ، و تراجع إلى الذيل ، فسحب معه الخطابات الدينية و الإعلامية و التربوية  و التعليمية و السياسية و الاقتصادية ، إلى مواقع التراجع ذاتها ، ووحده بقي رأس المال السياسي الجديد على قمة الحركة المجتمعية   عبر ما يزيد عن ثلاثة عقود ، يصنع لحنه الغليظ ، و يواصل هيمنته الشاملة ، و يستمر في إحكام قبضته على بوصلة الحركة و الوجهة و الأنفاس !  
عبر نحو من أربعمائة و اثنتي عشرة صفحة ( و هو حجم ملحمي لا يقل في عملقته عن الملحمة الاجتماعية التي يرصدها ) ، مضى " علاء فرغلي " يرسم بضربات ريشته اللاذعة ، هذا الحراك المجتمعي ، بمثلثاته المنكسة ، و أهراماته المعكوسة ، من خلال ملحمة عزبة " خير الله الجبل " ، التي توصف في الأدبيات الإنشائية / المعمارية ب " المنطقة العشوائية " ، و تقصى مع هذا الرصد الملحمي الكبير ما يطبع حركة " العشوائيات " في مصر من مخاضات و مرارات ، و علاقات شاذة ،  و صراعات مكتومة و معلنة . 

 مضى الرواي بضمير الغائب " third person narrative بحركته الموارة ، تجسيدا ً للأحداث و رسما ً للشخوص و تشكيلا ً لدوامة الصراعات الدرامية الكبيرة ، حيث رست حركته عند أربعة محاور ، أو  أربع مناطق رسو إستراتيجية كبيرة : 
 أولا ً : تجسيد دلالة الشق الطبقي الضخم  _ بمظاهره و تجلياته _ من خلال عدسة إنسان العشوائيات  بحركة مزدوجة تعتمد الإضاءة المتزامنة و المتوازية لحراك طبقتين متعاديتين _ خصوصا ً في الثلث الأخير من الرواية _ حيث لم تتمكن النخبة الطليعية من عقد أية مصالحات أو تفاهمات بينهما  . 



 ثانيا ً : تبئير الضوء و إراقته بكثافة على فضاء العشوائيات _ عبر كاميرا سخية التفاصيل _ بما يلابس هذا الفضاء من قهر و إحباط و تطرف و أحلام مجهضة . و كانت حركة الكاميرا في هذه الرقعة بالضرورة " حركة فردية " ، تباشر إراقة الضوء على طبقة وحيدة ، تتبنى رؤيتها ، و تنطق بأشواقها  . و قد هيمن هذا المسح السردي الشامل على الثلثين الأولين من الرواية .  

 ثالثا ً : تسريب خيوط الضوء بذكاء و حصافة ، على الجيوب البرجوازية المتنوعة ، فضلا ً عن جيوب رأس المال السياسي ، و العوالم المغلقة الغامضة لرجال الأعمال ، و هم يباشرون شفرة شبه سرية ، لا يفض معمياتها إلا هم ، و لا يفهم معادلاتها المرمزة إلا هذه الشريحة الغامضة ، التي أطلق عليها في مستهل العقد السبعيني " القطط السمان " ، و تغيرت أسماؤها عبر عقود لاحقة ! 

 رابعا ً : تحريك قوس المواجهة بين الفئات المهمشة ، و المجتمعات الفوقية / المخملية لرجال الأعمال . و هو ما تجلى _ بتأزم واضح _ في مشهد اجتياح عزبة " خير الله الجبل " بالبلدوزرات . و يعد هذا المشهد الدامي ذروة التصعيد في النص ، في المستويين الدرامي و السوسيولجي معا ً . 

بدأت الرواية قدح شرارة الأحداث من مشهد سقوط " بيت المعصرة " على رأس الأم التي لفظت أنفاسها الأخيرة تحت الأنقاض ، و خلفت طللا ً رمزيا ً ، استثمره الراوي ، بقوة ، في الحلقات و المشاهد السردية اللاحقة . و غاصت الكاميرا _ بما يشبه المسح الراداري الكبير _ في عمق القوقعة العشوائية ، بسماتها الفوضوية و شذوذها الإنساني و نضالاتها الرهيبة التي تنافح تحت السطح ، لتضع  _ بخلع الأضراس  _ خيشوما ً فوق سطح الماء تشم به بعضا ً من الأنسام ! و قد تجلى جزء من هذا النضال الفروسي في مسلك المرأة المناضلة " صالحين " ، و هي تدافع بأظافرها عن حق الأسرة في الحياة ، حيث بقي الصغير " علي "  _ بتعبير الراوي _  " .. يطن كنحلة بين أزهار يابسة .." ( ص 14 ) 

