فاضل متولي يكتب: كلمة المرور إلى الفَلَك

  • د. شيماء عمارة
  • السبت 26 ديسمبر 2020, 00:25 صباحا
  • 1141
الكاتب فاضل متولي

الكاتب فاضل متولي

دخلت غرفتها: شاطئها الذي تبلغه كل يوم بعد التيه في بحر اليوم المخيف. جدران غرفتها مطلية بطلاء أسود، وكذا السقف والبساط. ألقت نظرة عند متجه رأسها من فراشها؛ تقرأ اللوحة التي سطرت كلماتها بيدها، ثم استصنعت لوحة علقتها، وأضاءت حروفها بوهج ينثر تحيته على فراشها، ولا يعتني بما سواه:

تعير عينيها ولسانها قلبها، فيقرأ القلب وتقرأ العين واللسان:

"تقودني الكلمات فأنقاد لها، ألقي عقلي ورأيي عن رحالي، أتبع وقد خدرني هواك وحلم الفوز... ثم إذا بي في تيه لا أعود ولا أجد الكلمات التي أغوتني. أناديك: يا حبيبتي: هل أنت هناك؟"

ثم نظرت عن يسار السرير، فإذا لوحة شأنها كشأن الأولى، وإذا هي تقرؤها كما تقرأ الأولى:

"ذوبي رسمك على واجهة القمر؛ دعيني أصافحه حين تحول بيننا الجدر"

قالت –وقد أطرقت وجعلت ترسل عينيها من حين إلى حين بين الأرض وبين اللوحتين:

هل ستسامحني؟ هل ستسامحني حينما أسطر رنة ذكراك على اللوح؟ أنا لم أقل إنها كلماتي، لكنهم يرونني أكتبها فيظنون إني كاتبتها. هل ستسامحني؟

ثم اتخذت من زينتها ما استطاعت، وأقبلت نحو فراشها. ألقت بنفسها وظلت تتمتم:

يا سيدي: زحف اليتم والترمل إلى روحي، حاصر الظمأ أمنياتي، حل العطب في كل أحلامي. هلا سقيتني نزرا من عطر لقياك، آه لو تعلم، آه لو تدري! ذلك الطوق الذ انحل من حولي متى يعود؟ أهواك، أهواك يا سيدي، أهواك فأقبل، أقبل يا سيدي، أقبل.

كان رأسها مائلا مواجها للنافذة المفتوحة، كأنها تتابع مشهدا في وسط السماء، بينما كان القمر يرقى في السماء كأنه شيخ يرقى متئدا منبره. وعندما استقر الملك على عرشه في كبد السماءتعامد ضوؤه على وجهها فأبدى شيئا من الحقيقة ولم يبد الحقيقة كلها، ثم أرسل يدا مفتوحة الأصابع فبسطها على صفحة الخدين وغمى بهما العينين، فأخفى شيئا من الحقيقة ولم يخفها كلها. ثم فرج قليلا بين جفنيها فرأت سلما نورانيا صاعدا إلى حضن القمر.

هنالك انجذبت في ممر صاعد وضيء، حتى جلست على عرش أعد لها هناك، وإذا العالم كالجب السحيق، فيه دروب وأرصفة وعابرون. وعلى جانب من أرصفته كيس ملقى معقود. وإذا قط أسود الشعر، أسود الرأس، أسود العينين بلا بياض، أسود الرجلين، أسود الرغبة، كله أسود، وكله سمين. وإذا به يرقد فوق الكيس الملقى.

خمش القط عقدة الكيس حتى فتق فيه فتقا، فخرجت موزة باهرة الوهج، لها صوت لم يغرد به قبلها شيء من الطير، وظلت تطوف حول القط: تمس عينيه وأنفه وأذنيه وصدره، وإذا القط لا يشغله غير الكيس الملقى، فهبطت إليها من أعلى نسمة حف حفيف الدوح لعطرها، ورق الهواء، لكن القط كان راقدا فوق الكيس الملقى.

رفعت وجهها إلى أعلى، وكأن مصيدة من الغيب تمنعها إلا من الصعود.

كان سر الشذا وروح العبير قد تجسد للعين منظرا، ولم يتجسد لغيرها ملمسا. تتصارع اللهفة والدلال فيها فيكادان يقتسمانها، ما أدركها من سطوتهما إلا موعد لم يتواعدا عليه. تلامست الروحان، ثم أومض البرق فخفيا عن العيون، ثم ظهرت روح واحدة هائمة تغني. وحولها طير الأماني تصفق وتقول:

يا عروس الليل هاتيك الرحاب*** ترقص الأنجم فيها والسحاب***

صفقت لما رأت عقد الهوى*** ينظم الروحين من بعد الغياب***

أهما روحان أم واحدة*** حارت الأعين فيها واللباب***

يغتلي الشوق إذا ضمهما***

فقال:

هات زدنا يا هوى نعم التهاب***

حكت الأوهام أن لا نلتقي*** قد كفانا من حكاياها الكذاب***

قالت الروح الصاعدة من الدنيا:

ضمني بين الحنايا ضمني***

فقال:

يا شبابي بين عينيك الشباب***

أسكري عيني من عينيك لا*** أرتوي ما دمت من هذا الشراب***

قالت النجوم والسحاب وهي تزفهما:

يا عروس الليل فليهن الهوى*** بلقاء واجتذاب واقتراب***

دمعة البعد استحالت شمعة*** نورت في ظلمة درب الإياب***

ثم دارت الأنجم حولهما، ونثرت عليهما من وهجها فاستحالا ومضتين لم يلبثا حتى صارا ومضة واحدة، وزخ عليهما السحاب زخة من ضبابه فوجدت طيبه فازدادت ذهولا وهياما. وأقبل القمرفي صورة حصان، فركبا ظهره فمضى بهما في الأفق، وعند زاوية ملتقى استدارة الأفق ظل القمر الجواد يهبط يهبطيهبط. حاولت أن تفتح فمها لتقول له: اصعد بنا، لكنها لم تفلح، وكأن شيئا ثقيلا يكمم فمها، وهاجت الريح. وارتبك الجواد، ومالت من فوقه ميلة لم تستطع عندها أن تتماسك. واصطدمت فجأة بشيء لين مبسوط.

فتحت عينيها فإذا هي على سريرها تنظر إلى نفس الموضع الذي أطل عليها منه القمر، لكن القمر مال إلى المغيب، وإذا على عنقها وفي أنفها رائحة ساخنة.

تعليقات