هبة آلسهيت تكتب: مقاربة لمجموعة قصصية "جبال الكحل" لـ كاميليا عبد الفتاح

  • أحمد عبد الله
  • الإثنين 30 نوفمبر 2020, 8:35 مساءً
  • 1361

مقاربة لمجموعة قصصية

جبال  الكحل

للدكتورة كاميليا عبدالفتاح

تتكون المجموعة القصصية من 15 قصة قصيرة

 

 ويشي العنوان "جبال الكحل " أننا بصدد سردية تتكلم عن النساء وشئونهن . وهل أريد من العنوان ،  الدلالة عن ما يحمله الكحل من جمال وتجميل ؟ أم يحمل دلالة السواد ؟ فيكون العنوان جبال الأحزان  ، جبال القهر ؟

أحسب أن الدلالة الثانية هي الأقرب لمحتوى السردية وتفاصيلها .

وتكون من باب دلالة الالتزام كما يقول المناطقة :( ودلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على أمر خارج عن معناه، لازم له ذِهْنا، كدلالة الأسد على الشجاعة. أو دلالة السلحفاه عن البطء)

 

الخط الجامع للقصص يدور حول  مظلومية المرأة في مواجهة مجتمع ذكوري بتنويعات مختلفة .

 

الإهداء : إلي أبنائي ، أحبتي :أنتم السر في الحكاية "

وهو إهداء يشير إلى أن هناك رسائل ودروس ومفاهيم وثقافة  ، تبثها لأحبتها من الأبناء ، والأبناء تحمل معنى البنوة الرحمية ، وتعني البنوة الروحية من التلاميذ والمتابعين .

 

- تبدأ المجموعة بقصة "غنايم":

وفحوى القصة : فتاة في قرية من قرى الصعيد قبيحة ، وقبحها لا يؤهلها للزواج ، في مجتمع مغلق تعتبر العانس فيه عار ، ويغازلها  أحد مطاريد الجبل إسمه العايق ، فيكون الرجل الأول والوحيد الذي ينتبه لها ، فتتسلل له صاعدة جبل المطاريد ، رغم رقابة أخيها لها ، ولا يقف شيئ أمام رغبتها ، إلى أن تعرف أن العايق لا يراها جميلة ولا تمثل له شيئا. فتتوقف عن الصعود وتظل تئن جريحة .

 

تناولت الكاتبة هذه القصة بتقنيات عالية ودلالات غاية في التكثيف بحيث لا يخلو سطر من دلالة أو إسقاط . فخاطبت عقل القارئ  بظاهر المعاني وخاطبت وجدانه بالإشارات والإسقاطات . ولنتابع هذه التقنيات بشكل تفصيلي :

تبدأ السردية بفعل مضارع (تتسلل ) وهو يفيد دوام التسلل وتتجدده ، ثم تذكر لنا السبب ، ويأتي السبب بشكل غير مباشر وهو أوقع وأدعى لانتباه القارئ ومتعته الذهنية ، فتقوم بعملية تقديم وتأخير ، فتقدم وصفا فيه تهويل :

حيث تقول : " إذ كان أخوها "سليم" هو الوحيد في الصعيد كله الذي لا يهنأ بنوم القيلولة - أو الليل - قلقا عليها ، وارتيابا منها . "

 

هنا بالضرورة يطرأ استفسارا لدى القارئ وانتظارا لسبب هذا الأمر فتسارع السردية بالسبب ، "قلقا عليها وارتيابا منها "

 هل كانت الإجابة وافية كافية؟ أم أنها طرحت استفسارا اخر ؟؟ قلقا عليها مما؟؟ وارتيابا منها لماذا؟؟

 إن هذا الأسلوب في الكتابة يجعل القارئ يشارك في كل لحظة في التساؤلات ، وينتظر الإجابات ، فالقارئ يشارك بوجدانه وعقله النص بشوق وانتظار .

 

لكنه  أي الأخ بالضرورة سينام ، ويتأتي صورة نومه : "يدهمه بغفوة إجبارية تسقط فيه  رأسه بين كتفيه " هنا تستخدم السردية الصورة بدلا من مجرد التعبير اللفظي ، حيث يرى القارئ الحدث كمشهد ،ثم تضيف للصورة "كأنه قد تلقى طعنة مفاجئة " هنا يتجسد المشهد بشكل كامل.

