نهال القويسني تكتب: حول رواية "سبيل الغارق" لـ ريم بسيوني

  • أحمد عبد الله
  • الأربعاء 02 ديسمبر 2020, 00:43 صباحا
  • 1206

سبيل الغارق للأديبة ريم بسيوني

أعتقد ان كل من تابع الإنتاج الأدبي للكاتبة المتميزة ريم بسيوني سوف يدرك اهتمامها الواضح بتفاصيل الوجدان المصري، بمعني آخر الهوية المصرية، والعناصر التي تشكلت منها، والروافد التي صبت فيها وتفاعلت من خلالها مع الحياة والاحداث عبر العصور، نتج عنها هذا الخليط الثقافي والقيمي المتنيز، الذي صاغ ملامح تلك الهوية. واظن ان وجود الكاتبة خارج مصر لفترات طويلة بغرض الدراسة ثم العمل كان حافزا لها علي التأمل المتعمق في الاختلافات الثقافية بين الشعوب، وانعكاسات ذلك علي منظومة القيم الحاكمة للوجدان القومي، والتركيبة العقلية والمعايير الأخلاقية والعقائدية وربما الأسطورية التي تشكل الوعي الإنساني لدي الأمم المختلفة، وتتحكم بالتالي في سلوكيات البشر وتصيغ تعاملاتهم داخل إطار المجتمع الواحد، بل وتتجاوزه الي تعاملات المجتمعات مع بعضها البعض. وقد كنت أشعر بالأشفاق علي الكاتبة بعد إصدارها لروايتها "ثلاثية المماليك..اولاد الناس"، والنجاح الكبير الذي حققته بين القراء والمتهمين بالأدب..نجاحا ورواجا ملحوظين، فقد تجاوزت طبعات الكتاب الثمانية. لكن الوصول للنجاح والتميز يجعل المسألة أكثر تعقيدا، لأن الكاتب عليه ان يحافظ علي ما حققه، بل ويتجاوزه الي آفاق أكثر رحابة فيقدم لقرائه الجديد والمختلف.

من هنا كان التحدي الكبير لإصدارها الجديد "سبيل الغارق"، لكنها، في تقديري، قد تمكنت من تجاوز تلك العقبة، وكانت عند حسن ظن قارئها، فثبتت أقدامها فكريا وادبيا وفنيا وقدمت وجبة ادبية وفكرية دسمة مشبعة وعميقة لمتابعيها.

مرة أخري المنظور تاريخي، وإن اختلفت الحقبة، مرحلة هامة ومثيرة للجدل، وعلامة فارقة في بزوغ نجم الوطنية المصرية، واحساس المصريين بوطنهم وانتماءهم وهويتهم وحقوقهم، بما فيها الدستور والحقوق المدنية الآخري، وما يندرج تحتها من تفاصيل. جدل واسع بين فئات الشعب المختلفة حول تقييم الحركة العرابية وشخصية باعثها " احمد عرابي". تتضارب الرؤي والمصالح و تتلاحق الأحداث، والشخصيات المختلفة بفكرها ومشاربها ومرجعيتها ومفاهيمها.

وتتناول الكاتبة من خلال الأحداث بدايات الحركة الوطنية المصرية مع الثورة العرابية، والأطماع الاقليمية وتاريخ الصراع حولها.

ومن الواضح أن هناك جهدا بحثيا متميزا وراء رصد هذه المعلومات وتحقيقها. وفي اطار التحولات التي واكبت تلك المرحلة تحديات تعليم البنات، وكيف كان المجتمع ينظر لهذه المسألة، ومدي معاناة الرواد الأوائل في هذا المجال. مع تسليط الضوء علي معاناة اكتساب المعرفة واحساس المسؤولية الذي يتولد داخل نفس وعقل كل من أدرك وتعلم. وعلي محور موازي، تناولت الرواية زاوية الأساطير والحكايات الشعبية واختلاطها بالعقيدة في الوجدان الشعبي، بما يضفي عليها طابع القداسة. وهو محور يستحق أن تفرد لها دراسة مستقلة لأهميته الكبيرة في تشكيل وجدان العامة. ولا يفوتني في هذا المقام ان اسجل إعجابي بذكاء الكاتبة وحساسيتها الواعية في التقاط هذه الزاوية وتناولها بصورة انسيابية جدا من خلال أحداث الرواية.

