عزة عز الدين تكتب: شريط ستان

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 01 يناير 2021, 05:54 صباحا
  • 1549
الكاتبة عزة عز الدين

الكاتبة عزة عز الدين

شريط ستان


هناك جوار الحائط كانت تتخذ مقعدها، تستند برأسها على الجدار وتنصت باهتمام لكل المشاركين في الاجتماع النصف شهري، الذي دأبت على حضوره، يعقده مدير المستشفى ويشارك فيه جميع العاملين، يشرح كل منهم مقترحاته وملاحظاته، محاولين كفريق عمل النهوض بهذه المستشفى، مشروع العمر لصاحبها، نهوضاً وارتقاءً يليق بأحلامه.


في كل مرة كانت تستمع الطبيبة الواعدة لكل التفاصيل، تراجعها وتطبق ما يفيد، ثم تفرد صفحة خاصة ل د. رائد " مدير المستشفى" حين يبدأ في الحديث تدون ورائه كل حرف، فهي تعلم أن في كلماته عصارة الخبرة والإفادة.


كانت أميرة امرأة لافتة بأناقتها ورقيها شكلاً ومضموناً، ولكنها حجبت مودتها بشكلٍ يحفظُ لها مسافة أمان ترتجيها،  كانت تحافظ على الحدود بما يضمن لها السلامة، ولم يمنع هذا أن تجتهد في عملها، تتفانى بإنسانيتها قبل مهنيتها، فتحقق رصيداً من النجاح لا يستهان  به.

وكان د. رائد يراقب باهتمام هذا النموذج المتميز عن بُعد، حتى تعلق قلبه بها ولكنه لم يجرؤ على الاقتراب،  

 يراها أحياناً في مواعيد العمل والطوارئ حين يتصادف مرورهما في الأروقة وغرف المرضى، أما في الاجتماعات الدورية فكانت فرصته أكبر للتقرب، ولكنها لم تلقِ بالاً، ربما لتلك القيود الحذرة التي طوقت بها قلبَها بعد تجربتها المريرة.


في أحد المؤتمرات وقعت معه في محكٍ و دون قصد لم تحسن فيه التصرف، وبقلب المحب الصامت أرسل لها لأول مرة رسالة معاتباً، وضحت أنها لم تقصد واعتذرت وباتت ليلة مؤرقة حد الدهشة، لم تستطع بعدها أن تخفي على نفسها هذا الشعور نحوه.

في اليوم التالي مباشرة هاتفها ودعاها للقاءٍ خاص خارج العمل.


روحُ مشرقة، وشعور عانق النسيم، وابتسامة مفعمة بالحياة

عينُ لامعة وثغر باسم ونفس راضية

هكذا كانت بعد صوتِه.


قبلت الدعوة وكانت على ضفاف النيل، امتد اللقاءُ طويلاً ووصفه د. رائد " بمعنى السعادة".

وفي اللقاء الثاني تحدثا عن الأماني فكانت لهما متشابهة متشابكة، طريقٌ لم تفكر في مستقبله، فقط تحسست حالة طالما أفلتت منها قاصدة،  وفي اللقاء الثالث دعاها أن تتحرر من محاذيرها، تثق به وتطوي المسافات، أخبرها أنها باتت لا تفارق خياله، وأنها أميرته التي توجت رأسه بحضورها.


وبجملة اعترافاته وأمنياته أمسك بطرف شريط من الستان الناعم عقدت به قلبها وسحبه برفق،

فانفكت العقدة وفاضَ القلبُ بما فيه، أطبق على يديها وقبّلها بعينيه أولاً.  أما هي فقد سكبت عبق اللقاء في زجاجةِ عطر وأحكمت عليه الغطاء.


ترقبت موعداً للقاءٍ جديد فلم تجد، أرسلت له تسأل، وخلف شاشة إلكترونية استمعا معاً لرائعة كوكب الشرق " من أجل عينيك عشقت الهوى" وحين قالت " هذا فؤادي فامتلك أمره واظلمه إن أحببت أو فاعدل"   أغلق دون كلمة واحدة مما زاد حيرتها.


تذكر ما حدث منذ أيام حين قابلته زوجته بسؤالٍ حاد" أين كنت" وأكملت قبل أن يجيب أن حدس الزوجة لا يخطئ، وأنها منتبهة لهذا التغيُّر، وقد بحثت وتأكدت من ميله لامرأة أخرى، واختصرت كل ما يمكن أن يُقال من لومٍ واستنكار في تهديدٍ واحد صريح. إما هي وبناته الثلاث أو المرأة الأخرى، لم يسمح لها أن تسئ لأميرته بكلمة واحدة فهو يثق بأخلاقها وبراءة موقفها، ويعلم جيداً أن المشاعر غير قابلة للسيطرة وقد غمرته قبلها، وهكذا لم يملك دعائم الدفاع عن موقفه سوى أن للقلبٍ أحكام،  دعاها أن تقبل بزواجهما وأنه لم ولن يظلمها وبناته أبداً حتى في وجود هذه المرأة التي أضافت بحضورها على حياته بهجة مفقودة. أقر في داخله أن أضاعتها طباع زوجة حادة أنانية متسلطة، وها هي تجهز على حلمه الأخير في السعادة، وهو من تحمّلَها من أجل زهراته الثلاث.

كررت تهديدها بل وأضافت شرطاً قاسياً أن يفصلها من العمل، ثم اصطحبت البنات إلى بيتِ أبيها ومنعته من رؤيتهن حتى ينهي هذه الصلة نهائياً. أو يطلقها.


ولأن الحياة لا تجود بكل شئ، وبعد صراع قاسٍ بين قلبه ومسئوليته وحسابات مجتمعية طالما كانت ظالمة،  بدأ ينتزع حبها من قلبه،  وبمداد الألم والدمع كتب خطاب إقالتها و ذيله " ستبقين في قلبي المُرهق ما حييت أميرتي".


أما أميرة فقد أزعجها كثيراً هذا الغياب، ظلت ترقب دون جدوى، فكتبت رسالتها الأخيرة الحائرة


وماذا عن سطوة الشوق،  ماذا عن الوله والانتظار، وحنيني لأنفاسك المبعثرة على راحتي وعبيرها الذي سكن ذراتي،  

ماذا عن حقول اللافندر على مقعدين كانا مهداً لأحلامنا،  

 أتراه حُلماً يأبى أن يغادرَ مُقلتي،

 أم دفقة شعور بكر سَرَت في شراييني وامتزجت بدمي فأصبحت ليّ الحياة، 


 ألي خلاص إن أردت؟ 

 أم ستصبح الأميرة أسيرة لا تقوى على الفرار،  

وهل لملكة أن تخضع قبل أن تنهل ما يرويها من أمان،  

هل للأماني سبيل، وهل للسبيل مرام، وهل في المرام أمل؟ 


 هل ستسكن خفقات مضطربة أم ستبقى في هذا الشتات فتنسحب تماماً من مشهدٍ بأكمله قبل أن تسقط مغشياً عليها.


وبضغطة زر وصلته الرسالة والألم والعتاب والدهشة.


في الاجتماع الدوري اتخذت مقعدها بعد أن أحاطت قلبَها بسلكٍ شائك وظلّت تترقب حتى دخل د. رائد،  مرّ جوارها وناولها الظرف  عاجزاً عن النظر لها حابساً دموعه وكم هي أليمة دموع الرجال.


فتحت الظرف وقرأت، ثم هرولت  نحو الباب وقد ضاق صدرها حد الاختناق،  وهناك على الدرج سقطت مغشياً عليها.

تعليقات