حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
طريق الإسلام
ننطلق في هذا المقال من حدث غريب حصل مع الجيش الأمريكي حيث وجد أن عدد المنتحرين من أتباعه فاق عدد المقتولين بالحروب حسب تقريراتهم-1-، وفي دراسة العلامات التي تظهر سبباً للانتحار عند الجنود كان عامل ضعف أو غياب القيم الروحية وغياب المعنى والغاية من الحياة عاملاً مؤثراً من عوامل الانتحار.
و الحاصل أن أول نقطة يجب التنبه لها عند فحص أهمية الغاية داخل المنظومة الإلحادية هي تلك الحالة من القصور النفسي التي تنتاب الملحد عندما يعتقد أن الكون وجد عبثاً؛ فكيف لا يعتل وهو يجد نفسه مكبلاً في أفعالٍ لا معنى لها؟ وكيف لا يتجه للانتحار وهو متلبس في أحوال لا تشبع روحه التي قتلها عندما اعتقد أنه ورقة مهملة في شجرة الكون، يزرعها العبث ثم يحصدها الضياع.
يقول الملحد الشهير نيتشة: "من عنده (لِمَ) يستطيع العيش تحت أي (كيف)".-2-
إن ظروف الحياة تتشكل ضمن سلسلة من الضغط والتوتر؛ فتارة يخسر حبيباً فيدخل في دوامة اكتئاب تسحق القلب وتفتت الوجدان، وتارة أخرى يفقد ماله فتسحقه الحاجة وقلة ذات اليد، وتراه يسد الحاجة تلو الحاجة حتى يمل ويدخل في الضجر {لقد خلقنا الإنسان في كبد} (البلد:4)، فماذا يفعل الملحد أمام كيفية الحياة المرة؟ هل يتبع قول نيتشة ويبحث له عن (لِمَ) تعينه على تحمل مرّ الحياة وألمها؟
لندع الملحد الشهير ريتشارد دوكنز Richard Dawkins يخبرنا حيث أجاب عندما سئل عن سؤال لماذا فقال: "هذا سؤال لا معنى له بل إنه سؤال سخيف". -3- لقد حُلت القضية التي تؤرق حياة البشر منذ أن حطت رحالهم على هذه الأرض، لنهمل سؤال الغاية وتعليل ذلك _ركز أن إجابته إجابة تعليلة!_ أن سؤال (لماذا) لا معنى له، ولنتجه لتعميق البحث أكثر لماذا هذا السؤال لا معنى له إلحادياً؟ يكمن الجواب فيما أشرنا إليه في المقالات السابقة حيث أن الحاصل في المنهج الإلحادي أن المعنى لا يتشكل خارج أسوار المعمل التجريبي، فلكي يكون سؤال لماذا له معنًى لابد أن يمر تحت أدوات الرصد والملاحظة.!
العجيب أن إبطال مركزية سؤال لماذا في حياة البشر سينفي العلم التجريبي نفسه، فكيف ذلك؟ "إن الأصل التي تبنى عليها أصول العلم الطبيعي التجريبي نفسها هي مسلمات غير مبرهنة تجريبياً!، ولا يناقش في وجود هذه المسلمات عاقل، منذ قدماء اليونان وحتى فلاسفة العلماء المعاصرين، قد يختلف رجال العلم الطبيعي وفلاسفته في اتساع دائرة هذه المسلمات الأولية، وقد يختلفون في ضرورة موافقتها للواقع من عدمها، لكنهم لا يزعمون أبداً أن العلم قد يُطلب من غير هذا العنصر الغيبي _اللاتجريبي_!.
