حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
المرأةُ الشاعرة :
قراءة في قصيدة ( رَنَّةُ الهاتف ) للأستاذة
نُهَى الرُّمَيِّسِي
لم أكن أعرفُ أولَ الأمر أن الأستاذة نُهى الرميِّسي تنظم الشعر ، ولم أكن أتوقع
أن يكون شعرُها بهذه القوة والجمال ، فهي لا تنشر منه شيئاً تقريباً ، وعهدُنا بالمقلين
من الشعراء ، وبخاصةٍ مَن تشغلهم عن الشعر شواغل أخرى ، أن يكون شعرهم وسَطاً ، يتأرجح
بين الجودة والرداءة ، ويقع في منتصف الطريق بين الكمال والنقص .
بَيدَ أنني لم أندهش كثيراً حين فرغتُ من قراءة قصيدتها ( رَنَّةُ الهاتف )
، ولم يطل عجبي من سلامة إيقاعها ورقة وقعها وحلاوة موسيقاها ، كما لم أستغرب من إحكام
بنائها ووحدة موضوعها وطرافة فكرتها ؛ فصاحبتها إعلامية قديرة ، هي الآن كبيرة المذيعات
بالبرنامج العام ، وأديبةٌ متميزة ، أخرجت لقرائها فى العام الماضي روايتها البديعة
( جليد بيتسبرج )، ومجموعتها القصصية ( مبروكة ) ، ولها رواية أخرى تحت الطبع بعنوان ( الخديعة ) . ومنذ أن عملت بالإذاعة ، إلى يوم
الناسِ هذا ، وهي ترتقي في برامجها المتنوعة ، بذوق المستمعين وأفكارهم ، وتقدم لهم
ما ينفعهم ويسمو بأرواحهم . والشيءُ من معدنه لا يُستغرَب .
هذه القصيدة إذن ليست الأولى في رحلة صاحبتها الشعرية ، وأرجو ألا تكون الأخيرة
؛ فهي تمتلك من أدوات الشعر ما يفتقر إليه أكثر الذين يملأون الساحة بفارغ الكلام ،
ويفسدون الأذواق بنشاز الأنغام .
وأنا شخصيًّا أعرف أنها تعبر من خلالها عن تجربة إحدى صديقاتها ، ولكن هذا لا
يعنيني كثيراً ـ ولا أعتقد أن القارئ يهمه أن يتأكد من أن القصيدة تجربةٌ ذاتيةٌ أم
خيالية ، حدثت بالفعل أم لم تحدث ـ فالشاعر المبدع يخلق من التجارب والتصورات ما يمكنه
أن يعبر به عن النفس الإنسانية في كل أحوالها ؛ وليس شرطاً لازماً أن يصور ما يحدث
له أو يمر به .
إن العنصر الذاتي موجودٌ في كلِّ عملٍ فنيٍّ ، وهو الذي يميز مبدعاً عن غيره
، لكنه في النهاية لا يفرض على الأديب أن يحدثنا في كل ما ينشئه من كلامٍ عن حياته
وحده ؛ إن هذا يخنق الإبداع ويقيد حريته ويجفف منابعه . والذين يقرءون ما كتبه أعلام
الأدب في كل العصور يمكنهم ببساطة أن يكتشفوا أنهم استلهموا التاريخ الذي طالعوه ،
والواقع الذي عايشوه ، والمستقبل الذي تطلعوا إليه . وللأديب عينٌ بصيرةٌ وسمعٌ لاقطٌ
وحسٌّ رهيف ، وذاكرةٌ عبقرية تستوعب ما يدور حولها ، وما تحيط به من أحوال الناس ،
ثم يأتي القلمُ السيال والبيان الناطق والفنُّ المصوِّرُ فيترجم هذا كلَّه في قصيدةٍ
بديعةٍ أو روايةٍ رائعة أو قصةٍ مدهشة أو مقالٍ مثير .
