فاضل متولي يكتب: مسرحية رية وسكينة.. مهزلة من الطابور

  • أحمد عبد الله
  • السبت 02 يناير 2021, 08:09 صباحا
  • 1100
الكاتب فاضل متولي

الكاتب فاضل متولي

مسرحية رية وسكينة: مهزلة من الطابور.

    ماذا تتعلم من قراءة العنوان؟

 طبع بعض الناس أن يتبادر الحكم إلى نفوسهم قبل أن توقع عليه العقول ثم يندرج في قائمة الأحكام النافذة التي يستطيع مطلقها أن يبوح بها لمن يبوح، ويذيعها على من يذيع. هكذا وقع في ضمير من يقرأ لي دراسة كهذه الدراسة: يهولهم -عند قراءة العنوان- أنهم سينتظرون مني دراسة عن عمل درامي ذائع السيط بين جماهير المسرح والتلفاز. وأما الكيفية التي سأتناول بها هذا العمل فقد تدور في أذهان البعض خواطر عنها وقد لا تدور. ولا بأس؛ قد كثرت يا صاحبي في زماننا التهم، قد صارت أمرا معتادا كالسلع التي يتناولها متناولوها عند تقديم بطاقة التموين إلى البائع. ففيم التعجب وفيم التحسر؟

 ودعنا من هذه التصورات، ودعنا من هذه الصدمات، ولتسمح لي أيها القارئ الحليم أن أحكي لك شيئا من تجربتي وحكايتي مع هذا العمل:

 عندما كنت في السابعة عشرة من عمري لم يكن لدي قدر كاف من المعرفة ، وإذا حاولت التفاخر بما ليس عندي وادعيت أنه كان لدي بعض المعارف فلم أكن أملك قدرة ثقافية ولا ذائقة تمكناني من اختيار ما أباشر وما لا أباشر، ما أسمع وما أشاهد وما أعرض عنه وأعطيه ظهري.

   في هذه الفترة أذاع التلفاز المصري مسرحية رية وسكينة لأول مرة, ولما جاء موعد عرضها تركت كل ما ورائي من أجل ذلك. ولن أخدعك يا قارئي وأخبرك أن الأحكام والتعليقات التي سأبثها إليك في مقالي هذا تكونت لدي في هذه الفترة، ولكنها تكونت عبر الأيام والسنين، وهممت بالبوح بها وقتا طويلا، ولكن لا يتبين لي الساعة ما الذي منعني البوح بها إلى الآن؟ ولكن لا يهم، المهم أن خواطري ضاقت بصدري وفتحت بابه لتتتابع منه بعضها وراء بعض.

   وحسب ما بلغني من خبر فالدراما المصرية قد قدمت هذه القصة خامة أو ببعض المعالجة خمس مرات: مسلسل إذاعي ومسلسل مرئي، وفلمان ومسرحيتنا التي نتناولها. وهذا الحصر ستظهر أهميته لمن يتابعني.

   القصة الأصلية المحفوظة في ذاكرة الدوائر الأمنية والقضائية تكاد تكون معروفة عند عامة الناس وخاصتهم، وهذا يريحني من بسط الحكاية، إلا أنه لا يعفيني من الإشارة إلى هذه المقولة التي بلغتني عن الحكاية: ومؤداها أن رية وسكينة لم تكونا سفاحتين، وإنما كانتا تستدرجان المحتلين من الإنجليز وتقتلانهما انتقاما لمصر ومشاركة في العمل الوطني بزعم الزاعمين، ومهما يكن من أمر فإن هذا المقال يقتصر على المسرحية وتناول العرض بغض النظر عن مطابقته للواقع أو مخالفته.

  وقد يكون في عرض الدراسة بيان لأصل القصة الشائعة.

   هناك محاور درامية ثلاثة يبدو أن مؤلف المسرحية قد فتن بها: واعني بها:

 " ما يسمى بالكوميديا السوداء: وهي أن يستمر العرض من أوله إلى قرب آخره ملهويا ثم ينقلب في آخر العرض إلى مأساة، ويتبين ذلك من رؤية المسرحية: فقد كانت مسرحية كوميدية ضاحكة في معظمها إلى المشهد الأخير الذي كان مأسويا قاتما.

