نهى الرميسي تكتب: قراءة فى شعر الشاعر سلطان إبراهيم

  • سلطان إبراهيم
  • الجمعة 04 ديسمبر 2020, 00:24 صباحا
  • 877
نهى الرميسيس

نهى الرميسيس


من يطالع شعر سلطان المهدى يجد نفسه أمام شاعر فطرى ،مسكون بالشعر ،تملؤه القوافى والمعانى ،فتفيض شعرا ، وغزارة إنتاجه من أدل الشواهد على ذلك ،فالشاعر لديه أحد عشر ديوانا غير المجموعة القصصية ودواوين أخرى تحت الطبع.

ولكننى فضلت الوقوف على ديوان (مرافئ الأمل) تحديدا بسبب عنوانه المدهش من ناحية ،والمتفائل من عدة مناح ، فلو تأملنا عناوين القصائد في هذا الديوان سنجدها ملئى بالتعبيرات والمفردات المبهجة مثلا :

فيض الأغاريد ،مرافئ الأمل ،عاندت أحزانا ،ملهاة ،سنابل العشق ،عروس الشعر،عيون الفؤاد ،جددت عهدى ،لقاؤك أحيا ،شواطئ الأحلام ، لن أبيع الحلم ، معنى الحياة ،جنة الأحلام ،ضميه لروضك ، جنة الحب  ،وهكذا .

في حين لو رجعنا للدواوين الأولى للشاعر سنجدها تحمل عناوين مغايرة وبعيدة عن التفاؤل ،على الرغم من أنه كان عند إصدارها أصغر سنا ومازال العمر يحبو.مثلا نجد :

صدى الأنين ، ضفاف الألم ، عنترة والوجع الممتد، أودية المستحيل ، الحلم والعاصفة ،مسافات الجوى ، فنلاحظ في تلك العناوين مفردات: الأنين والجوى والألم والمستحيل والعاصفة والوجع

إلا أن هذا شأن الشعراء والأدباء دائما ،يبدأون رحلتهم مع الإبداع من وهدة نفوسهم الحائرة المعذبة التى غالبا ما تكون أشف وأنقى فى مواجهة فنون الحياة على بساطة أولياتها  ،إلا أن نفس الشاعر الشفيفة المرهفة يكون لديها منظور خاص للأشياء بعيدا عن منطق الأشخاص العاديين ،فهو قد يرى الحزن فيما يسعد غيره وقد يرى السعادة فيما لا يكترث له غيره ،وقد يرى النجاح والفشل على نحو مختلف تماما عما يراه الآخرون ،هكذا دأب الأدباء والشعراء ،ويظل الحال هكذا حتى يكتشف الأديب نفسه مع إرهاصات الكتابة والإبداع ، فيبدأ فى اكتشاف الطريق ودهاليزها التى كانت ملغزة عليه من قبل ،ويبدأ فى التثبت من حيرته التى من الممكن أن تهدأ فى "مرافئ الأمل" .

صادفتنى القصيدة الأولى فى ديوان مرافئ الأمل تحت عنوان "فيض الأغاريد" لتثبت أن الفن يولد من رحم المعاناة وأن الأفراح لاتنتج إبداعا مدهشا أحيانا وإنما اضطر الشاعر فيها إلى اللجوء لمعانى ومفردات تقليدية مثل : روض الأناشيد ،والازدهار والعطر والشذى فى صور بسيطة غير مركبة ،وسنرى ذلك فى مواضع أخرى من الديوان مثلا :فى قصيدة "عاندت أحزانا" يقول :

أُرسي سفينى فى ضفافك بعد خوض فى البحور

فيجئ حبك بلسما يشفى جراحات الصدور

يروى بساتين الفؤاد فتزدهى فيها الزهور

فالتشبيهات هنا تتميز بالبساطة والمباشرة الى حد كبير فالحب بلسم يشفى جراحات الصدور والحب يروى بستان القلب فيزهر وهكذا 

ومن جهتى أرى الفكرة الشائعة لدى النقاد بأن الحداثة فى الشعر تميل إلى الإلغاز وعدم وضوح المعانى إمعانا فى الابتكار والتجديد ،أرى هذه الفكرة يصعب اجتماعُها مع الأنماط الشعرية التقليدية وهو ما أقره الشاعر زهيربن أبي سلمى منذ قرون عديدة حين قال :

ما أرانا نقول إلا معارا أو معادا من لفظنا مكرورا

هذا الأمر بالطبع يخلق ندرة فى الصور البلاغية والإتيان بالجديد ينطوى على إعجاز أسلوبى نصفق له ،ولذلك عندما يقول شاعرنا سلطان إبراهيم عن القصيدة :

نادت على مهجة لبت جوانحها

فى الحال مسرعة فى طهر مولود

أو عندما يقول فى قصيدة "مخالب الوقت":

وتأسست دولُ الحنين بعشقهم

فتسلطنوا فيها وجل جنابُ

هنا  تجديد موجب للتصفيق والإعجاب

أو عندما يقول فى قصيدة "مرافئ الأمل":

والصبح يقتنص السوانح يرقب الأمل الطليق.

لنرصد هنا كم هو تعبير موح وجديد

أو حينما يبدع الشاعر ويعبر عن عاطفة صادقة وانفعال حقيقي بعيدا عن النظم فى قصيدة "تقول الرواية " وقصيدة "الحلم الممدد" فيقول :

والقرية الخرساء تمضغ جبنها وقت العشاء

وصدى المواويل الحزينة خلف أودية الرجاء

نرى كيف خلق الشاعر صورة مركبة مؤثرة فى النفس ،وموحية رغم وضوحها ،بل إن وضوحها زاد من تجسيدها للمشهد الذى أراد الشاعر أن يرصده أو يرسمه بالكلمات.