 

- ثم تنتقل السردية إلى(غنايم ) فبمجرد نوم أخيها (تنشط غنايم) وهنا أيضا استخدام الفعل المضارع للتجدد الدائم ، ثم "تنشط" تشير إلى أنها كانت كامنة تنتظر نوم حارسها ، ثم تصف حركتها ، وبدلا من أن تقول تمضي خلسة أو متسللة ، تصور  لنا هذا المعنى : فالصورة دائما أقوي من التعبير المباشر كما أسلفنا ، فهي " تتلوى بين الأزقة والحارات الضيقة كدودة جائعة "   ، فهي تختار الأزقة المظلمة والحارات الضيقة وتتحرك مسرعة كدودة ، والتشبيه بالدودة هنا له دلالة على المهانة والحقارة والنشاط والسرعه لإنها جائعه، ثم هي تتطلع بعينين مبتهلتين ، أي تبديان الذل والضراعة ، إلى شعلة "العايق" وكأنها تتعبد لها .

 

ثم تصف السردية لنا طريق الصعود ومشقته ومخاطره حيث الحيات التي لا ترحم ، وحرصها ألا تسقط حتى لا يتمزق ثوبها فينكشف فخذاها أمام سليم وأهل الحارة . 

وهنا مفارقة ، فهي ستنكشف كاملا للعايق باذلة له نفسها ، وهو ما لا تستحي منه ، لكن مجرد انكشاف فخذها لأهل الحارة سيعد فضيحة .

المفارقة في الانكشاف هنا  ، والاستحياء هناك  ، إنها لا ترى في انكشافها الكلي للعايق غضاضة ، ولكن انكشاف فخذيها لأخيها وأهل القرية فضيحة.

 وتستمر السردية مستخدمة التصوير بدلا من التعبير مثرية للنص .

 

- يبحث عنها سليم فلا يجدها ثم تأتي من الجبل شاردة فيشدها ويدخلها البيت حيث يعلو صراخها وزئيره و ينهال عليها ضربا .

 هذه أحداث متكررة ، لا غنايم تمتنع عن صعود الجبل ولا سليم يتوقف عن مراقبتها وضربها .

ماذا عن سليم :

 تقص لنا السردية في إسقاط له دلالاته  : علاقة سليم بالثعبان الباصق وهو نوع من ثعابين الكوبرا الموجود في مصر وسمي بالباصق لأنه يبخ السم في من أمامه وكأنه يبصق ، ومواجهة سليم له في مشهد يفترس فيه الثعبان الباصق فروج لا حول له ولا قو ة، يجمع الوصف  بين الافتراس الشرس ( للثعبان والفروج )الذي يختلط في وصفه بالجنس بمشهد رائع لعلاقه حميمه كما تكون بين رجل وإمرأه  بأسلوب غايه في الرقي ودون لفظا واحدا خادشا للحياء ، بحيث نفهم علاقة الثعبان بالفروج (وكأنها علاقة العايق بغنايم في نظر  سليم ).

 ثم تنتقل القصة إلى المرة الأخيرة التي غابت فيها غنايم ، ووقف الأخ والخال في شمس الظهيرة الفاضحة القاتلة الخانقة ، أي الفضيحة الواضحة ، وكل العيون تترقب الحدث ، وتحكي لنا السردية بعض تصرفات الجيران ك "نحمدو" التي ترجو زوجها أن ينزل ليمنع سليم من قتل اخته ، والحقيقة أنها تكره زوجها وتريد أن تبعده عنها ، وهنا إشارة إلى أن أهل القرية الذين يحكمون على "غنايم" لا يحق لهم الحكم فهم أنفسهم لديهم من الخلل والسلبيات ما لا يجعلهم أفضل من غنايم .

بل نحمدو تفضل أن تنام في حضن الباصق ( العايق) ، على النوم في فراش زوجها .