 " الفكرة التي ابتدعتها القريحة الرومنسية، وعلى سبيل التمثيل الكاتب الفرنسي (ألكسندر دوما) وروج لها أتباعه الرومنسيون الشرقيون من أمثال خليل مطران وإبراهيم ناجي وغيرهما واتخذت منعطفا أكبر عندما اقتحمت ميدان الرواية العربية والدراما معا فظهر فيلم (جعلوني مجرما) لنجيب محفوظ و(اللص والكلاب) لنفس الكاتب. وأعني بها الفكرة القائلة إن المجتمع هو الذي يصنع الجريمة. ويبين لك هذا في بداية المسرحية عندما تخيلت القاتلتان أنهما في المحكمة أمام القاضي تبرران له قتلهما أمونة امرأة أبيهما التي جاءت من أغوار الصعيد لتردهما إلى بلدهما.  -وبالطبع ستقول لي إن الكاتب يريد أن يجعل المجتمع هو القاضي) حسن، فليعتزل القضاة وليذهبوا إلى دورهم أو إلى المقاهي وليكن المجتمع هو القاضي، أو إذا شئت فاجعل القضاة من المجرمين الذين يدخلهم المجتمع تحت طائلة حكمه؛ أليسوا هم الذين يقضون بعقاب المجرمين الأبرياء، ويحكمون بتجريم القتلة الشرفاء؟! ، فإذا كان المجرمون أبرياء فالقضاة هم المجرمون!

 " والفكرة الثالثة هي النظرية التي لا يكاد يستطيع إثباتها إلى كتاب الدراما: ومؤداها أن المجرم يعاقب نفسه، وأن عقاب المجرم يكون من نفس صنف جريمته. ولعلك تستوضح ذلك من الأحداث الأخيرة للمسرحية حيث دارت على القاتلتين الدائرة واستدرجتا -دون علم- ابنة إحداهما التي لم تكن تعلم بالطبع أنها ابنتها ثم تعاونتا على قتلها لتجعلا قتلهما إياها خاتمة حياتهما وجريمتهما والمسرحية معا.

   ويروق كاتبك الثرثار أيها القارئ الصبور أن يحاول وضع أسئلته وإدارة نقاشه حول هذه المسرحية التي فتنت بها الجماهير، وما أيسر ما تفتن الجماهير! وما أكثر ما تفتن به الجماهير! وأنى للجماهير أن لا تفتن وقد اقترن في خواطرهم اسم (مسرحية) وضحك) فلم يعودوا يتصورون المسرحية بدون ضحك؟ وها هي ذي المسرحية وها هو الضحك. ولكنني سأبدأ النظر من آخر الأمر:

   فأما القول بأن المجرم يعاقب نفسه من نفس جنس جريمته، فرغم احتمال وقوع ذلك أحيانا إلى أن هذا الحدوث لا يمثل ظاهرة يمكن وضعها كقاعدة. وقد يكون الكاتب اختار هذه الطريقة لا عن اعتقاد بثبوتها كظاهرة بل لاعتقاده أنها طريقة مثيرة للانتباه.

   وأما التماس الكاتب الأعذار لهما في قتل امرأة أبيهما حماية لأنفسهما من الرجوع إلى موطنهما، وقتل مالكة البيت خوفا من افتضاح أمرهما ومعرفتها بوجود قتيلة في البدروم. فبأي شيء يمكن تفسير استشرائهما في القتل وتماديهما فيه ولم تكن هناك حاجة إلى ذلك؟

 لقد ظهرت إحداهما في قسم الشرطة وهي تحمل بعض الشاي ثم بعض الحلوى للجاويش. وقال الجاويش مثنيا عليهما: من يوم ما جيت الجسم والشاي والجهوة مابينجطعوش، دا غير الصحون المغطاة. وكان ذلك قبل زيارة أمونة، أي قبل خطوهما أية خطوة نحو الجريمة.

 ومعنى ذلك أنهما كانتا في سعة من العيش بحيث لا تقومان بحاجة أنفسهما فحسب، بل تمكنهما أيضا من إهداء الجيران.

