فاضل متولي يكتب: سندريلا.. هكذا كنت أتخيلها (2)

  • د. شيماء عمارة
  • السبت 12 ديسمبر 2020, 02:14 صباحا
  • 1159
الكاتب فاضل متولي

الكاتب فاضل متولي

وقد كانت إذا مرت امتلأ من يراها شعورا بأنها يمامة ترفرف في وداعة الضعف أو ضعف الوداعة، بل إن اليمام لم يؤت هذه الوداعة ولا بعضها، وكانت إذا مرت تلقي برقتها أدبا في قلب من انعدم خلقه، وكان وهج جمالها يسبق وجهها إلى العيون فيستحيل حينا وعودا وحينا جنودا، وكانت قليلا ما تبتسم، وما كان غياب ابتسامتها يزيدها في نفسك إلا ثباتا وفي قلبك إلا وقعا، فإذا ابتسمت، ألفيت فاكهة الصيف في الشتاء، ورأيت الدماء في صدرك كالبحار الطاغية، وعلمت أن الهوى لا يداعب وإنما يغزو ويدهم، وعلمت أن الهوى لا يمطر ولكن يموج ويهدر، وسجنتك رجلاك حيث تقيم وعيناك حيث تبصر، وأرسل فؤادك رسلا دون أن يستأذنك، ودون أن يرجع من رسلك السابقين أحد.

وفيم تعجب يا قارئي؟! أمن صفة أو صفتين عرفتهما في أنثى فأضفت إليها من ظنوني صفات أخرى؟ ومن منا لا يفعل ذلك؟ من منا لا يزيد من أعجبه من صفات خياله ما يزيده به إعجابا؟ أوليس المحب يصف محبوبه بصفات تخرجه من البشرية، إما لأنه يظن به هكذا وإما أنه يتمنى أن يكون كما يظن؟ أليس الظن والتمني يختلطان فيما ننسبه إلى من نحب حتى أننا –أنفسنا- لا ندري أما نراه فيمن نحب ظن أم تمنٍ؟

  وأكثر ما كان يتيح لسندرلا أن تشاطر المتربصين بها ما يراسلونها به من العبث إهمال ذويها شأنها، ذلك الإهمال الذي ذاع في الحي، فسماه الأعداء إهمالا وسماه الأحباب ثقة، وقد يؤدي الإهمال والثقة مؤدى واحدا، وقد يتحول الإفراط في الثقة إلى إهمال، وقد يتذرع المهمل بالثقة. ولكنها دفعت عن نفسها كل ذلك. ولن يكون الذي مضى من هذا الكلام أعجب من الآتي:

أعلن أمير البلاد أنه يدعو بناتها إلى حفل (في قصره) ليختار منهن زوجا له!. وأول ما جال بخاطر سندرلا عندما سمعت المنادين أن الأمير يريد أن يقيم معرضا للجواري في قصره، فليس كواحد من الرعية الذين ينزلون إلى أسواق النخاسة، فهو أذا أراد الجواري فكل بنات الأحساب والأنساب له جوارٍ، وهو إذا أراد الجواري جاءه السوق إلى بيته. وقد استحوذ عليها العجب من هذه الطريقة في اختيار الرجل امرأة يستأمنها على عرضه وماله فضلا عن أن يكون ذلك الرجل أميرا يختار امرأة تشاطره صفة الإمارة، وهل يعرف ذلك من النظر؟ وهل يتساوى حظ المرأة من الجمال مع حظها مما سواه من الصفات: فأيما امرأة كانت جميلة كان جمالها شاهدا على كمالها أو على بعض الكمال؟  أم أن الأمير سيحملها على ما يريد من الخلق بسطوته ويفرضه عليها بسلطته؟ وهل تفلح السطوة والسلطة في تخليق البشر؟ قد لا يكون الأمير ممن يقدرون قيمة الخلق وخطورة فقده، وقد يكون من اليسير عليه أن يقيم حفلا آخر إذا لم يؤت هذا الحفل ثمرته سواء تبين ذلك الآن أو بعد حين، فيبعد هذه ويستبدل أخرى، ولكن كيف إذا قدرت على مداهنته وخداعه؟ وقد أنشأ عقلها أفكارا وعجز عن كسوتها بكساء مناسب أو غير مناسب من اللغة: فمنها أنها احتقرت المنادين الذين أرسلهم الأمير ليعلنوا عن الحفل وشروطه وهدفه، وتعجبت: كيف يقبل كائن يشار إليه ب(الرجل أن يؤدي هذا الدور؟! ثم تعجبت من الأمير: كيف يدير البلاد فتى يريد أن يجعل نصف بلاده قمامة ويجعل النصف الآخر متهافتا عليها؟