ولا أريد أن أطيل في مثل هذا الحديث حتى لا أنشغل به عما شدَّني إلى هذه القصيدةِ
الطريفةِ شدًّا ؛ وهو هذا البناء الفني الممتع الذي يأخذ بلُب القارئ من أول شطرِ إلى
آخر كلمة .
القصيدة في مجملها تصور موقفاً عاطفياً ووجدانياً إنسانيًّا ؛ تصف فيه الشاعرة
حال فتاةٍ ـ أو ما شاء لك الخيال أن تقوله ـ كانت تتلهف شوقاً ليهاتفَها حبيبُها ،
معتذراً أو غيرَ معتذرٍ ، بعد جفوةٍ وقعت بينهما ؛ فلما سمعت صوت الهاتف كادت تجيبه
بجوارحها ، وأوشك قلبها أن يطير ليرحب به ؛ فهو الحب الأول الذي ( صادف قلباً خالياً فتمكنا ) ، وهو الذي
أيقظ فيها أنوثتها الخجلى وأثار مشاعرَها العذراء
.
جاءت القصيدة كلُّها في قالب حكائي سرديٍّ جذاب ، تتوهج فيه الدراما في أمتع
صورها ، حيث الصراع النفسي ( العميق / الهادئ ) ؛ فلا ضجيج يفسده ، ولا ثورة تنفِّر
منه ؛ وحيث استدعاء الماضي واستحضار اللحظات الهاربة ؛ وحيث تداخل الأزمنة وتعانقها
في لطف خفيٍّ وانسيابية فاتنة ... وإليك بعضَ التفصيل :
تبدأ القصيدة بهذا الأسلوب الشرطي ( لمَّا الرنينُ بهاتفي قـد نغَّما * همسُ
الجوارح كاد أن يتكلما ) ، فالرنين هنا ليس
مجرد صوت ، بل نغمة ، وهذه يناسبها في جواب الشرط ( همسُ الجوارح ) ، فانتبه إلى هذا
التلاؤم ومراعاة النظير كما يقول البلاغيون . ثم لاحظ أنها لم تقل ( كاد همس الجوارح
أن يتكلم ) بل قدمت اسم كاد ، أو الفاعل في الحقيقة ، لتصور لهفتها المنتفضة إلى مكالمته
.
ثم يأخذ الخطُّ الدرامي منحنى متقلباً يصعد ويهبط كيف شاء له الهوى ؛ فهذا الحبيبب
يجعل الحبيبةَ ترقُّ عند ظهور اسمه أو صورته على شاشة الهاتف ، وهي تتمنى أن يحاكيها
بعد خصام ، لا ندري من هو سببه ؛ لكن الشاعرة الأنثى تريده هو أن يبادر بالمصالحة ،
وتتمنى ـ ربما لترضيَ غرورَها كامرأة ، أن يسترحمها ويتوسلَ إليها .
وما أدقَّ تصويرها لطبيعة الأنثى حين تصور تلك الحَيرةَ الخالدة بين لهفة قلبها
وصوت عقلها ، وترددها بينهما : أتجيب نداء العاطفة الصارخة أم تستمع إلى نداء الحكمة
الهادئة . وما نلبث أن نجدها تمضي على مهلٍ لتهدهد من غلواء مشاعرها المشبوبة ، لتسمو
فوق صبابتها ، تائهةً ضائعةً بين نفس مغرمةٍ به وقلبٍ يكاد يطير إليه .
إنها تنظر في رسالته ساعةً ، مرت كما تقول في ثانية ، لتضعنا في مفارقة بين
الزمن النفسي والزمن الواقعي ، ثم تخبرنا أنها شرعت في قراءة حروف رسالته وتعيد القراءة
ـ ولاحظ أنها قالت ( فأظل أقرأ في الحروف أعيدُها
) ولم تقل الكلمات ، لحرصها الشديد على معانقة كل ما خطَّته يمينُه حتى ولو كان على
مفاتيح الهاتف، ثم غلب عليها شوقُها وانفعالها فلم تعِ مما قرأت شيئاً وكأنها تتعلم
القراءة من جديد بين حروف الحبيب ، أو كأنها تعمدت هذا التأنى المفرط فى القراءة ،
فتأتى لغة الضاد على اتساع بيانها غير قادرةً على أن تحيط بما تريد أو تبين عما تشاء
.