 ولكن الكاتب لم يستطع أن يبرر لنا هذا التمادي في الجريمة، إلا بعبارات هزيلة لا تشبع الفكر من مثل: مافيش أحلى من قتل النسوان. وهو الأمر الذي ظل سؤالا لم يتمكن الكاتب -فيما أرى- من الجواب عنه حسب معالجته التي يريد بها أن يتميز أو يختلف.

 ورغم أن قتل امرأة أبيهما وصاحبة البيت كان مقدمة لسلسلة من المقاتل إلا أن قتلهما لمن كانتا تصيدان من النساء يظل باديا كأنه مفاجأة لا تدل دلالة بينة على دافع من ورائها، ذلك أن الكاتب لم يقدم لنا شخصيتين ذواتي صفات تصلح أن تؤهلهما لتكونا سفاحتين، أضف إلى ذلك أن الشخصيتين التين دخلتا البيت بعد ذلك -وأعني بهما حسب الله وعبد العال- لم تتوفر فيهما كذلك الصفات التي يمكننا أن نقول إنهما تدفعان امرأتيهما البريئتين إلى هذا المنزلق. والكاتب -من ناحية أخرى- لم يشر من قريب أو بعيد إلى سر دقيق كامن في أنفسهما يمكن أن يستثمر لصالح الجريمة. وهكذا يبقى السؤال الذي طرح آنفا قائما بلا جواب.

 وبقي النظر في المحور الأول (الكوميديا السوداء) وهنا ينبغي التوقف والتناول من جانبين:

 \ الإطار الكوميدي: هل هو إطار مناسب؟

 \ عندما كانت المأساة مأساة مجتمع كان الإطار كوميديا. وعندما كانت مأساة امرأتين كان الإطار مأسويا.

 قدم الكاتب عمله في إطار كوميدي؛ ونحسب أن هذا الإطار كان واحدا من عاملين أو قل وسيلتين اتخذهما الكاتب لاستكثار الجماهير، وأنت تعلم ما معنى استكثار الجماهير بالنسبة لخدام المسرح. وأما العامل الآخر فهو اختيار موضوع رنان له في نفوس الناس وقع جذاب. هكذا أراد بهجت قمر كاتب مسرحية رية وسكينة أن يجمع بين الكوميديا والموت جمعا لم يسبق إليه، فهل يعد هذا السبق سبقا محمودا؟ قد جعلت لنفسي حق الحكم وسأبين لك حكمي من تحليلي، وكذلك لك أيها القارئ حق الحكم:

 وقد سبق أن أخبرتك أن الدراما المصرية تناولت هذه القصة خمس مرات:

 1 فيلم عرض في حوالي منتصف القرن الماضي يصور الأحداث تصويرا مثيرا ليس لانتباه الجماهير ولكن لمشاعرهم الطبيعية التي ينبغي أن تثور نحو القتل والموت.

 2 فيلم كوميدي، لم تظهر فيه حادثة قتل واحدة، لم يظهر فيه إلا المطاردة بين الشرطة والسفاحتين، وبعض المشاهد المضحكة التي تصور رجلا يرتدي ثياب امرأة ويتنافس مع إحداهما من منهما توقع بالأخرى. وهكذا جرت الكوميديا مجراها دون دماء.

 3 مسلسل إذاعي، كان فيه بعض المسامع الكوميدية، وفيه بعض أحداث القتل دون اجتماع للموقفين في أي مسمع منهما.

 4 مسلسل مرئي، حاول مقدموه التقرب قدر المستطاع من القصة الحقيقية. وكان فيه مشاهد من اللهو والعبث من العصابة لا ينسحب ما فيها من اللهو والعبث على الجماهير، وبالتالي يتأثر الجمهور بهذه المفارقة البشعة بين منظر القتل وبين ما يقوم به القتلة من الضحك والمجون.

