فاضل متولي يكتب: سندريلا.. هكذا كنت أتخيلها (3)

  • د. شيماء عمارة
  • الجمعة 18 ديسمبر 2020, 7:49 مساءً
  • 1239
الكاتب فاضل متولي

الكاتب فاضل متولي

لقد جاء الوقت لتلبس من الثياب ما يبوح بالفتنة ويفشي أسرار الأنوثة، ويجعل الأمير أسيرا والأسير أميرا. ولكنها رجعت من هذه الأفكار الملتهبة إلى سؤال: أليست –إن فعلت ذلك- تكون –هي الأخرى- بضاعة؟ أليست الجارية التي تساق راغمة أكرم من تلك الحرة التي تسوق نفسها راغبة؟ كيف تفعل ما يدينها أمام نفسها وهي التي ظلت ترهب سوط الضمير؟ كيف تستطيع أن تقف بهذه المبادئ صامدةً إذا كانت مفاتنها سببا في الفوز بقلب الأمير؟وماذا يكون معنى هذا الصمود إذا خسرت وعادت بلا شيء؟

وقد كان إيمانها بأفكارها صلبا، وأقرب شيء منه صلابة –في تلك اللحظة- شعورها بالضيق بهذه الأفكار، لا بد أن تثبت على قيمها، ولا تكون من الذين يقولون ما لا يفعلون.ولم تكتمل لحظة واحدة على مرور هذه الأفكار على قلبها حتى أسعفتها فكرة برقت في نفسها بروق الساحل للمبحر التائه: إنها لن تستطيع أن تطوف ببيوتهن بيتا بيتا لتنصحهن وتظهر لهن ضلالهن وتصدهن عن حمقهن، ولكن الفرصة واتتها باجتماعهن في قصر الأمير، فلتذهب إليهن لتصرفهن عن هذا الإسفاف. وقبل أن تدبر لخروجها بعثت في خيالها القصر والحفل، وتصورت نفسها تصيح فيهن خاطبة مبكتة: أيتها البضائع التي ساقت بنفسها إلى أيدي زبائنها: كان أكرم لك أن تكوني كلابا؛ فإن الكلاب لا تذهب بنفسها إلى المتاجر:، فهل رأيت أن نفسك أخس من نفوس تلك البهائم فدفعت بنفسك راضية إلى هذا المعرض، ولست تعلمين أن الشارين –بعد أن يملأوا أعينهم وأنوفهم وربما أيديهم سيرضون عنك؟ فما بالك برجل لن يأخذ –إن أخذ- أكثر من واحدة، وترجع سائركن بانكسار؟!.

وارتجفت سندرلا عندما تصورت ذلك، وخطر لها أنها إن بادرتهن بهذا الهجوم فستلقى من شرفات القصر إذا رحمها الأمير. فالأكيس أن تتبسط وتلين لهن في القول حتى تظفر بقلوبهن. ولم يخطر ببالها أن الحفل وما يحتويه وما يستصحبه مقام لا يناسب النصح، وإن شئت فقل: إن بالها لم يسمح لهذا الاستدراك أن يخطر به. ولكنها رضيت عن الفكرة وسترت بها الخواطر والأسئلة السابقة التي ضيقت صدرها وأعدت نفسها للخروج. ولم يكن عسيرا عليها أن تجد مبررا لتناول ما يعجبها من ثياب الفتاتين؛ فهذه الثياب من مال أبيها وهي أحق منهما بهذا المال. ولم تجد كذلك عسرا في الجواب عن سؤال ألقاه عليها ضميرها: إذا كنت ذاهبة للخطابة والموعظة وهذه الأمور، فما هذا التأنق وما هذا التزين، وما هذا التعطر؟ فأيسر جواب وأقربه: أن هذه هي مفاتيح أبواب قصر الأمير وتذكرة دخوله.