 

- إلى هنا وكادت الحكاية أن تنتهي لا نعرف ما حكاية "غنايم " وما سبب تصرفاتها ؟؟ الأسئلة تتكاثر ، والعقول تحاول استنباط الأسباب دون جدوى ، هنا تأتي لنا الإجابات على لسان عم ضاحي ، وعم فضالى والتي خلاصتها  ودلالة القصة :  أن "غنايم" تلك الفتاة القبيحة المظهر والتي لا أمل لها في رجل ، حيث لا يرى الرجال غير المظهر الخارجي القبيح ، فوجئت بالعايق الوسيم  يغازلها ، في فرح أخيها سليم ، إنه قد رأى داخلها ؛رأى الأنثى المتوارية خلف الشكل القبيح ، الوحيد الذي رأى حقيقتها ، لقد عبر لها عن رغبته فيها كأنثى ، فهبت ترقص كمن مسها الجن ، تدق الدف المصنوع من جلد الحملان ، بينما تدق الجموع الطبول التي شد عليها جلد ذئب من ذئاب الجبل ، هنا ثنائية الحمل/الذئب ، ثنائية غنايم/العايق، ثنائية البراءة / والمكر والخداع ، ثنائية الخير /الشر ، كلها تجمعت في هذه الصورة الواصفة للدف في يد غنايم ، والطبول في يد غيرها .

 إن غنايم ألقت بنفسها في أحضان الرجل الذي رأها على حقيقتها كأنثى ،الذي عبر لها عن رغبته فيها ، إنه الوحيد الذي يستحق أن تبذل له نفسها ، وتضرب عرض الحائط بكل قوانين وأعراف مجتمعها الظالم الذي لم ير منها غير صورتها القبيحة ، هذا المجتمع الأكثر قبحا في باطنه وإن تجمل ظاهره، إنها على استعداد لمواجهة ضرب أخيها كل مرة ، واحتمال قتلها في أي لحظة ، من أجل رجل رأى الأنثى الثاوية داخل ظاهرها القبيح .

 هذا المجتمع المنافق الذي تمثله "نحمدو" ثم يمثله عم فضالى الذي يصعد الجبل ليس لشجاعته بل لعشقه للغازية "محاسن" والتي ترقص هناك كل ليلة ، وتعشق العايق ، الذي زهدها بعد أن نال منها ما يريد ،لكنه يبقيها في قبضته ، وتصف العلاقة بين محاسن والعايق ، فنلمح فيها حكاية الباصق وهو يفترس الفروجه .

- ثم نلمح قبح القرية ونفاق أهلها في عبارة "كما قال نسوة  وهن ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه" ، فنساء القرية يتسمن بالقسوة البالغة في الحكم على الضعفاء من النساء .

 

- "سحبها وهو يركلها في كل مكان ، تطاير تراب الجبل من ثوبها وحط على جدران كل البيوت "

 هنا يشير النص إلى أن عار "غنايم " تتقاسمه كل بيوت القرية " ، بنفاقهم، بقبح باطنهم والتظاهر بجماله، بفساد سرائرهم والتظاهر بصحتها ، إنها قرية ينخرها السوس ، ولا تملك لنفسها ولا أهلها شيئا . الكثيرات  من نساء القرية المتزوجات  يتمنين مواصلة العايق والخلاص من أزواجهن ، لكنهن يحكمن بالإثم على " غنايم "، هل هن يحاكمنها أم يغرن منها لأنها فعلت ما يتمنينه ،ولا يملكون الشجاعة لتنفيذه ؟

- أما الرجال فهم كما تقول السارده " الرجال الذين بدوا كأن بيوتهم لم تعد تحتملهم ، فقذفت بهم في وجه "غنايم")

ونقول : يعني الرجال الذي يشعرون بحال نسائهم ويخافون أن تفتح غنايم الباب لهن بنفس الفعل ، فخرجوا خوفا على نسائهم الكارهات لهم ، لينتقموا من غنايم .

 

أما غنايم فحبسها سليم في البيت ربطها - كالكلب- بسلسلة جنب هباب الفرن الذي لطخ به وجهها فامتلأت به كفاه"

 عجبا أراد ان يلطخ وجهها بالهباب ، فلطخ يديه ، فنقول : إنه يأخذ نصيبه من المسؤلية والعار .

 

- هرب العايق بعد أن فضح غنايم ، هذا مفهوم لكن السردية تقول :"بعد أن فضح غنايم وناسها ..حين بصق في الأرض"؟

لماذا فضح ناسها ؟؟ هنا تظهر الدلالة علي قبح القريه ، فالكثيرات  كن يفعلن في الخفاء ما كانت تفعله "غنايم"

وجملة  "بعد أن بصق في الأرض" هي تأكيد على أن (العايق)  المعادل الموضوعي للثعبان الباصق.

