عزة عز الدين تكتب: سفيرة النور

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 11 ديسمبر 2020, 9:58 مساءً
  • 817
الكاتبة عزة عز الدين

الكاتبة عزة عز الدين

هكذا لقّبها، وهكذا ناداها وناجاها،  جميلة كانت حد البهاء، صافية كما الألق، رقيقة مثل النسيم، تحمل صندوقاً خشبياً رصّت فيه الحلي، قلادات وخواتم وأساور، تجوب الشاطئ منذ الصباح الباكر في إحدى القرى السياحية القريبة من الإسكندرية تنادي وتبيع، وحين يقترب الليل تجلس في شرفة  أحد الشاليهات، تعد حصيلة اليوم من النقود ترتفع ضحكتها كلما فاق المبلغ ما تتوقع فتبدو كمن أطبقت على مفتاح قصر.

اعتادت الارتكان على جدار هذا الشاليه الذي عرفته بعلامة صوتية نافذة صوت فيروز المنبعث دائماً، وعلامة ضوئية أخرى  مصباح يشبه التفاحة يتدلى من السقف.


وهناك خلف الباب يجلس شابُ وسيم يبدو عليه رغد العيش، كلما انتبه لصوت الحلي يفتح الباب ويناديها يا سفيرة النور فتجيب بل سفيرة الشاطئ  اسمي فيروز،  يجود عليها أحياناً بالفاكهة وكثيراً بالنظرات   تبادله فتذوب بينهما المشاعر وتملأ فضاء رحب لا تعوقه حواجز ولا يعترف بالمحاذير.


ذات ليلة أقبلت فيروز تترنح ربما أعياها المسير، وقبل أن تستقر في مكانها  تعثرت قدماها فسقطت ليتبعثر ما بقى من الحلي ويشج جبينها حين اصطدم بزاوية الصندوق، ويلطخ الدم وجهها.


عبثاً حاول باسل أن يقنعها بالدخول مؤكداً أن أمه بالداخل ولكنها رفضت بشدة واستنكار،  أمام هذا الموقف الملتزم خرجت الأم التي انتبهت لها لأول مرة وقد شاهدت ما حدث من النافذة، دعتها للدخول فدخلت، طببت جرحها بينما لملم باسل ما تبعثر ودخل ليضعه مكانه على الصندوق، راق للأم جمال الحلي الذوق الألوان المادة  فبدا لها أن الصانعة فنانة، سألت فيروز عن مصدر الشراء ففاجئتها أنها المُصمّمة، وخلال الحديث لاحظت الأم رقي الخطاب هي ليست كباقي البائعات، حيث تختار ألفاظها بعناية وتتحدث بلطف كما الهمس، هكذا أدركتها "منى هانم" فتاة مختلفة لافتة.


ودعتهم إلى طريقها ممتنة،  وعلى بعد خطوات تركها باسل بعد أن سجّل على جوالها البسيط رقمه.

وعند كل مساء كان ينتظر ظهورها وارتكانها على ذات الجدار الذي طالما دقق النظر فيه من قبل وتوهم أنه يبعث شعاعاً بارقاً حول طيفها فأسماها سفيرة النور.

ولما تكرر الغياب شعر بالقلق، انتظر كثيراً دون جدوى فاتصل بها لأول مرة، تعانق الصوتان وارتجف القلبان حتى الصمت، فقط كلمات مبعثرة ووعد بلقاءٍ قريب، أغلقت الخط وكتبت رسالتها الأولى  أملتها عليها خفقاتُ قلبٍ كان يئن من فرط الانتظار


هل ما زال في القلبِ متسعُ لإحساسٍ آخر؟ إحساس بطيفٍ، بنبضٍ، بروح

أو ربما بسطورٍ أدركتها فأحببتها وأخذتك نحو فيضٍ من النور أضاء متطوعاً راضياً ليلك الطويل؟

هل في الوجدانِ متسع لصوتٍ لا يخفت حتى الصمت إلا معك؟

وهل مازال في النفسِ متسع لأماني طال انتظارها 

واعتراف استأنسنا به وازدان له الربيع؟

لقد استنفدت من الفرص ما يكفي لكتابة ديوان ياسيدي، وأنا أتوق لسطورٍ حوتني معك، نفترشها بساطاً أخضر يحملنا معاً،

 ترفعه الريح وتعيده مسرعة إلى الماضي القريب ليتوقف عند لحظة كانت مدهشة، مبهرة، فارقة،

تتوقف عندها عقارب الزمن فلا تغادر أبداً.

لحظة أن كانت أمك تطببني وأنت تنظر إليّ، تلمس يداك ما لمسته يداي من قبل، نعم كانت هذه اللحظة بالنسبة لي مبهرة.


بضغطة زر قرأ الرسالة على صفحته فتيقن أنه بصدد حالة غرام لمبدعة لا لبائعة، مبدعة تفننت في رص الكلمات ك رص الحلي والدرر.

