حقائق الإيمان وأوهام الإلحاد.. ندوة في كلية أصول الدين بالقاهرة (سجل الآن)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الكاتب د.شريف شعبان
قيل قديماً إن من أراد الخلود فلينحت ذكراه في الصخر.. تلك المقولة التي صدقها القدماء وبنيت على أكتافها آثار الحضارات القديمة العظمى، فنرى أن أعظم ما خلدته تلك الحضارات كان مصنوعاً من الحجر سواءً كانت معابد أو مقابر أو منحوتات حجرية وهو ما أبقاه الزمن لنا حتى الآن.
ولكن الهوس بتخليد الذكرى والاعتماد على الصخر لم يكن خاصا بالقدماء فحسب، بل سادت تلك الفكرة في الفنون الحديثة، على أن من أروع ما نراه في العصر الحديث نحت وجوه 4 رؤساء للولايات المتحدة على أوجه جبل راشمور بولاية داكوتا الجنوبية بالولايات المتحدة تخليداً لذكراهم قام به كل من النحات الأمريكي جاتسون بورجلام Gutzon Borglum (1867-1941) ومن بعده ابنه لينكولن Lincoln لوجوه كل من الرؤساء جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وثيودور روزفلت وإبراهام لينكولن على ارتفاع 18مترا ، في حين تصل مساحة النحت كاملة 5 كم وارتفاعه 1745م فوق سطح البحر.
أراد بورجلام أن ينحت رموز الوطنية الأمريكية متمثلة في 4 رؤساء للولايات المتحدة على مساحة ضخمة، فاختار أوجه هذا الجبل الجرانيتي.
بدأ العمل في نحت وجه الرئيس جورج واشنطن، ولكن نتيجة إلى عدم استقرار الاقتصاد الأمريكي استغرق نحت وجهه نحو 7 سنوات وتم افتتاحه للعامة في ذكرى يوم عيد الاستقلال عام 1934، وتم تعليق علم ضخم للولايات المتحدة فوق رأس واشنطن قبل الكشف عنه، وهو ما أصبح تقليداً عند افتتاح رأس كل رئيس.
واليوم، وكل عام يزور هذا المزار أكثر من مليوني شخص تقريباً ليروا تلك المعجزة الفنية الحديثة والتي خلدت 4 من أهم رؤساء الولايات المتحدة.ولكن عند النظر إلى الماضي والعودة إلى الحضارات العريقة، وعند الرجوع إلى إرهاصات هذا العمل الأمريكي الضخم، ندرك أن أصول تلك الفكرة ولابد وأن تنبع من عقلية المصريين القدماء.. سادة من استخدموا الصخر في تخليد ذكراهم.. فأعظم ما تركوه لنا وللبشرية من عمل صخري مهيب هو معبد أبو سمبل جنوبي مصر والذي يعد أعظم معابد مصر والنوبة بصفة خاصة لبراعته المعمارية وروعته الفنية وتناسقه مع البيئة المحيطة، على يد الملك رمسيس الثاني جبار الحرب والسلام.
وتصل براعة المصري القديم في نحت هذا المعبد في صخر الجبل بارتفاع 33 م وبعرض 38م وبعمق 62م في قلب الصخر، بل وتزداد براعته في تحديد أشعة الشمس لتدخل في أعماقه 60م لتصل إلى قدس الأقداس يومين بشهري فبراير وأكتوبر من كل عام فتضيء 3 من التماثيل الأربعة المنحوتة في قلب الجبل، وهي تماثيل رع حور آختي رب هليوبوليس وأمون رع معبود طيبة والملك رمسيس الثاني نفسه الذي يتساوى معهم، أما التمثال الرابع فهو تمثال بتاح معبود بتاح ورب الفنانين والمسئول عن العالم السفلي والذي لا يصل إليه ضوء الشمس ليبقى في ظلام دامس كحال العالم السفلي.
وتلك الظاهرة
تستمر نحو 20 دقيقة ويأتي الآلاف من مختلف دول العالم لمشاهدة تلك الظاهرة الفريدة
والتي لا ترتبط ميلاد الملك أو تتويجه كما هو معروف خطأ، ولكنها ظاهرة فلكية اعتمد
عليها المعماري المصري القديم وسخرها ليظهر صلة هذا المعبد بالشمس.
ولم يقف إعجاز المصريين عند هذا الحد.. فمثلما تفوق المصري القديم في إنجاز هذا الصرح ونحته في قلب الصخر، تفوق المصري الحديث في حمايته ونقله من مكانه الأصلي دون أن يفقد ولو قطعة واحدة من رونقه وأصليته.
فمع بناء السد العالي جنوب مصر، أصبحت المعابد الواقعة هناك ومنها أبو سمبل مهددة بالغرق بعد تكوين بحيرة ناصر، حينها تكاتفت جهود مصر مع المجتمع الدولي وبدأت عام 1959حملة تبرعات دولية لإنقاذ هذا المعبد الخرافي ونقله من مكانه، وفيما بين أعوام 1964 و1968 وبرعاية منظمة اليونسكو وعلى يد فريق مصري عالمي، تم تفكيك المعبد كله إلى كتل كبيرة وتحركت الرافعات الضخمة لنقلها إلى موقعها الجديد على تبة صناعية فوق خزان أسوان على ارتفاع 65م وعلى بعد 200م من سطح النهر، حيث تكلف هذا المشروع نحو 40 مليون دولار أمريكي.
وهنا يبقى الصخر هو الشاهد الأصيل على رغبة الإنسان في تخليد ذكراه على الأرض، فمهما اختلفت العصور والحضارات، يبقى الفكر الإنساني ثابتًا في تحدي الصخر وترك بصمته عليه.