 فيقول "جاءتني برجليها ..لازمتني كالكلب ..تشتري لي عرق البلح والبيرة ..تشرب معاي لغاية ما تعمى وتنسى خوفها من سليم ،..وأنسي خلقتها الشينة وشعرها اللي هايفضل طول عمره في عيني أكرت ..أنا اتصدقت عليها باللي حصل بيني وبينها ..تحمد ربنا إنها شمت عرق راجل "

 

لم تذرف غنايم دمعة  من كل الضرب والإهانة التي لحقتها من أخيها أو من سخرية ونظرات الناس لها ، لكنها ذُبحت عندما وصلها كلام العايق ، لقد بذلت نفسها لرجل كاذب مخادع لم يرى جمالها ؛بل استخدمها ليشبع نزوته ،إنه يراها دميمة كما يراها الجميع ، إنه لم ير كما توهمت  الأنثى داخلها .. لقد بذلت كل شيء لمن لا يستحق ، وتحملت كل المهانة من أجل كاذب مخادع ، لقد افترسها الباصق وفرفرت كالفروجة الذبيحة .. لم تتوقف عن العويل ،..وحين تحول صوتها إلى ما يشبه نباح الكلاب فك سليم السلسلة ، لكن غنايم لم تبرح مكانها ولم تكف عن النباح " .

 لقد ماتت غنايم ، ماتت كإنسانه ، خبت الروح ، وضاع كل شيء ، وأهم ما ضاع الأمل الوحيد في أن يرى أحد أنوثتها داخل هيكلها ، أن يرى أحد جمالها وراء  ظاهرها القبيح .

 

ونقول :

- التقنية السردية عاليه ، بما اشتملت عليها من إسقاطات ، ومفارقات وثنائيات .

- استخدام الصور بدلا من الوصف المباشر مَكَّن َالمعنى من إصابة العقول والقلوب .

- كان  التعبير بالأفعال عن المشاعر هي السمة الأوضح بحيث جعل القارئ يشعر بالشعور الذي ينتاب الشخصية  

- التقديم والتأخير في البنية القصصية كان متميزا بحيث حافظ على حضور وتوقد ذهن القارئ، والتشويق  .

- كل وصف كان له وظيفه في السردية فلم يصب البنية  ترهل .

- قلّت أدوات العطف بشكل كبير بحيث كانت  كل جملة وكأنها جملة استئنافية ، فحافظ السرد على يقظة وانتباه القارئ .

 - تعددت اللغات فكانت الفصحى الصحيحة هي الغالبة مع استخدام العامية في بعض الحوارات وبحسب الشخصيات

 - تم توظيف الراوي بشكل ناعم ، فلم يكن له سطوة على الشخصيات ولم ينطق بدلا عنها ولم يتدخل إلا فيما ندر ، فساعد على الاسترسال دون انقطاع .فكان ساردا غائبا

- شخصية غنايم كانت الشخصية الديناميكية المتطورة في القصة وما عداها كانت شخصيات ساكنه

- لعبت الشخصيات الثانوية دورا مهما في توضيح القصة ، وتوجيه الحبكة والأحداث ، وألقت ضوءا كاشفا على الشخصية الرئيسية .

- وُظِّف َ الاسترجاع  لملأ فراغ ظروف تَعرُّف غنايم على العايق .

 - استخدمت الصور البلاغية من تشبيه إلى استعارة بكفاءة عالية لتجسد المشاهد وتكثف الإسقاط .

-

 

بقيت بعض الملاحظات على المحتوى :

- القصة صورة حزينة لنفسية فتاة في مجتمع مغلق ، فاقدة للأمل .

 -هل كانت غنايم مصيبة أم مخطئة، الرسالة غائمة  

-هل يبرر فساد القرية تفلت غنايم وبيعها نفسها

- هل ليس للمرأة كينونه سوى رؤية الرجال لها وتقديرهم إياها ؟

- لم تتعرض القصة للصراع داخل  نفس غنايم ، حتى تبرر أفعالها بشكل مقنع بحيث يتفاعل معها أو ضدها القارئ ، فكادت أن تكون مريضة عقليا في نظر القارئ .

- ويغيب المنطق بقبول العايق الفتيّ الوسيم للعلاقة مع غنايم الدميمة دمامة  ينفر  الكل منها ، مع أن طوع بنانه محاسن الراقصة التي بالقطع أجمل من غنايم ، بل وهو الفاجر الوسيم الذي تطمح اليه كثيرات من نساء القرية .

- إنفاق غنايم على العايق وإحضارها له عرق البلح و البيرة ، كانت تحتاج إلى إضاءة لظروفها المالية ، وربما كانت الراقصة محاسن قادرة على ذلك وليس غنائم  .