في المساء التالي ظهرت سفيرة النور متألقة رغم الوهن ومن ذات النافذة لمحتها " منى هانم" فدعتها للدخول، جلست فيروز جوارها وشعرت بقدر الفضول الذي ملأ عينيها فبدأت الحديث.


ولدت في الإسكندرية لأبوين عطوفين لم أدرك وطناً لسواهما، نزح أبي من الصعيد هروباً من الثأر وأمي وحيدة لم أعرف لها أهلاً، عمل أبي بالتجارة وعشنا حياة كريمة يحيطها الستر والدفء، عوضنا الله عن العائلة بالجيران الطيبين، جارتنا هناء أرملة لم يرزقها الله بالولد فكانت تغدق عليّ حباً شعرت معه أنها خالتي .


منذ عشرة أعوام وقد بلغت التاسعة، أمام منزلنا بعد أن عدنا من نزهتنا الأخيرة دهست سيارتنا عربة نقل ضخمة أودت بحياة أبي وأمي في مشهد دامٍ عصفَ بقلبي الصغير فزلزله، وكان للقدر كلمته الأخيرة في بقائي على قيد الحياة،  وعلى قيد الحب والرحمة احتضننتني جارتنا هناء التي دفنت والديّ في مقبرة عائلتها، كنا نبيت سوياً في بيتي أو بيتها، غمرتني برعايتها  أنفقت وجادت بكل ما تملك حتى طوقتني بدين لن أنساه، كبرت وتربيت معها وقبل ثلاث سنوات تفوقت في الثانوية العامة والتحقت بكلية الفنون الجميلة، أعشقُ الزخرفة والفنون اليدوية والكتابة أيضاً، وبدأت أفكر في العمل حتى أساعد خالتي هناء خاصةً وقد زادت حاجتي للمال، صنعت المشغولات اليدوية ورسمت بعض اللوحات وطرزت المفارش والوسادات، تربحت من منتجاتي بعرضها في الأماكن المعنية، وفي ذروة موسم الصيف أجوب شاطئ هذه القرية القريبة أبيع لهؤلاء الراقيات أتربح وأسعد وأبتسم.


قدرت منى كفاحها وعرضت عليها العمل في الأتيليه الذي تملكه في الإسكندرية حيث تخصص لها ركناً لعرض منتجاتها،  امتنت وقبلت وانصرفت.


وعند الشروق الجديد جلست على شاطئ البحر تودعه وكتبت لباسل رسالتها الثانية


الأماني كما هي لا تبرح مخيلتي، والأماكن تشعل الحنين،  نسيم الصباح يلاطفني كقطرات الندى على الياسمين، وصوت فيروز يحتضن أجمل ذكرياتي فتهفو الروح لمن شاركونا لحناً لها،  طائرُ فوقي يغرد  أتابعه بناظري حتى يغيب وقد حمّلته محبتي و سلامي.


 البحرُ أمامي يستجوبني، أحياناً برقة فيطيب خاطري،  وأحياناً بقسوة فأخشى جروح النهايات، أما رذاذه على ملمسي فقد اختلط بدموعٍ لا أعرف لمَ هي، 

كل ما أعرفه أني الآن أسعد

قرأ الرسالة وشعر بطفرة في حياته حملته هو الآخر نحو الأسعد.


انتظمت فيروز بالعمل و راق لها الحال كثيراً وكانت منى هانم تردد معها كثيراً " أشعر أن من روحك نفحة تلمسني" فتنفرج ابتسامتها ويزداد الحلم تأججاً.


ثم صارح باسل أمه برغبته العميقة في الزواج من فتاته، كتمت في نفسها دون أن تجيب، وهناك أمام المارة أطلقت لها زفير الغضب واتهمتها بنكران الجميل حين امتد طموحها لهذا الحد، أمرتها دون كلمة واحدة بمغادرة المكان دون رجعة، خرجت كسيرة النفس والخاطر  وركضت مرتبكة حتى اختفت  تماماً،  بعد قليل انتبهت السيدة منى أنها نست محفظتها وجوالها البسيط، فتحت المحفظة لتجد بها ما أطلق منها صرخات  مكتومة، صورة فوتوغرافية تجمع فيروز الطفلة مع أمها ليلى " شقيقة منى"  التي غادرت بيتهم منذ زمن حين رفض والدهم زواجها ممن أحبت وكاد يرغمها على الزواج من غيره، خرجت من البيت وتزوجت من أحبت، أخبرتهم بذلك واختفت مع زوجها، كانت بين الحين والآخر ترسل مع وسيط رسائل الرجاء لوالدها دون جدوى وكان قلب منى ينفطر وجعاً لهذا الغياب حتى اختفت ليلى تماماً وعلموا بوفاتها وزوجها في حادث ولم يتأكدوا إن كانت طفلتها لاقت حتفها أيضاً أم لا،  

بكت منى كما لم تبكي من قبل واتصلت بابنها أخبرته بما حدث وكيف أن سفيرة النور هي ابنة خالته  أمرته أن يبحث عنها في كل مكان( فهي لم ترصد عنوانها)  وألا يعود دونها،  أغلقت الخط وبقيت كثيراً قيد الانتظار.

تعليقات