حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
عادي
عادي..كلمة أضيفت إلي قاموس لغتنا الدارجة خلال العقدين الأخيرين، وهي كلمة قد تبدو عادية وبسيطة في ظاهرها، لكن لها دلالات ومؤشرات عميقة، لها جذورها القيمية وانعكاساتها علي تصرفات الأفراد وسلوكياتهم.
تنبهت لتلك الحقيقة وانا اتناقش مع أحد الأصدقاء حول المرجعية القيمية والأخلاقية التي احتكم إليها في تقييم تعاملاتي مع الآخرين. واكتشفت كم المشاعر السلبية التي تتركها هذه الكلمة في نفسي، ومدي الضيق الذي يسببه وقعها علي مسامعي. وقد دفعني هذا الأمر أن أتأمل الكلمة وما تحمله بين طياتها من إشارات ومعاني، وما يتبعها من تصرفات وسلوكيات فردية بطبيعة الحال.
والكلمة مؤشر علي قيمة دخلت حياتنا بالتدريج خلال العقود الأخيرة، ومفادها انه ينبغي أن نأخذ الامور ببساطة، ونتساهل امام التجاوزات الأخلاقية والسلوكية التي طرأت علي تعاملاتنا، وأصبح من المفترض أن نقبل التعامل بموجبها دون أي غضاضة.
ومن ناحية اخري فإنك لو تأملت الكلمة مليا سوف تجد انها لا تستخدم الا لترسيخ وتأصيل كل ما هو سلبي، حتي لو كان ظاهر الأمر لا يوحي بذلك. فإذا تجاوز أحدهم حدوده في تطفله عليك، ومحاولة فرض وجوده أو شخصه رغم محدودية العلاقة أو سطحيتها، كأن يبادرك برفع الكلفة وينادي باسمك، أو يسألك عن أمور شخصية وهو بالكاد يعرفك، ناهيك عن أن يكون ذلك عبر الفضاء الأزرق وليس بصورة فعلية علي ارض الواقع. وانت في هذه الحالة تتعامل مع شخصية مجهولة لك تماما، بالكاد تعرفت علي وجودها. فإذا ما تساءلت انت عن منطقية ذلك السلوك أو مشروعيته، حيث إن العلاقة لا تسمح له بذلك، يكون الرد(عادي) أود ان اتعرف عليك عن قرب بصورة أكبر.. الي آخر مثل هذه الحوارات السخيفة التي لا تنتهي، والتي يرى أصحابها ان الامر عادي وانك (محبكها) بصورة مبالغ فيها.
وحدث ولا حرج عن كل تجاوز في السلوك أو تخطي لضوابط الأخلاق والتحضر في التعاملات الشخصية والعامة، ناهيك عن عدم احترام الخصوصية.
فإذا رأيت شابا يتحدث مع أحد والديه بصورة تفتقر الي الحد الادني من الاحترام بدءا من الألفاظ وانتهاءا بأسلوب الحديث..فظهرت على وجهك امارات التعجب، ومنعك الحياء ان تعلق..يقولون لك عادي..جيلهم كده!!
هكذا..الأمر عادي. وأمثلة كثيرة لا حصر لها في الشأن العام والخاص، كأن تسأل أحدهم أليست هذه فكرة فلان التي كان يحدثنا عنها ونحن في جلسة أصدقاء بالأمس القريب؟ فيرد عليك (عادي)..انا سبقته في تنفيذها.
ومئات بل قل آلاف، ولا أبالغ اذا قلت ملايين المواقف والسلوكيات التي يرى أصحابها ان عدم احترام الكبير او المساحة المطلوبة للخصوصية، أو مراعاة الأخلاق والضمير والقيم في التعامل مع الآخرين أمرا عاديا..هكذا..وبكل بساطة.
لا يا سادة..لا احب هذه الكلمة ولا اقبلها في قاموسي، ولا يمكن أن اتساهل في مدلولها وتداعياتها.حتي لو اجتمع غالبية القوم عليها، فالتجاوزات السلوكية الشائعة لن تمثل في يوم من الأيام قواعد التعامل الأخلاقي المتحضر.
وبكل أسف هي ليست الكلمة الوحيدة التي تحمل معاني سلبية ومؤشر علي انحدار قيمي وسلوكي في مجتمعنا، نتيجة شيوع قيم لااخلاقية قوامها النفعية والمادية والفوضوية وشيوع أفكار هدامة بين الأجيال الحديثة، تشبها بمجتمعات لها ظروفها ولها فكرها ولها قيمها الخاصة والنابعة من تاريخها وثقافتها.
إن انهيار منظومة القيم التي تحكم تعاملات الأفراد داخل إطار المجتمع تعد مؤشرا سلبيا علي الحالة المتدنية حضاريا التي وصل اليها، فقد تخطت الإنسانية في مشوارها الحضاري هذا النمط السلوكي الفوضوي منذ أزمنة بعيدة. لانها ببساطة، اكتشفت انه لا يمكن أن تنهض الأمم ولا يمكن ان ينصلح حال المجتمع اذا كانت هناك فوضي قيمية تتسيد المشهد، وتجعل كل شيئ مستباح و(عادي) طالما اقتضت ذلك المصلحة الشخصية، أو لأن القوم ارتضوه. وهو أمر ينذر بالخطر علي سبيل القطع.