وقد همت بأن تخرج إلى الطريق فتنصح البنات بمقاطعة الحفل، ولكن قعد بها عن عزمها ذلك الانكسار الذي نُشَئت عليه من صغرها، وأوحت إليها خواطرها مبررات يطول شرحها فاكتفت بالخيال، فصنعت من خيالها مدينة وأميرا وأبكارا، وظلت تطرق الأبواب وتعرف الناس بنفسها وتبين لفتياتها أنه لا بد أن تكون للأنثى كرامة تمنعها أن تدعو إليها الرجال بكلمة أو بفعل، فكيف بمن تذهب إلى القصور لتضع نفسها في منافسة مع غيرها، ليست المنافسة إلا في إظهار محاسن الجسد، وأن هذه الكرامة لا بد أن تصون صاحبتها عن كل ذلك، وأن لا تقبل من الرجال إلا من يرى فيها شيئا يفوق الجمال ويعوض عنه إذا ضاع. وأن الذي يعشق الألوان السطحية لن يكف عن البحث عنها والسعي وراءها ما دام في سعة تتيح له ذلك، وقد لا يحتفظ بأجملها إلا ما دام أجملها، وأنه سيلتمس غيرها إذا وجد أجمل منها أو إذا زهد فيها. وهل يبقى الانبهار الأول في النفوس؟ وهل تمسك النفس لهفتها التي كانت عليها أول مرة؟ أم أن التعود سيتدخل في تشكيل الحكم على ما نمتلكه من أشياء ومن اخترنا من شركاء؟ وأن هذا التعود الذي كان –في زمن حكما لمن اصطفينا يزيده في أعيننا حظوة، أما اليوم فقد انقلب حال التعود فصار ينفرنا منهم وإن كانوا خيار الناس؟

وتعترض هذه الخواطر في نفس سندرلا خاطرة أخرى تناقضها من كل وجه: فقد امتلأت شعورا بأنها أجمل نساء الأرض، ولم تقم على ظنها ذاك دليلا إلا ذكريات مرت بخاطرها: فقد تذكرت أنها كانت تحسم المنافسة دائما أذا مرت بأي طريق بالمدينة على الغلمان الذين يعابثون العابرات، فسرعان ما ينصرفون عنهن ويزهدون فيهن إذا ظهرت سندرلا. وأسلمها ذلك الظن إلى شعور بالعجب صورها لنفسها أنها ترقص في حفل الأمير، وغرقت في خيالها فرأت الأمير معرضا عن كل شيء، ممتلئ العينين لهفة وتمنيا وإعجابا، وانه أمامها يستأذنها في الحديث، فأمنها سلطان جمالها من سلطان الأمير، فجعلت تظهر الخجل وتخفي رغبتها في إشعال لهفته، فخرجت من القصر معرضة عنه، وتملكها إذاك شعور بأن جمالها هو كنزها، وقد حان وقت إخراجه من مدفنه، ينبغي أن يرتفع صوت آخر إذا خفت صوت الحنجرة، ينبغي أن يطلق نورها الباهر من قيود هذه الثياب الرثة التي تفلح كثيرا في ستره، لقد جاء الوقت لتلبس من الثياب ما يبوح بالفتنة ويفشي أسرار الأنوثة، ويجعل الأمير أسيرا والأسير أميرا.

....................... يتبع

تعليقات