 و لأن أناس العشوائيات _ كما في " عزبة النخل " _ يتلفتون حولهم ، فلا يجدون سوى " الكلاب المسعورة " و " الصخور الوعرة " ، فقد انتقلت أحلامهم الصاعدة ، برفيفها المجنح ، من سطح الواقع المسنون الدامي ، إلى فضاء الميثولوجيا الشعبية ، التي تجمح بالخيال الفانتازي المتهوس  ، و ترسم أيقونة مستترة في الغيب ، و تبدى ذلك فيما أشاعه الجدود في أروقة العزبة العشوائية ، من أمثولة مدارها كنز اليهودي " خير الله الجبل " ، و هو الكنز الذي " دفسه في الطاحونة قبل هجرته  إلى إسرائيل ...." ( ص 14 ) 

 لم يستطع كثيرون في " خير الله الجبل " أن يعوا بوضوح ، أو يتقبلوا بتفهم ، ما تصنعه " صالحين " _ لتنجو بأسرتها في عين العاصفة _ فنسبوا إليها ما أسماه الراوي : " دقة عبط " ( ص 18 ) ! فلم يعتد كثيرون في فضاء الصراع الطبقي الأسود  هذا النمط من التضحية ،  و لا دار بخلدهم أن يرفع إنسان ما مستوى عطائه السخي إلى هذا السقف ! و لم تستطع " صالحين " أن تجني من السواد الأعظم للقوقعة العشوائية سوى السخرية أو التبلد أو _ في الحد الأقصى _ التعاطف الكسيح الصامت ، فيما بقيت تلاحقها الضحكات الهازئة من " الشيخ يونس " ، و هي الضحكات التي تشبه : " كركرة الجوزة السوهاجي .." ( ص 19 ) فيما يرى الراوي / المشاكس . 

 لم يفت الراوي أن يريق ضوءا ً كاشفا ً على فنون " إنسان العشوائيات " و جمالياته الخاصة ، و هي _ في الأعم _ " جماليات القبح " ، حيث ظهر الصغير " علي " في مدرسته و هو يرسم " قطارا ً يقف قرب عامود معدني يحمل لافتة ، كتب عليها : " خطر الموت " ! ( تجسيد لبعض فنون المهمشين داخل العزبة ) فيما تسعى " صالحين " لنقله إلى مدرسة " المعصرة " ، فكانت الترحالات و التنقلات المعنتة ، جزءا ً عضويا ً دالا ً من نضال " صالحين " فارسة القوقعة دون منافس : " .. أيام كانت خلالها تحمل محمدا ً على كتفها ، و تجر " مصطفى " في كفها تقطع الطريق القبلي .. ، و بعد سبع محطات متتالية تنزل المعصرة .." ( ص 23 ) 










 لجأ الراوي ، و هو الذي آنسنا قدرته على التعبير الجزل و الإيجاز المكثف ، إلى بعض " الثرثرة المتعمدة " في بعض المقاطع الروائية ، متماهيا ً ، في تشاكل بنيوي لافت ، مع " ثرثرة شخوص العشوائية " في هذا العالم المهمش / المنسي ، فكان هذا التشاكل مفضيا ً _ في تكثيفه و تناميه _ إلى تماهي سمات الراوي و الشخوص عن قصدية و عمد ، بما جاوز معه الراوي مربع التعاطف مع صرخات المهمشين النازفة ، إلى مربع التقمص التام ، و تبني رؤيتهم ، بأدق خصائصها و مناحيها .
 و قد حتمت هذه السمة / التشاكلية ، أن يغذي الراوي " أداءه الأسلوبي " ببعض من العصير الشعبي للدارجة ، ليثرى نسغ " السرد " نفسه _ لا الحوار فحسب _ بطعوم العامية و مذاقاتها الحريفة المتوائمة مع نزق القوقعة و حسها التمردي الطافح  ، كقوله عن الشيخ " يونس " : " سيعمل ليلة لله مثل الليلة التي عملها " أبو ياسين " ( عمنوِل ) عندما أنجب ولدا ً .." ( ص 24 ) . 

