من أخبار التراث.. محنة خلق القرآن وتشيع الخليفة المأمون ورمي مخالفيه بالشرك

  • حاتم السروي
  • السبت 27 يوليو 2019, 8:32 مساءً
  • 2469
صمود أهل السنة أمام بدعة خلق القرآن

صمود أهل السنة أمام بدعة خلق القرآن

في مستهل القرن الثالث الهجري كان المأمون بن هارون الرشيد هو خليفة المسلمين وأمير المؤمنين وقد صفى السيف ما كان بينه وبين أخيه الأمين من خلاف، وكان للمأمون أطوار غريبة لعل أبرزها وأكثرها قدرة على خلق الدهشة هو ميله إلى التشيع رغم أنه سليل البيت العباسي وخليفة حاز الحكم بالوراثة.


في تلك الفترة بلغ تعداد أحفاد العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه 33 ألف نسمة وبعد إعلان المأمون لتشيعه وجعله اللون الأخضر وهو رمز الشيعة شعاراً للدولة ومنحه ولاية العهد للسيد علي الرضا إمام الشيعة وابن موسى الكاظم حصل نزاع كبير لأن العباسيين وهم كثر كما رأينا رفضوا هذا الإعلان الغريب ورفضه معهم كثيرون ارتبطت مصالحهم بأبناء الأسرة الحاكمة وساد الانقسام والتنازع وحدثت فتنة كبرى لم تنتهِ إلا بوفاة السيد علي الرضا، وحتى الآن يزعم الشيعة أن المأمون هو الذي قتله بأن دس له السم، وهو زعم لا يقل غرابة عن تشيع المأمون، لإنه إذا كان الخليفة هو الذي وصى للرضا من بعده فما الداعي لأن يقتله؟!.


إضافةً إلى ما سبق كان المأمون من أصحاب اللهو وكان يعشق الغناء والسهر ومجالس الأنس وقد اشترى جارية تسمى "عُريب" بمائة ألف دينار وكانت لها حظوة كبيرة عند الخليفة إذ كانت مطربته الخاصة وأضحى الناس يقارنون بينها وبين "كوثر" المملوك تابع الأمين الخليفة السابق ورفيق ظله.


ثم بدا للمأمون بتأثير من قراءته لكتب الفلسفة وبإيحاء من المعتزلة الذين كانوا في مجلسه أن يعلن عقيدة خلق القرآن وهي مسألة محدثة لم يعرفها الصحابة ولا فكروا فيها وما كانت تدور بخلدهم ولم يتكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله والأمين على الوحي، غير أن المأمون آمن بها وملكت عليه أقطار نفسه ولم ينفع معها ما عرف عنه من الحكمة والتروي وسعة الصدر، ورأيناه يبعث إلى واليه على مصر "كيدر" رسالة طويلة ملخصها أن الله عز وجل قال في كتابه العزيز "إنا جعلناه قرآناً عربيا" وكل ما جعله فقد خلقه! وقال أيضاً "كتابٌ أُحكٍمَت آياتُه ثم فُصِّلَت" فالله أحكم كتابه وفصله يعني أنه خلقه وأبدعه، هكذا زعم المأمون وهو استدلال يلوي عنق النص كما أكد العلماء فليس في الآية ما يدل على خلقٍ أو إحداث.

ومراد المأمون أن يظهر كون القرآن منفصل عن ذات الله، وقال أهل السنة أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته والصفة قديمة بقدم الموصوف أما المأمون فقد رأى هذا شركاً!! وأراد بزعمه أن ينزه التوحيد وأن يجعل الناس يعرفون خالقهم حق المعرفة فالقرآن ليس جزءاً منه بل هو ضمن مخلوقاته، وبالطبع فإن أهل السنة لم يقولوا أن الله يتجزأ ولا طرحوا هذه المسائل المحدثة على العامة ولا حتى فكروا فيها فالأمر برمته لا يعدو أن يكون تكلفاً وابتداعاً من المأمون ورفقائه المعتزلة.

وكان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول لرأس المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد"أمرٌ لم يدع إليه رسول الله ولم يسع أصحابه أفيسعك أنت؟؟!" ويطلب من مناظريه مراراً أن يأتوه بآية أو حديث يدلان على خلق القرآن فلما أعجزهم الرد وضعوه في السجن وعذبوه فلم يرجع ورد الله كيدهم في نحورهم وقطع دابر المعتزلة فانتهوا وإن كانت نهايتهم قد تأخرت إلى القرن السادس الهجري غير أنهم وهنوا وخبا نورهم بعد انتصار الإمام أحمد.

وكان المأمون يأخذ الناس بالقهر ويأمرهم بالقول بخلق القرآن ويجري لهم الاختبارات فمن ثبت أنه ينكر ذلك أودع في السجن ولم يسلم القضاة من ذلك فقد عزل من لا يؤمن منهم بخلق القرآن وعندما مات خفت المحنة وكان أمرها سهلاً في زمان المعتصم لقلة علمه وعدم اكتراثه بتلك الأمور وغلبة النزعة العسكرية عليه فلما توفي أطلت المحنة برأسها من جديد في عهد الواثق وأمر أن يؤاخذ الناس بها وورد كتابه على قاضي مصر "محمد بن أبي الليث" وكان حنفي المذهب وقد فشا الاعتزال في الأحناف بتلك الفترة فلم يبق فقيهاً ولا محدثاً وحتى خطباء المساجد والمؤذنين إلا حملهم على القول بخلق القرآن ومن ثبت أنه لا يؤمن منهم بذلك سجن وكانت ناراً وفتنة حتى أنه أمر أن يُكتب على جدران المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق" وشر البلية ما يضحك ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم استحكم جنونه فأمر فقهاء المالكية وأتباع الشافعي ألا يقربوا المساجد ولا يقيموا حِلَق العلم، ثم انتهت الفتنة في عهد المتوكل الذي أكرم الإمام أحمد بن حنبل ونسي الناس ظلم الخليفة ومكوسه وجعلوه بطلاً حتى قال قائلهم "أبو بكر يوم الردة والمتوكل يوم المحنة".

ومن الطرائف أن رجلاً كان يدخل على الخليفة الواثق ويسامره وكان اسمه "عُبادة" فدخل عليه ذات مرة وقال: عظم الله أجرك في القرآن يا أمير المؤمنين.. قال الواثق: ويحك، القرآن يموت؟؟؟ قال عبادة: ألم تقل أنه مخلوق إذن لابد أن يموت، فضحك الواثق واستحسن قول الرجل، لكنه لم يرجع عن عقيدته وظل يؤاخد بها الرعية والعلماء.

تعليقات