حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم...
أما بعد...
فقد ورد في صحيح مسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ
مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ". فالحديث فيه
لفظ (التغيير)، وليس الإنكار فحسب، فكيف يمكن تغيير المنكر بقلبه؟
ذهب كثير من العلماء إلى أن التغيير يكون بالكراهة أو الإنكار، فقد
قال النووي في شرحه "فَقَوْله صلى الله عليه وسلم"
"فَبِقَلْبِهِ"، مَعْنَاهُ فَلْيَكْرَهْهُ
بِقَلْبِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِزَالَةٍ وَتَغْيِيرٍ مِنْهُ لِلْمُنْكَرِ
وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي وُسْعِهِ" انتهى.
وقد أورد قريب ذلك في
فيض القدير حيث قال: "(فإن لم يستطع) ذلك بلسانه لوجود مانع كخوف فتنة أو خوف
على نفس أو عضو أو مال محترم أو شهر سلاح (فبقلبه) ينكره وجوبا بأن يكرهه به ويعزم أنه لو قدر بقول أو فعل:
فعل، وهذا واجب عينا على كل أحد بخلاف الذي قبله فأفاد الخبر وجوب تغيير المنكر
بكل طريق ممكن" انتهى.
وقال في عون المعبود
شرح سنن أبي داود: ("فَبِقَلْبِهِ": بِأَنْ لَا يَرْضَى بِهِ وَيُنْكِر فِي بَاطِنه عَلَى مُتَعَاطِيه فَيَكُون
تَغْيِيرًا مَعْنَوِيًّا إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعه إِلَّا هَذَا الْقَدْر مِنْ
التَّغْيِير. وَقِيلَ:
التَّقْدِير فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ لِأَنَّ التَّغْيِير لَا يُتَصَوَّر
بِالْقَلْبِ فَيَكُون التَّرْكِيب مِنْ بَاب عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً
بَارِدًا). انتهى. وكذا قال نحوه في تحفة الأحوذي.
وفي تفسير الشيخ الشعراوي عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة المائدة: آية 105].
قال: (وكذلك قول الحق: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي أنكم يا جماعة المؤمنين كل منكم مسئول عن نفسه وعن بقية النفوس المؤمنة، ومن الهداية أن نقوّم الذي على فساد.. وتتابع الآية {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فما دمتم قد حاولتم تقويم الفساد فأنتم قد أديتم ما عليكم في ضوء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
ولكن كيف يكون التغيير بالقلب؟ أي أن يكون تصرف الإنسان المؤمن هو المقاطعة لمن يخرج على منهج الله، فإن قاطع كلُّ المؤمنين أيَّ خارج على منهج الله فلا بد أن يرتدع، وعلى المؤمن ألا يقابل منحرفاً أو منحرفة بترحيب أو تعظيم، فالتغيير بالقلب أن يكون التصرف السلوكي الظاهري مطابقاً لما في القلب، فيحس فاعل المنكر أنه مستهجن من غيره".
وفي موضع آخر من تفسير الشعراوي عند تفسير قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}" قال الشيخ الشعراوى: (فإنْ لم يكُنْ في استطاعتك هذه أيضاً، فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب، فإنْ رأيتَ منكراً لا تملك إلا أنَّ تقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا يرضيك لكن أيُعَدُّ عمل القلب تغييراً للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيِّره بيدك يعني: إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئاً؟ قالوا: لا يحدث التغيير بالقلب إلا إذا كان القالب تابعاً للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله، والقالب يساند حتى لا تكون منافقاً، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلاَّ فكيف تُغيِّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدِّه ومعاملته؟
إذن: لا يكون التغيير بالقلب إلا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنه
في عزلة، فلا تهنئه في فرح، ولا تعزيه في حزن، وإنْ كنتَ صاحب تجارة، فلا تَبِعْ
له ولا تشتر منه .. الخ. وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إلا لأن
الناس يحترمونهم ويعاملونهم على هذه الحال، بل ربما زاد احترام الناس لهم خوفاً من
باطلهم ومن ظلمهم. فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف". انتهى.
وفي تحفة المحتاج في
شرح المنهاج وحاشيته للشرواني: (فَمَعْنَى فَبِقَلْبِهِ عَلَى مَا يُعْطِيهِ
السِّيَاقُ [فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ] بِأَنْ
يَتَوَجَّهَ بِهِمَّتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إزَالَتِهِ وَهَذَا لَا
يَلْزَمُ تَحَقُّقُهُ فِي عُمُومِ النَّاسِ فَحَسُنَ عَدُّ رُتْبَةِ الْأمر
بِالْقَلْبِ الْمُرَادُ لِيُطَابِقَ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ فَتَأَمَّلْهُ إنْ
كُنْت مِنْ أَهْلِهِ" انتهى.
فيمكننا أن نفهم قوله
صلى الله عليه وسلم: (فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) هو أن يتوجه
إلى الله بقلبه فيسري حاله إلى الفاعلين للمنكر؛ كما الحال في الحسد فالحاسد إنما
حسد بتغير في نفسه حتى ولو لم يباشر المحسود أو يمسه، فالحسد يسري تأثيره السيء في
المحسود، فكذلك هذا المؤمن الذي ينكر بقلبه يسري تأثير حاله الإيماني إلى فاعل
المنكر فيتركه ويتغير المنكر ببركة الالتزام بالشرع وصدق التوجه إلى الله تعالى.