 لم ينس الراوي أن يشير إلى أن السبيكة الاجتماعية _ في العشوائيات _ يمكن في لحظات المد الوطني أن تكون متماسكة ، متصالحة مع ذاتها ، في غير احتياج إلى سرادقات الخطابة أو الوعظية الإعلامية المسطحة التي تفيض بها الميديا تغريدا ً ل " الوحدة الوطنية "  ، فقد كان المداح " مكرم " هو الذي يغرد بالمدائح النبوية في فضاء العزبة ، قبل أن نتبين ، لاحقا ً ، أن اسمه : " مكرم جبرائيل غالي " ، و هي القيثارة ذاتها التي عزفت عليها الجارة " بطرسة " ، ففهمنا من مسارات الأحداث و طبيعة العوالم القصصية المستدعاة ، أن التوتر الطائفي ، ( لقاح غريب ) لم تجد به أرض العشوائيات ذاتها ، و إن حاولت الكيانات الدخيلة بذره في قلب تربتها ! 

 مضى بنا الراوي في رحلة " صالحين " إلى " خير الله الجبل "  ، و كأننا بإزاء " أوديسا " جديدة / معصرنة ،  ترسم معلما ً لملحمة مميزة ، حيث اجتاز بنا _ عبر مسارات رحلتها الملحمية _ ما بين " مدق جبلي " و " جبانات البساتين  " و " التونسي " و " السبع بنات " ، لتصل إلى محطة الرسو ، بعد عنت كبير ، و نجح الراوي من خلال مواكبة المرتحلين بالكاميرا في أن يباشر مسحا ً طوبغرافيا ً مذهلا ً للمكان السفلي / الموحش ، بحس غرائبي لافت .

 كان الراوي مصرا ً _ حد الإلحاح _ على أن تظهر رحلة " صالحين " مع أخواتها الأربعة ، في مظهر ( الملحمة ) الكبيرة ، التي تزيح العقبات من طريقها بمنحى بطولي ، و كأننا بإزاء " أوديسيوس " جديد ، يطمح إلى العودة إلى وطنه : " إيثاكا " ، مجددا ً. و لا عجب أن يكيف الراوي أداءه الأسلوبي ، عند هذه المحطة ، مع مفردة المعارك الحربية و معجمها الخاص : " .. رحلة الجندي في الطريق إلى الالتحام بعدو لا يعرف عنه الكثير ، و لم يستعد له كما ينبغي دون مؤونة أو خطط إمداد أو خطة انسحاب احتياطية . بعد دقائق ستنتهي الرحلة و تبدأ حياة جديدة .." ( ص 37 ) 
 و كان وجود " الضبع " فتوة المنطقة مؤذنا ً باستيحاء ( عدالة الشارع ) ، التي تقتص لذاتها بالمدى و الهراوات ، و توزع مراكز القوى بشكل قبلي أو عائلي ، فإذن الضبع _ أو أحد رجاله _ شرط ضروري لشرعنة الخطوة أو الفعل أو تشكيل علاقات الصداقة و العداء في قوقعة العشوائية ! ( و لا مفر هنا من أن نقول إن " نجيب محفوظ " قد استنفد هذه المساحة في سرده بما حرم هذه الرقعة من رواية فرغلي من أية مساحات للإدهاش  أو مباغتة المتلقي بشيء) 

 أضاف الراوي إلى فضاءات السرد ، فلذات توثيقية حية للمنطقة _ بما يؤكد أنه درس المنطقة ( مسرح الحدث )  جغرافيا ً و تاريخيا ً ، و أعد لها سجلا ً أرشيفيا ً معقدا ً متكاملا ً قبل الشروع في كتابة النص _ ففهمنا مثلا ً أن المخرج الراحل " نيازي مصطفى " قد صور فيلم " عنترة بن شداد " عام 1960 في هذه المنطقة قبل عقود ، و قبل أن يزحف إليها هذا العمران الفوضوي ، و ليس ثمة مبالغة في أن نقول إن هنالك مقاطع روائية حية قد تحولت إلى ريبورتاج / سردي يؤرخ للشخوص و الأزمنة و الأمكنة  بمنحى معلوماتي راسخ ، يمكن الوثوق من صحته . 