وزاوية ثالثة، قد تكون صعبة وعصية بعض الشيئ علي القارئ العادي، الذي يسعي الي متعة المطالعة الأدبية في أبسط صورها. تلك التي تطرح حكاية وشخوص وأحداث وتصاعد درامي يعكس قدرة الكاتب علي السرد والحكي بأدواته اللغوية وموهبته الإبداعية. لكن الأمر يتجاوز هذا الإطار في هذه الرواية، فالجانب الصوفي والفلسفي العميق جدا في حوارات الشخصيات عند سبيل الغارق مع الشيخ الزمزمي المنقطع هناك للتأمل والتعبد، يحمل الكثير من المعاني العميقة، والعبارات التي تستحق التأمل والتوقف أمامها لسبر أغوارها والوصول إلي معانيها. الشاطر حسن هو الأسطورة في الوجدان الشعبي، واسقاطاتها علي واقع الحياة وتعاملات البشر، ومعني الوجود الانساني والتحدي والنصر والهزيمة، والتفسيرات غير النمطية للقيم السائدة في تعاملات البشر. "الطريق الذي لا يسلكه احد" او بالانجليزية The road less traveled

تنبئنا ان الفكرة هنا قد تجاوزت الهوية المحلية بمفهومها التقليدي، إلي آفاق إنسانية وفلسفية أكثر رحابة. مما يجعل هذه الرواية عملا غير تقليديا، من الصعب تقييمه أو التعقيب عليه بقراءة سطحية بسيطة طلبا لمتعة المطالعة الأدبية فحسب، انما هو يشدك إلي التأمل والغوص في التفسيرات العميقة للمعني الحقيقي للحياة، بل ويتجاوزها إلي تحديات الإرادة الإنسانية، ولا أبالغ اذا قلت قد تتجاوزها إلي الوجود الانساني ذاته. الذين يصنعون الأحداث ويحدثون التغيير، هم اؤلئك الذين لا يسلكون الطرق التقليدية الآمنة. انهم بجسارتهم ويقينهم يصارعون المستحيل. وتلك هي الرسالة، الإرادة الإنسانية التي تنبع من يقين لا يتزعزع بعدالة المطلب ونبل الهدف لا يمكن هزيمتها. انها طاقة جبارة لانهائية، لا يمكن توقعها ولا التنبؤ بما سوف تأتي به من نتائج. هي طاقة ديناميكية مطلقة، باعث ومحرك للحياة والتغيير وقهر المستحيل.

هناك الكثير والكثير الذي لا بد من تناوله بالتحليل العميق والدراسة المتأنية، فهي حقا وجبة دسمة تفوق قدرات اي قارئ علي استيعابها وتحليل كل تفاصيلها دفعة واحدة. ولا بد أن أسجل إعجابي بالزوايا التاريخية التي اختارتها د.ريم لروايتيها الاخيرتين، والتي استطاعت من خلالهما تناول أحداث هامة، أثرت علي الوجدان الثقافي والقيمي المصري بصورة واضحة، من زاوية إنسانية جديرة بالتقدير. فقد تمكنت من استخدام موهبتها الواضحة، وقدرتها علي تحليل خبايا ونوازع النفس البشرية في صورها المختلفة، في اطار تاريخي اعتقد انه كان تحديا لقدرتها الابداعية، تمكنت من الإبحار فيه بكل اقتدار، وتجاوزته بنجاح كبير.

رواية "سبيل الغارق" وجبة أدبية متميزة، ومتعة عقلية مؤكدة، تبرز لنا الوجه المشرق للإبداع الأدبي والفكري للكاتبة ريم بسيوني.

تعليقات