 

  خرجت سندرلا من بيتها قاصدة حفل الأمير تدفعها إليه حماستان: حماسة صادقة وأخرى كاذبة، وقد دار في خاطري سؤال: ألم يكن هناك ما يثبط عزمها عن ذلك؟ ولكن خيالي لم يخبرني بجواب؟ ورغم أني أظن أن أكثر الذين يقرؤون هذه الكلمات يتمنون أن تفوز هي بالجائزة ، إلا أنك ياقارئي قد تدير في مخيلتك أو تدير هي عليك ما لم يسعفني من التصور عن ذلك، هل كان هناك في خاطر سندرلا ما يثبط عزمها عن الحفل؟ وهل يعوق خيالك هذه الأمنية التي تريح النفس التي ترحم هذه البائسة فتتمنى لها أن تجد مخرجا من بؤسها؟ وإذا أردت أن أجاري –في ذلك أمنيتك فإنني أستطيع أن اقول لك ما يريحنا معا: أستطيع أن أقول لك إن الأمير أرسل عماله وشرطته يلتمسون في البيوت والأكواخ كل أنثى خالفت الأمر السامي وقعدت عن الحفل، فعثر هؤلاء –فيمن عثروا- على سندرلا، فجهزوها رغم أنفها وحملوها عنوة إلى القصر،. أو أن الأمير أمر كل الحاضرات أن يشين بمن يعرفن ممن لم يحضرن من الجارات أو الصديقات، فإذا أدرت الحكاية على هذا النحو أكون قد أرضيت كثيرا ممن يقرؤون هذه الكلمات؛ فقد ذهبت رغم أنفها ولم تختر هي أن تذهب، فلم تبع نفسها إذن ولكنها فازت بالأمير من غير عمد.

ولكن بقي إن أنا سردت لك الحكاية على هذا النحو أنني أبقيت على هذه القاعدة البغيضة إلى نفسي وإن كانت محببة إلى الناس جميعا: ومؤداها أن الجمال هو الوحيد الفارق بين امرأة وأخرى.

  وليس هذا في ثقافتنا، إنما دخل علينا من سبك المؤلفين ومهارة المخرجين وبراعة المصورين، ألست تعلم يقينا أنالذين يريدون أن يقتلوا بالسم يختارون للضحية أحب الطعام. وهل ستتمنى أن تفوز هذه البائسة في مسابقة الجسد إذا جردت لك القصة من زخرفها؟  وهل تحب –يا قارئي- -لو أقيم مثل هذا الحفل في بلادنا- أن يقال لك إن البنات ذهبن إليه فرارا واستتارا من آبائهن أم أن يقال إنهن ذهبن بصحبتهم أو بتحفيزهم أو لم يبدوا على ذلك سخطا؟ ثم أجبني ياقارئي –وليس لي غيرك من يجيبني-: أين تجد البطولة أجلى والقوة أبين والشموخ أبهى وأنصع: في بيتها رغم ذلتها وشقائها، أم على عرش استأجرته بانتزاع نفسها من عالم الإنسان لتقترب كثيرا أو قليلا من عالم الدواب؟  ومن التي تكون أخلد في نظرك وأخلد في التاريخ: امرأة فضلت منزلة مزيفة، نعم مزيفة لتستريح من الشقاء أم امرأة فضلت الشقاء على المنازل المزيفة؟ إن الرضيع يعاف لبن أمه إذا أعطي قبله مادة سكرية رغم أن لبن ارضاع أنفع له، كذلك نحن ننخدع في الأشكال إذا شكلت وفي الألوان إذا لونت ونترك الأنفع لنا إذا لم يكن ذا شكل ولا لون، وأنت تعرف أن الإنسان لم ولن يعثر على شيء أنفع له من الماء، وليس الماء ذا شكل ولا لون.

 وقبل أن تضجر من هذه الفلسفة اتم لك ما بدأت.