-عموما كانت علاقة العايق بغنايم ، تحتاج إلى تبرير منطقي مقنع من جهة العايق .

 

 

وفي النهاية : القصة تدل على اقتدار فني وموهبة كبيرة ، وتصلح أن تكون نموذجا يُدرَّس لصياغة القصة القصيرة .

 

 

أما قصة شجرة الدوم

 فهي نموذج يُحتذى للقصة التي استخدمت فيها انواع متعددة من التشبيه والاستعارات  ، وجاء استخدامها بحيث    ، لا يرهق القارئ ، و يسمح للقارئ أن يفهم دون أن يتوقف عند كل عبارة . فيعيقه عن الاسترسال ، ويقطع عليه متعة القراءة والحكي .

 

المتعة في هذه القصة ليس في محتواها ، فالمحتوى بسيط : فهي قصة امرأة مات زوجها ، وتزوجت بعده ثلاثة رجال ، طلقها كل منهم بحجة تخالف حجة صاحبه ،وكان عيبها في نظر كل واحد منهم عكس الاخر ،  فالأول قال أن شبح زوجها الأول بينهما ، والثاني قال أنها تفتعل أنها بكر بلا تجارب وهذه المحاولة تزيف مشاعرها وتقضي على صدقها ، والثالث يعيب عليها خبرتها التي لا تترك له مجالا لإبهارها . وتنتهي القصة بغلق باب الزواج .

 لكن المتعة الحقيقية في التعبير الأدبي عن هذا المحتوى .

 ودعونا نتعرف على هذه الأساليب 

 

تبدأ القصة

 بالمماهاة بين الشخصية الرئيسية التي لا إسم لها فهي تعبر عن قطاع من النساء وليس عن امرأة بذاتها ، إنها تعبر عن حالة ،والمماهاة بينها  وبين شجرة الدوم ، ولماذا شجر الدوم على وجه الخصوص ذلك ان تلك الشجرة  المُعمّرة لآلاف السنين والمعروفة منذ القدم، وهى تتحمل درجات الحرارة المرتفعة، فهي نخيل صحراوي ،و يتحمل قلة المياه لأن جذوره تمتد في أعماق الأرض لأكثر من 1000 متر وذلك بحثًا عن المياه الجوفية .وما يوجد في مصر يسمي نخيل الدوم ولذا نجد القصة تتكلم عن السعف.

إختيار تلك الشجرة وتماهيا مع المرأة  شكلا وموضوعا ، يغني عن الكثير من الوصف .

- ثم تحكي السردية عن بيتها الذي بناه زوجها الراحل على هيئة قلعة ، وبنى السقوف والأبواب وغرس الأشجار ، لكن الموت عاجله قبل أن يشيد السياج .

وهنا إشارة إلى إمكانية اقتحام القلعة ، فهي قلعة بلا سور .

 

- ثم ننتقل إليها وهي" تأنس إلى الشجرة التي غرسها زوجها الراحل وسقاها بيده ، كان يضع رأسه على جذعها منصتا إلى دبيب جذورها  وهي تتمدد وتنشب أظافرها في بطن الأرض كأنه ينصت لعنفوان الحياة في بطن زوجته " 

نقول :  هل هي شجرة أم زوجته ، أم أن الشجرة والزوجة كائنتان متوحدتان متماهيتان .

 تسند ظهرها لهذه الشجرة ، يحيط بها السعف الذي يتماهى مع ما تستشعره من فوضى واضطرام مشاعرها بين الحنين والحزن والشعور الحارق بالوحشة . إن الحديقة وأشجارها وسعفها تتفاعل كلها مع مشاعر المرأة وأحزانها ووحشتها .

 

- " نقلت عينيها المنقوعتين في الحزن بين السعف المتخم بالماء والسعف الذي نزع ماؤه "

نقول : هذه التعبيرات المازجة بين السعف وبين العيون هو تأكيد على حصارالماضي للمرأة حصارا من الصعب الفكاك منه .

 وتقول " لكن القلب الأخضر الذي كانت تصنعه من الخوص نهارا ، كان يتفكك في الليل بين يديها "

 

ونقول : أي ما كانت تظن أنها تشغل بها نفسها عن الحزن والوحشة نهارا ، كان يذهب ليلا وتعود الوحشة والوحدة إلى قلبها .