 5 أما هذه المسرحية -وهي بلا شك عندي أسوأ الأعمال الخمسة وأبشعها- فقد قرن الكاتب فيها بكل جرأة ودون تردد  ولا خجل بين أمرين لا تستسيغ الفطرة السليمة الجمع بينهما: الموت والقتل من جهة، والضحك والسخرية من جهة أخرى. واستعان المؤلف والمخرج على ذلك باثنين من أكبر ممثلي الكوميديا في مصر. وهكذا كان لبهجت قمر السبق في إضحاك الجماهير على الجثث الملقاة أمامهم دون إقبار، هكذا انطلقت ألفاظ مثل (هندفنوها، هندفنيها، هتدفناها، إنتو غاسلين قلقاس) لتنصرف نفس المشاهد عن رهبة الموت والخوف من الأحداث المجهولة والشفقة على هاتين القتيلتين ، إلى الضحك على الجثث والسخرية من بدانتها أو عظامها. هكذا أبدع المؤلف والمخرج والأداء التمثيلي في إخماد الحواس الإنسانية الطبيعية نحو الموت ليستبدل بها وبواسطة هذا المخدر (الكوميديا) مشاعر السخرية التي لا بد أن تؤدي بدورها إلى التعاطف مع العصابة والتعلق بها من وجه من الوجوه.

  والذي أعجب له أن التراجيديا الإغريقية التي نشأت منذ أكثر من ألفي عام نشأت في مجتمع لا يعرف الدين، بل كان مجتمعا وثنيا متعدد المعبودات، أي أنه مجتمع فسدت فيه عقائد أهله، وبالتالي فسدت فيه عقائد كتاب التراجيديا: فهم كذلك وثنيون، وهم إلى جانب وثنيتهم لا يحترمون معبوداتهم، بل يعطون أنفسهم الحق في السخرية منها وتصويرها بصور مخزية مضحكة للعامة. ورغم ذلك فقد كان القاسم المشترك بينهم في تصوير الموت هو إثارة الخوف والشفقة، وهو الأمر الذي حدا بأرسطو الفيلسوف الإغريقي المعروف عند تأليف كتابه المعروف (فن الشعر) إلى أن يجعل إثارة الخوف والشفقة غاية مشتركة للتراجيديا.

 أما اليوم ونحن في مجتمع قد هذب الدين أذواقنا ونقى فطرنا، ورهف إحساسنا، فقد صرنا نرسم الجثث لنجعل صورتها مادة لإضحاك الجماهير وإماتة مشاعر الرحمة والكراهية للجريمة التي لم يكن من إثارتها بد.

 ولا أزال أعجب: قد رأيت من الكاتب ما هو أعجب من ذلك، أو قرينه في العجب:

 كان للمسرحية إطاران: إطار كوميدي، وهو الذي غلب على معظم المسرحية. وإطار مأسوي وهو في ثلاث مشاهد تدل على مقدرة الكاتب وبراعته في صوغ المأساة. وأغرب ما في هذا أنك لو سألتني: المأساة التي في أغلب المسرحية مأساة من؟ لقلت لك بلا تردد: مأساة مجتمع بأسره؛ بعضه يبكي على المفقودات، وبعضه يخاف أن يكون في انتظاره مصير كمصيرهن. هذا إذا لم يكن فيه من يجمع الثقلين على قلبه.

 ولو سألتني: المأساة في قتل ابنة رية مأساة من؟ لقلت لك: إنها مأساة هذه القاتلة؛ قد قتلت ابنتها بيدها فجمعت بن مرارة فقدها لابنتها في اليوم الذي لقيتها فيه وبين مرارة أخرى قد تكون أشد حيث إنها هي التي قتلتها بيدها. ويبقى السؤال الذي أسأله أنا وأجيبه أنا. أي الفريقين كان الكاتب أكثر احتراما ووضعا في اعتباره؟ هل كان يحترم شعور المجتمع أكثر أم شعور السفاحتين أكثر؟

 وإذا أردت أن تعرف الجواب فانظر: متى كانت الدراما تمضي في لهو وسخرية وضحك؟ ببساطة عندما كانت فجائع القتل تخمش وجه المجتمع وجلده ولحمه وعظمه. ومتى انقلب الكاتب اللاعب الساخر إلى كاتب جاد مهتم، يضخم لك المشكلة ويستحث فيك مشاعر الحزن والانتباه والاضطراب. عندما كانت المأساة مأساة امرأتين، مأساة تؤول إلى نهاية الجريمة وراحة المجتمع، وعندئذ يرى الكاتب أن المهزلة قد انتهت وأنه قد جد الجد ، فلنضحك عند تساقط القتلى ولنحزن عند موت ابنة رية وسكينة.

تعليقات