وإلى هنا نحن أمام محبوبٍ تنتظر الشاعرةُ حديثَه على أحَرِّ من الجمر ؛ لكننا
لا ندري من أمره شيئاً ، ولا نعرف إن كان يستحق هذه اللهفة الضارعة أم لا .. وهنا تنتقلُ
بنا الشاعرةُ إلى زمن آخر ، على طريقة الاستدعاء ، ( Flash Back ) ،
أو ما يمكن أن يكون قريباً من تيار الوعي أو تداعي الذاكرة في الرواية ( stream of consciousness ) . فتستحضر ذكرى اللقاء
الأول بهذا المحبوب ، وكأنما قد تمثَّل لها رأيَ العين ، ربما لتبرر لنا سر حبها له
وأسباب إعجابها به .
وهي تفعل ذلك من أوَّلِ قولها : ( وأطيل في الذكرى وقوفي عنده * وعناق كفى كفَّه
إذ سلَّما ) ثم تستدرجنا في خفاءٍ إلى مشاعرها الأولى وتجربة اللقاء الأول الذي لا
يزال محفوراً بقلب الذاكرة ؛ فهي لا تزال تذكر لحظة أن صافحها ، وعانق كفُّها كفَّه
، وانتبه إلى أنها قالت ( وعناق كفى كفه إذ سـلَّما ) ولم تقل ( وعناق كفه كفي ) ؛
وهي هنا لم تتخلَّ عن خجل الأنثى ، لأنه هو الذي بادر بالسلام ، وهو الذي مدَّ يده
أولاً ، فلم تجد حرجاً أن تصرح بفرحتها وحبها .. فبادلته سلاماً بسلام ... وقالت ما
قالت !
ولَكَم أريد أن أتوقف طويلاً عند الأبيات التي تلي هذا البيت ، ففيها تتجلى
خصائصُ المرأة ، مبدعةً وإنسانة ، وهو مما يُفيدنا حين ندرس نصًّا نسوياً ، له ملامحه
المميزة وقسماته المتفرِّدة .
انظر معي إلى قولها : ( يالهْفَ ذاك اليوم حين لقيته * بين الجموع فخصَّني متبسما
) ، إن اليوم الذي لقيته فيه كان هو نفسُه لهفةً وحنيناً ، وتأمل تعبيرها ( حين لقيته
بين الجموع فخصَّني متبسِّما ) . إن هذا كلامٌ لا تقوله غيرُامرأة ؛ فالأنثى تودُّ
أن تكون مرغوبةً محبوبة ، وهي هنا تمدح نفسها بقدر ما تمدح محبوبها . لكنها ما تلبث
أن تتورط في اعترافٍ صريحٍ بأنها وقعت في الحب ( والنظرة الخجلَى أبانت لهفتي * والطرف
دار متابعا ما أُحْكِما ) ثم أعقبت ذلك ببيان ما جذبها إليه وأعجبها فيه ( سمت الوقار
منورا فى وجهه * والصبح في الخدين نام مسلِّما ) ، وهو لون من الغزل الرقيق الذي لا
يخدش حياءً ولا يخالف عُرفاً ، وفي بعض الأحاديث أن المرأة يعجبها في الرجل ما يعجب
الرجل فيها ، والشاعرة هنا لم يفتها الحياءُ ولم تنسَ كبرياء الأنثى ، حتى وهي والهةٌ
متدلِّهة ؛ ففي الوقت الذي قالت فيه (كم همت دون البوح غير مجاهر) لم تنس أن تقول بعده
مباشرةً (مترقِّباً متهيِّباً إذ أقـدَما
) ؛ إنها الجرأة المحتشمة ، لا اندفاع فيها ولا تهوُّر ، والحب العاقل ، لا نزق فيه ولا تنازل .