 

- هنا تأتي الأم  كنايه عن (الشجرة القديمة )، تربت على ظهرها ( الأرمله ) : "المستندة إلى شجرة الزوج الراحل"

 نقول : أي التي تعيش في ذكراه وتدور في فلكه حتى بعد رحيله ، شدتها بعزم أي باصرار ، "وهي تفك رباط طرحتها السوداء الذي ترك حزا عميقا في رقبتها "

 

نقول : أي أمرتها أمها أن تنسى هذا الماضي وتنزع الحزن على الراحل الذي أصبح قيدا يدميها .

 وقالت لها حكمة الآباء : " الرجل في البيت رحمه ولو كان فحمه ".

هل كانت هذه الحكمة صائبة ؟؟ سنرى مدى صدقها فيما يأتي من أحداث .

 

- تزوجت من يشبه زوجها ، في مهارته في زرع أشجار الدوم وبيع ثماره، يتقن جز السعف من أطرافه ، لكنه  طلقها بعد أسابيع .لماذا ؟

 إن المرحوم يقف بينهما ، " و المرأة كما نصحه أبوه محذرا  لا تنسي هذه النقلة ، ولا تنسى ضربة أول فأس في أرضها "

 

نقول : حكمة أخرى يتحرك من خلالها وعلى هديها الرجل .

 

"صاح مهتاجا وهو يثني بين يديه سعفة لينة :في كل مرة أقلب فيها أرضك بمحراثي أتساءل : هل فعل مثل ذلك معك؟ وإن كان قد فعل : من منا الأفضل ؟ من منا الرجل في عينيك ؟ هل منحك كل شيء ولم تعد لدي فرصة لأزرع  واسقي بمائي ؟!"

نقول : لقد طلقها لأنه لا يعرف مكانته عندها بالنسبة لزوجها الأول ، وهل سيمكنه التفوق عليه أم لا ؟ وما هي نتيجة المقارنة بينهما في عينيها ؟

- كانت التعبيرات هنا في غاية الدقة وفي موضوع بالغ الحساسية لكن السردية استطاعت ان تعبر عنه بكل دقة ووضوح ، بالتشبيه الضمني والمماثلة البارعة المطابِقة والمفهومة .

 

- ثم ننتبه إلى "صاح وهو مهتاجا وهو يثني بين يديه سعفة لينة " إنها أي الزوجة  لم تكن لينة بين اصابعه ، لقد شعر بيبسها واعوجاجها وصلابتها بين أصابعه ، إنها لم تبذل له نفسها ، لم تطاوع أصابعه ، ولم تتشكل بينها كما يريد . لقد استعصت على أصابعه . وأرجع ذلك إلى تفوق زوجها الأول عليه . والرجل لا يقبل الشركة في زوجته ، ولا التقليل من رجولته .

لابد ان يكون في نظرها الأكمل والأفضل ؛وإن لم يكنه في الحقيقة .

 

"قذف  يمين الطلاق ..قال ..لقد فكرت طويلا وانتهي بي الأمر إلى أنني لن أحتمل أن أظل طوال حياتي أستصلح أرضا يتغلغل الملح فيها ..أنا أتنافس مع شبح ميت ..شبح ..شبح ..لا أعرف حجمه ، لا أستطيع الحكم عليه ، لم أره ..لم يرني لكنه يسدد اللكمات إلى وجهي في الظلام حين أطفئ المصباح وأضم وجهك وأبدأ في تقبيلك . "

 

 ونقول  : انتهى به الأمر أن طلقها ، لأنه لا يستطيع التفوق على رجل ميت لا يعرفه ، وكلما اختلى بها " يسدد هذا الميت له اللكمات " بما يشعره من مقارنة بينهما تتجمع في عين الزوجة ، ويشعر هو بها .

- وجاء التعبير  عن هذا بعبارات تصويرية بارعة كعادتها : إنها أرض لا يمكن إصلاحها فقد تغلغل فيها الملح "

نقول : اللغة هنا تكاد تصل إلى درجة الشعر المنثور ، والصور البلاغية تتهادي في سلاسة تطابق مقتضى الحال ، في ميزان دقيق ، لا غلو ولا تقصير . واللغة تتناسب مع طبيعة  الشخصية ، شخصية المزارع الذي يُعبر بالفأس والحرث والملح ، والزرع والري ، والسقيا  . إنها معجم المزارع . تم توظيفه ببراعة .