 سحبنا الراوي _ بسعة حيلة _ بعد أن لاحم خيوط الصراع الهيكلي الكبير  الذي مدار ه خندقان متقابلان ، يتراكم في كل منهما  خصائص طبقة بعينها  ( و تغدو الرؤية الفنية هاهنا " ضمير طبقة " كما يقول جولدمان ) _ مازلنا في رحاب التحليل البنيوي السوسيولجي بمفهوم البنيوية التوليدية _  و ليفتل الراوي الخيوط في النهاية  بتمكن مخضرم في جديلة صراعية واحدة ، و لنصل إلى نقطة الصدام الدامية في صراعات الكتل الطبقية الماثلة و خرائطها  المتداخلة  في النص ، و قد تجلى ذلك في مشهد ( اقتحام البلدوزرات ) للعزبة ، لتنفيذ قرار إزالة  _ بالقوة الجبرية _ و تسليم الأرض للشركة صاحبة حق الانتفاع ( ص 108 ) حيث نجح الأهالي _ خصوصا ً الصبية _ في إجبار القوات و البلدوزرات على التراجع . و لم يكف الراوي مع رمزية الحدث و دمويته ، عن السخرية النزقة من شخوصه و عوالمه المنسوجة ، بل إنه _ بخفة ظل لا تخلو من الشكاس _ عنون لبعض الفصول بأغنيات شعبية ( من مثل : " كتاب حياتي يا عين ) . و قد كان الراوي _ كما يبرز في تعليقاته المهاترة / اللاذعة _ واعيا ً بضراوة الظروف البيئية المحيطة غير المحتملة في العزبة ، لكنه حرص ، بالقدر ذاته ، على تذكيرنا بمنطق " التلون الحربائي " القادر _ غريزيا ً _ على مجاراة البيئة أو تحملها : " .. يشب الصبي في " خير الله " ، و سرعان ما تنمو له مخالب حادة ، و لسان أطول من عمر أجداده ..." ( ص 246 ) 



 و تترسخ الأخطار المحدقة و تتعاظم ، فيناهضها أناس العزبة ب " الكبريت الأحمر " و الرقية حينا ً  ، أو بالتلاحم صفا ً واحدا ً حينا ً ، أو بمحاولة الفهم و الوعي بمدركات البيئة المحيطة حينا ً ، و يوثق الراوي هنا _ بالحس المعلوماتي ذاته _ لعملية مد الطريق الدائري الكبير إلى عزبة " خير الله الجبل " حيث تتم البلدية حصر البيوت الداخلة في الطريق الجديد بالعلامات الزرقاء و الصفراء ، فضلا ً عن " البيوت الناجية " . 

 و من الإنصاف القول إن الراوي قد نجح ، بتشكيل البنية  و تكييف أنساقها و عناصرها ، و رسم الشخوص _ بشكل استقطابي حاد _ أقول نجح في أن يجسد ، بما يجاوز الوضوح ، خطوط الخارطة الطبقية المحتقنة في فضاء متوتر يحن _ بالتياع _ إلى العدالة الاجتماعية و ينشق عطرها أو حتى يتتبع ظل هذا العطر ، و من الإنصاف كذلك القول إن الراوي قد حول كثيرا ً من المشاهد إلى " يوتوبيا سوداء " ( يبيع " سيد زكريا كليته بخمسة آلاف جنيه ! ) ، فأسقط سرده و شخوصه في قلب العتمة ، لكن الإنصاف ذاته يقتضينا الاعتراف بأن نجاح " صالحين " في أن تشق الشعرة ، و تفتح في العتمة ثقوبا ً للأمل ، حين وصلت بإخوتها إلى ممالك المناصب المرموقة ، يمثل بقعة ضوء باعثة على الأمل في هذه الفضاءات الداكنة ، و قد عمقت " صالحين " معنى الانتصار النضالي _ و لو كان جزئيا ً _ حين رفضت بشمم " قبول أموال المساعدة و الزكاة ( ص 362 ) لتؤكد ، من بين أنقاض طبقتها الجريحة ، أن الراية البيضاء لم تشهر بعد . و أن الطموح إلى ارتقاء النجاحات و الصعود إلى سطح المياه _ و الحياة ! _  سيظل حلما ً يراود هذه الطبقة ، و يستوطن مخيالها . و إذا كان النص _ كما يقول " إمبرتو إيكو " _  " آلة كسولة " ، و إذا كان هذا يرتب على المتلقي _ كما يقول " إيكو " في : " ولوج الغابة " _ أن ينهض بتبعة " ملء الفجوات " ، فإن من ألزم الأمور أن نقوم ، بوعي القراءة ، بتعدية النص من مستوياته الجزئية ، خروجا ً من قوقعة العشوائية ، لنلحم المشاهد بالمشهد الاجتماعي الضخم في أوطاننا ، حيث نتأكد أن الشق الطبقي الكبير ، لن يكون أبدا ً طريقا ً لاحبة للمستقبل ، و لنتأكد أن ثمة جهدا ً كبيرا ً يتعين أن يبذل لننقض الثنائية التي طرحها " فؤاد نجم " من قديم ( مصر العشة / و مصر القصر ) ، لتصبح الطبقتان نبض مسيرة ملحمية واحدة على جسر واحد ، يصلنا بوعود العدالة و المساواة و تقاسم الخبز و الرفاهية للجميع . 
 

تعليقات