ثم يدهشنا أيضا إبداع الشاعر فى نفس القصيدة حين يقول :

غادرتهم متسربلا بالصبر ألتمس الشفاء

وحدى استقمت على الطريقة واصلا حاءً بباء.

 هنا فى الحقيقة معنى عميق وتركيب لفظي جديد ،فهو تجديد مستصحب لمرجعية دينية .

فترى الشاعر كيف ينتهى بعذابات القصيدة إلى نتيجة وطريقة مثلى ويتضح هذا فى تعبير (استقمت على الطريقة ) الذى استوحى مادته ومفرداته من الآية الكريمة 16من سورة الجن (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا )

فنجد الفعل (غادرتهم ) يؤكد على ماسبق من إرهاصات تسببت فى عزلته فتكون النتيجة  :(وحدى)وحده تفرد بالاستقامه بعد أن اعتزلهم بأفعالهم ليفاجئنا بقِوام هذا الحل المثالى والطريق الراشد وهو طريق الاستقامه فقِوامه الحاء والباء الحب.

ويمكننا أيضا استقراء البعد الدينى فى معنى الاعتزال الذى فعله النبى إبراهيم عليه السلام وكافأه ربه عليه .

ثم نجد لونا آخر من ألوان التجديد الذى يبتعد عن مفهوم النظم وإنما هو أقرب للشعر الغنائى،والتجديد هذه المرة فى الفكرة الإجمالية للقصيدة ،حيث إنها فكرة متجددة مع كل هوى يقع فيه الإنسان

حيث يقول الشاعر فى قصيدة "ماذا غيرك" :

القصيدة ص12 من الديوان

ثم يعرج بنا الشاعر أيضا إلى لون المعارضات فى قصيدة "النبض يحار" وهى معارضة موفقة

ولون آخر من التجديد فى قصيدة "ملهاة"التى نلمس فيها لون القصة الشعرية القصيرة يقول مطلعها :

قلبي يسافر تدعوه المسافات

الصبح أنً فهل تحلو المساءات.

 

قصيدة أخرى بعنوان "ليل المدينة" عبر فيها الشاعر ببساطة موحية ومؤثرة لاتملك لإحساسك إلا أن ينفعل بها ومعها حين يقول فى قافية تحاول الانفتاح وروى يسكتها بالهاء الساكنة ،هذا الانفجار الهوائى الساكن فى حرف الهاء، حيث يقول فيها :

ص91 من الديوان(تقرأ)

وهناك قصيدة أخرى تحت عنوان "لن أبيع الحلم" تجمع إباء الشاعر وكبرياءه  واجتناب مايرفضه من زيف وضلال فى سلة العزلة بجوار الاستقامة على الطريقة الذى يرفعه ليرتقى قمم الجبال ويحلق فى سماوات الرفعة والنضال

ص 101 من الديوان

وفى العموم نجد شاعرنا يتألق حين ينفعل بالحدث ويبتعد عن النظم التقليدى وحين يطلق العنان لمارد الشعر الذى يسكنه ،وكما ضربنا عدة أمثلة على ذلك من ديوان (مرافئ الأمل) فإن الأمثلة كثيرة فى دواوينه السابقة مثلا فى ديوان (مسافات الجوى) وقد تسنى لى مطالعته أمثلة كثيرة على هذا مثلا قصيدة "أين الطريق"

ص64 من الديوان( تقرأ)

 

وفى المجمل أيضا فإن من يقرأ للشاعر سلطان المهدى يتضح له جليا من أول وهلة ثراء معجمه اللفظى الكلاسيكى فتصادف لديه كثيرا كلمات مثل :

البيد ،المطايا ،الخيل ،صروف الزمان ....وهكذا

بل هناك جملا كاملة وتعبيرات من هذا النوع الكلاسيكى مثلا:

البين أجج بالسعير حشاشتى

ولم يُظلَ سحابُ

أناجى طيفكم

وأحيانا نجد ألفاظا معجمية مثل :

فدافد ، والمدنف ،الأليق ،الولوع ،وهكذا

وعن نفسي لست ضد الألفاظ المعجمية وبخاصة فى الشعر ،لأنى أومن بأن الشعر كان ومازال ديوان العرب ومكمن حرفهم ولغتهم فضلا عن سيرهم ،بالإضافة إلى إيمانى برسالة الآداب والفنون عامة والشعر من بينها ،ولعل من أهم تلك الرسالات إحياء اللغة ....وهل من وسيلة لإحياء اللغة أفضل من صوغها شعرا يتغنى به المثقفون وياحبذا عوام الناس ،وهو أمر غير مستغرب وقد فعلته أم كلثوم عندما قربت الشعر إلى عوام الناس حين غنت قصائد فصحى لكبار الشعراء تحمل مفردات بتنا نسميها معجمية ،وقد قالت : سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها واستخبروا الراح هل مست ثناياها ،ونهج البردة ،والأطلال وغيرها .

كانت هذه إطلالة سريعة فى شعر سلطان المهدى الشاعر الكبير لم نوفه حقه فيها من الدرس والتعليق ،لأن شعره من حيث الكم أو الكيف يستحق وقفات وإطلالات ،ونتمنى له أن لايترك شعره فى مرافئ الأمل وإنما يبلغ به الآمال العظام إن شاء الله .

 

تعليقات