إلى هذه اللحظة لم يكن يثبط سندرلا عن عزمها شيء، بيد أن هناك ما كان يثقل خطواتها: إنه الخيال، الخيال مرة أخرى أو اجعل له الرقم المناسب: ها هي أسوار القصر أمامها، جاء القصر إلى باب البيت، كأنها تراه رأي العين، ولكن تستطيع سندرلا أن تتخيل القصر بأسواره وحراسه، لكن هل تستطيع مثلها أن تتخيل ما وراء هذه الأسوار وما قام الحراس لحراسته؟ وأنى للخيال أن يأتيها بشيء ليس لها به خبرة؟ ومن أين يشرب الخيال إذا نضب معين الخبرة؟ ومن أين تسعفه المادة التي يشكلها إذا بخلت الخبرة؟ أليس مخزون الخبرة هو مادة الخيال أو –على الأقل الوقود الذي يشعل جذوتها؟ ومع ذلك فإن بخل الخبرة أو قل فقرها لم يمنعها من التخيل، بل لم يمنع الخيال من الافتئات على الغيب والحقيقة معا، فراحت تتخيله بخيال يناسب تصورها الفطري للأحداث بغض النظر عما إذا كان كذلك في الحقيقة أو لم يكن: ها هو القصر إذن أمام البيت، ها هي الأبواب، ها هم الحراس، منهم الوقور المتعفف، ومنهم الخائف من بطش الأمير المبدي للوقار والتعفف المحكم إغلاق شفتيه على ريقه، ومنهم الذي نسي الوقار ونسي الأمير فطمحت عينه إلى حيث اختارت من هذه الدمى، وإلى حيث اختارت من إحداها، ونبش هذا الطموح في النفوس عن رغبات لا يحسن ذكرها، وانطلقت الألسنة العابثة بذكر ما طمحت إليه العين وما رغبت فيه النفس، فشفى الكلام بعض النفوس بعض الشفاء، وزاد بعضها طمعا، كما زاده تجاوب السامعين وسكوتهم على تحرر اللسان وتفحشه فغارت الأيدي من الأعين ومن الألسنة فسعت لتنال قسطها. سينال الأمير –إذا- بقايا خدمه.

ونظرت إلى القصر فإذا ساحة كبيرة مزينة واسعة، وفي مقدمتها مسرح صغير ولكنه ليس كهيئة المسارح التي نعرفها:إنه ممر قصير يصعد إلى أعلى ثم يؤدي هذا المرتفع إلى ممر مماثل يهبط إلى أسفل، وصوت هناك يأمر البنات بأمر الأمير أن يصعدن ويهبطن، وظن ظنها أن الأمير سيختبر نفسه في انتقاء أجملهن بأن يستعيد صعودهن وهبوطهن لينظر أتلك التي رآها أجملهن أول مرة هي التي سيراها أجملهن في المرة التالية والتالية، إلى أن يستوثق منثباته، فعندئذ يكون قد عرف عروسه وشريكةحياته!

ونسيت سندرلا الغاية المزعومة التي تذرعت بها للخروج، وعندئذ ضرب بركان الحقيقة تربة الكذب، وسألت نفسها: أيتهما أجمل في عينيك: الأميرة الجديدة أم صديقة تقابلك الآن في الطريق فتنهاك صادقة عن الحفل وتنصحك بما كنت تريدين أن تنصحي به الذاهبات إليه؟ وتذكرها بأنها مهما سيمت الخسف في بيتها فلن يسومها الخسف عارا، ولن يذكر في سيرتها إلا أمارة من أمارات المجد، أما إذا ذهبت فلن يظن أنها فازت إن فازت إلا أصحاب المبادئ المغلوطة والأخلاق المخلوطة، أما من صح مبدؤه وانفرد مصدره فلن يرى إلا ما رأى كاتب هذا المقال، ولما انتهت الحكاية إلى هذا الموضع سألت نفسي ومن يقرأ: من منهما أحق بأن أكتب عنها وأذيع ذكرها في أبواق التاريخ؟

تعليقات