في ورقات بعنوان (طبيعية العلم الطبيعي والطريقة العلمية) أعدتها الجمعية الجيولوجية الأمريكية،استفتحت بذكر الافتراضات التي يقوم عليها العلم الطبيعي والمعرفة المبنية عليه منها: 1- أن العالم له وجود حقيقي خارج حواسنا. 2- أن الإنسان يستطيع فهم هذا الوجود الخارجي _الفيزيائي_ بدقة". -4-
فكيف نثبت بأدوات العلم التجريبي أن العالم خارج حواسنا موجود؟ الجواب لا يمكن إلا استناداً للخبرة والفطرة البشرية، والخبرة والفطرة البشرية أدوات غير معترف بها تجريبياً، وكيف نثبت أننا نستطيع فهم الوجود والاستفادة منه؟ الجواب كالسابق، ولشدة حضور هذه الفرضيات الفطرية تعجب منها العالم الشهير آينشتاين حين قال: "إن أكثر الأمور غير المفهومة في الكون، أنه قابل للفهم". -5-
الغاية من الوجود ملمح فطري. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه. وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال، دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء". -6-
يظهر في هذا المثال جلياً أن الأمر المحكم عند الطفل أن لكل سبب مسبب، فإن قلت له: أن هذا الفعل لم يفعله أحد بحكم أنه لم يرَّ الفاعل= لم يقبل عقله هذا التعليل ورد الأمر لفطرته وطلب الفاعل. والحاصل هنا أن مفهوم العلة يبدأ مع الإنسان منذ الطفولة ثم ينتقل معه شابا وكهلاً ييسر عليه طريقه ويخفف عنه كدر هذه الحياة؛ "فالإنسان فيه نزوع طبيعي نحو التعليل، حتى وإن جهل العلل الحقيقة للأحداث". -7-
جمالية البحث عن الغاية، إن قيمة الجمال تنبع من ذاك الشعور بالاندهاش الذي يسيطر على الشخص عندما يظهر أمامه ذاك النظام الخلاب داخل بيت النحل أو حول قرى النمل، تظهر هذه الجمالية في تأمل العاملات والحارسات والملكة والخادمات راسمة لوحة الإبداع الرباني في تلك المملكة الصغيرة التي تُنتج عسلاً فيه شفاء ومنافع للناس لذة للشاربين!، وتتجدد هذه الصورة الجمالية على مداخل وادي النمل الذي بُني بصبر جميل لا يفتر ولا يلين، فتنبهر كيف لهذا المخلوق أن يشيد الممالك داخل منافذ التراب، فإن كُشفت تعجب الناظر واندهش. مملكة النمل ومملكة النحل والآن يأتي السؤال المهم: ما علاقة هذا الكلام في جمالية الغاية في الإلحاد؟ نستعيد هنا إجابة الملحد الشهير ريتشارد دوكنز Richard Dawkins حين قال عن سؤال لماذا أنه سؤال سخيف، وبناء عليه لا يحق لنا أن نسأل أو نندهش من هذه الإبداعات، لابد أن نقتل حسنا الجمالي؛ لأنه يرشدنا مباشرة للاعتراف بأن هناك غاية وراء هذا الجمال، وأن هناك مبدع أبدع في خلقه من بداية الذرة إلى نهاية المجرة. والحاصل أن الإلحاد يحاول إسكات الحس الجمالي في حياة البشر؛ لأنه حس غائي، فعندما نرى هذه البيوت العظيمة من كائن صغير يتجه تفكيرنا رأساً لسؤال ملح بيانه: لماذا هذا الجمال ومن أبدعه؟ هذه الأسئلة يضيق الملحد بها ذرعاً؛ لأنه لا يجد داخل منظومته الإلحادية الطبيعية جوابأً عن هذا السؤال، بل خير ما يفعله هو قتل هذا السؤال في مهده لأنه سؤال سخيف ومن بعدها تكميم الاندهاش الإنساني لأنه لا يمكن تعليله بأدوات المعمل، فأي حياة هذه التي تسلب من البشرية أجمل ما فيها، وأي حياة بائسة تلك التي تغتال الأمل وتنحر النظر.! ملخص نظرة الإلحاد للغاية ونتائجها:
1. أن الإلحاد يُنحي مفهوم الغاية لعدة تعليلات، من بينها أن مفهوم الغاية مفهوم سخيف، أو أنه لا يمكن فحصه مادياً فوجب عدم الالتفات إليه.
2. بعد تنحية مفهوم الغاية يتم قتل الحس الجمالي، فلا معنى لهذا النظام المحكم في جميع مظاهر الكون، فعندما تنظر لتفتح الزهور عليك أن لا تندهش أو تسأل أو حتى تعلل، فهذا لا يتسق مع النظرة العلمية الجافة.
3. وإذا تحرك هذا الحس الجمالي يوماً بسبب ما أُودع بالإنسان من فطرة، علينا حسب وجهة النظر الإلحادية أن لا نلتفت لهذا النداء العميق الذي ينبعث نوره داخل نفوسنا؛ فالفطرة لا دليل تجريبي عليها بل هي معنى غيبي لا يعول عليه.
4. بعد قتل الحس الجمالي وإسكات نداء الفطرة يكون الجو مهيئاً لليأس والانتحار في حياة لا غاية فيها ولا هدف.
5. وآخر هذه النتائج لتلك النظرة العقيمة للحياة نتيجة متناقضة، فبينما يعظم الملاحدة العلم التجريبي فإذ به يقوم على مسلمات لا تجريبي مرتكزة على مفهوم الغاية والغيب.
وفي ختام هذا المقام نجدد السؤال الذي طرحناه في المقالات السابقة: أيهما يستطيع تكوين رؤية متسقة للإنسان وحياته الإلحاد أم الدين؟ هكذا استعرضنا قدرة الإلحاد على تأسيس رؤية لمفهوم الغاية وفي المقال القادم نستعرض قدرة الدين ونظرته لهذا المفهوم المهم.
_________________________
هوامش المقال:
1. .
http://www.theguardian.com/world/2013/feb/01/us-military-suicide-epidemic-veteran
2. Frankl VE. Man's Search of meaning: an Introduction to Logotherepy (I.Lasch
Trans). Fourth edition . Beacon Press. P:84
3. https://www.youtube.com/watch?v=LSZ_fsG5uMg