ومن هذا الوادي؛ ما اشتهر في رعي الغنم دون أن تضرها الذئاب في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن القصاب: رأيت الذئاب ترعى مع الغنم البادية في خلافة عمر ابن عبد العزيز فقلت: سبحان الله ذئب مع غنم لا يضرها؟ فقال الراعي: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس.
وقال مالك بن دينار: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء
الشاء: من هذا الصالح قام على الناس خليفة؟ عدله كف الذئاب عن شائنا، وقال رجل من
ولد زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً وذلك ثلاثون شهراً
فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: أجعلوا هذا حيث ترون في
الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله قد
أغنى عمر بن عبد العزيز الناس. فهذا عمر بن عبد العزيز وجده عمر رضي الله عنه كان
أفضل منه، بل والأعظم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك أيضاً، فإن
ظهور الخير في العهود الأولى لم يحتج إلى مثل هذه الآيات المعضدة، فلما وقع
الاختلاف جعل الله الآيات المعضدة كرامة للمجدد الأول عمر بن عبد العزيز، والله
أعلم.
فللقلب تأثير خفي بقدر
الله تعالى، فمن غيَّر بقلبه حقاً تغير المنكر واقعاً، ويستدل عليه بقوله تعالى:
{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فعند
إرادة الإصلاح؛ يخلق الله التوفيق، والإرادة إنما محلها القلب، فكل شيء إنما يكون
بأمر الله تعالى، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}
[السجدة: 5]، فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره،
فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد تغيير المنكر، ويجعله سببا لتغييره، كما
في العمل والثواب، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم
أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، فهو سبحانه جعل ما يفعله سببا لما يفعله.
ويمكن يفهم هذا أيضاً
من خلال حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها" وقال مرة
"أنكرها" "كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن
شهدها". [رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني]، فالكراهة بالقلب قطعاً،
فيتحرك القلب بمقاومة المنكر حركة غير مرئية.
وثمة بحوث جديدة حول تأثير دقات القلب على الموجات التي
يبثها الدماغ (موجات ألفا)، فكلما زاد عدد دقات القلب زادت الترددات التي يبثها
الدماغ. وبدأت فرضيات أن الناس يساعد بعضهم البعض بعدة طرق ومنها التفكير النشط،
فلا ينكر تأثير القلب بالتغيير كما ورد في النص.
مما سبق نستخلص أنّ
العلماء ذهبوا مذاهب شتى في هذا الحديث منها:
1)
ما ذهب إليه كثير من العلماء منهم الإمام النووي فيما ذكره أعلاه من (فَقَوْله r: "فَبِقَلْبِهِ"، مَعْنَاهُ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِزَالَةٍ وَتَغْيِيرٍ
مِنْهُ لِلْمُنْكَرِ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي وُسْعِهِ). انتهى، والحديث
يقتضي التغيير بالقلب فهذا القول – مع علو قدر القائلين به مدفوع لما فيه من
الحياد عما يقتضيه الحديث.
2)
ما ذهب إليه الشيخ الشعراوي من أن الإنكار بالقلب يأتي بمقاطعة فاعل المنكر ونحوه بتغير القلب عليه وما يلزمه من تغير
الجوارح، وهو توجيه قوي.
3)
ما ذكره في تحفة المحتاج وهو: (فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ بِأَنْ يَتَوَجَّهَ بِهِمَّتِهِ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى فِي إزَالَتِهِ)، وهو أيضاً توجيه قوي، فالمطلوب على العموم هو التوجه
القلبي إلى الله تعالى للتغيير، فمنهم من يجاب لصدق توجهه ويقينه ومنهم من لا
يجاب.
4)
ما نقل من موضوع سريان الحال، وهو أن يسري الحال الإيماني للمنكر بقلبه في فاعل
المنكر فيتغير، وعليه دلائل من سير الصالحين.
5) ثم
ما قدمنا من تغيير القلب الحقيقي فيما يخلقه الله من تغيير عند وجود إرادة صادقة
بوجود إشارات من القلب غير مرئية تؤثر في المحيط الخارجي.
ويمكن الجمع بين كل ذلك بأنّ المنكر بقلبه يتوجه إلى الله تعالى في
تغيير المنكر، فيجاب على قدر صدق توجهه،
فإن لم يبلغ تلك الدرجة فيصاحب فعله القلبي بإنكار الجوارح بالمقاطعة ونحوها كما
في أمر الثلاثة الذين خُلفوا، ويتبقى أن يكرهه بقلبه على الأقل ليخرج بذلك عن
دائرة الإثم، وبالله التوفيق. والله أعلى وأعلم.
والله تعالى أسأل أن يبصرنا بالحق ويهدينا إلى سواء السبيل. وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه: د. خالد بن فوزي بن عبد الحميد حمزة
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
والمتعاون مع كلية الحرم بالحرم المكي
وجامعة أم القرى ـ سابقاً