وهنا يفاجئنا البيت الأخير بنهاية القصيدة ، لكنه لا يقنعنا ـ من القناعة والاقتناع
ـ بخاتمة القصة ، فهو كالنهاية المفتوحة ( Open End
) ، لها ما بعدها في ضمير المنشئ وخيال القارئ ، وكنت أتمنى أن لو زادت الشاعرة بضعة
أبياتٍ لتقص علينا ما دار من حوارٍ بين الحبيبة وحبيبها ، أو لترضيَ فضولَ أكثرنا لمعرفة
ما كتبه لها بعد طول خصام ..
وكنت أتمنى أيضاً أن أقف عند هذه القصيدة وعند صاحبتها أكثر مما وقفت ، لكنني
أشعر أنني قد أسرفت في القول ، وأرهقت القارئ بكلامي . وعزائي أنني كنت أمهد له الطريق
للمتعة بقراءةِ نصٍّ شعري جميل ، وهذه هي المهة الكبرى للناقد الأدبي على كل حال ؛
فهو ( قارئٌ لقارئ ) ، وحسبي أنني قد أشرت إلى هذه القصيدة البديعة ودَلَلْتُ عليها ... والسلام !
د. شعبان عبد الجيِّد
رنَّـةُ الهاتف !
لمَّا
الرنيــــــنُ بهاتفي قــــد نغَّـــــما
** همسُ الجـــوارح كـــاد أن يتكلما
هذا
الحبيب ... أِرِقُ عند ظهــــوره ** لو شـــاشة المحمولِ أبْـــدت مَعْلَما
عن أنه
قيدُ التواصــــــــل طـــــالباً ** بعــــــــد الخصام مودةً مسترحما
فيطير
قلبي واثباً.. أهـــــــلاً بـــــه
** ويُشيــرُ لـــــى عـــقلي بألا
تُسْلِما
أمضي
ببطءٍ كي أهدهدَ حيـــــرتي ** وأمُـــــرُّ فــوق صبابتي مستعلما
مابين
مافي النفس مــــــن كَلَفٍ به ** أو بين قلبٍ صـــــــار فيه محكَّما
وأغيب
أنظـــــر ساعةً مــــــتردداً ** وهــــي الثــــواني أو أقل لريثما
تأتي
الرسالة كــــونـــــه مستفسراً ** متصوراً أنــــــــي سلوت وربما
فأظل
أقرأ في الحروف أعيـــــدها ** وكأن حـــــرف
الضاد غام وأعجما
أُبدى
التراخيَ في الجواب وأنثني ** ترديدَ مـــــــــــــا
بين الكلام مهمهما
وأطيل
في الذكرى وقوفي عـنده ** وعـــــنــاق كــــــــــفى كفه إذ سلما
يالهف
ذاك اليــوم حيــــــن لقيته ** بين الجموع فخصــــــَّني متبسما
والهمس
يسري بيننا فــــــي خفة ** ينسال بين الخـــــــــافقيـــن ترنما
والنظرة
الخجلَـــــى أبانت لهفتي ** والطـــــــرف
دار متابعا ما أُحْكِما
مازاد
عنـــــدي صبوةً من وقعه ** وأصاب قلبــي من حريق أُضْرِما
سمت
الوقار منورا فــــى وجهه ** والصبح في الخـــــدين نام مسلما
كم هِمْتُ
دون البوح غيرَ مجاهرٍ ** مترقباً ... متهيباً
.. إذ أقــــــــــدما
ما أجملَ
الحبَ الولــــــيد إذا دنا ** والغيث بــعــد
الشوق يروي إذ همى !
نُهَى الرُّمَيِّسي