 

- هنا يتدخل صوت إحدى جارتها ، إنه الراوي يتدخل ، لكن يخفف من تدخله ويجعله الراوي الغائب ؛أن يسند الكلام إلى إحدى جاراتها .

وحتى يغيب الراوي تماما ، فإنها تقول ما تقول وهي تصنع صليبا من الخوص : هنا ينصرف الذهن عن الراوي تماما إلى الصليب وماذا يعني ، إن هذه الصورة ذات وظيفتين ، الأولى كما قلنا إخفاء صوت  الراوي في صوت  الجاره ، ثم توظيف ما يحمله (الصليب ) من معنى القتل البطيء ، والظلم ، والقهر ، التي أصابت المرأة . 

 تقول الراوي/ الجارة ، حكاية فحواها أن في بعض البلاد يضعون على رأس الأرملة جمجمة زوجها المتوفي في كل لحظاتها العاطفية : عندما تنظر إلى فيضان النهر / العاطفة الجياشة التي تفيض بين جوانحها ، حين تفتح كفيها للسحب الحبلى بالمطر / أي عندما ترى النساء الحبالى  فتشتاق إلى الأولاد والأمومة ، حين تشهد اضطرام الحياة في أوراق الشجر التي اجتازت مرحلة الذبول / عندما تشاهد الأطفال يمرحون .

تصحبها الجمجمة حين يستبد بها الشوق للغناء / حين تشتاق إلى أن تعبر عن عواطفها فتجرى دموعها على الخدين حنينا وشوقا .

وما إن تمد يدها لتحرر شعرها المعقوص حتى تصطدم بالجمجمة الجاثمة فوقه / ما إن تنسى نفسها وتحاول التحرر من حزنها وقيدها حتى تذكرها الجمجمة بوضعها الذي لا يسمح لها بذلك ، يصيح بها : أنت أرملة .

 

- ثم يكمل الراوي كلامه ناقلا الحديث لامرأ ة أخرى حتى لا يملَّ القارئ من الأولى ، ويصور السرد الأخرى بنفس الطريقة التي تصرف انتباه القارئ عن أنه كلام الراوي فتقول :

 "نبشت الأخرى التراب بكفيها كمن يبحث فيه :

 "الرجال في بلاد ما يحرقون المرأة التي يموت زوجها ..ينثرون تراب جثتهما معا ..

أكملت وهي تدير وجهها في كل اتجاه كمن يبحث في الافاق : الريح إذن تحمل تراب كثير من النساء ..تحمل صراخ كثير من النساء .. والريح لواقح . "

تشير الجملة الأولى إلى عادات في بلاد الهند معروفة ، وهي توظفها هنا في بيان مظلومية الأرملة ؛ فحرق الزوجه التي مات زوجها قمة في الظلم ، ثم ينثرون ترابهما .

 

- ثم تُعلِّق التعليق الأهم قولها : الريح إذن تحمل تراب كثير من النساء ...والريح لواقح"

 هنا تناص من القران حيث يقول تعالى : "{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر: 22]

 - والمعنى هنا يعود إلى انتقال الثقافات بشكل او بآخر أي عملية التثاقف ، فحرق الأرملة في الهند ، انتقلت إلى بلادنا عبر التثاقف بشكل يتناسب مع ثقافتنا " وهو رأي مرجوح في نظرنا .

 

 - ثم تتزوج تلك الأرملة زوجا ثالثا :

 وسبب طلاقه لها ، أنه يراها تحاول إيهامه أنها قليلة الخبرة وكأنها لم تتزوج قبله ، وهو يرى في ذلك تغلُّب وعيها على عاطفتها ، أي زيف عاطفتها تجاهه .

- وهنا تصفه السردية شخصه  أثناء وصفها لفعله  ، فهي لا تقطع الحدث لتصف الرجل ، حتى لا تحدث  وقفة إيقاعية ،  فتقول : "أغلق الحقيبة بصعوبة ..بدت تكورات ملابسه..فيها كأنها أجزاء متورمة ..جلس يلتقط أنفاسه ..وضع ساقا على ساق فوق ساق ، صارت مقدمة حذائه في مواجهة فمها ..أصلح الياقة المنشاة لقميصه ..انتفض يحمل حقيبته المتورمة ..قذف يمين الطلاق "

ونقول الرجل بطيء الحركة ، متورم الذات ، لديه نرجسية ، وتكررت كلمة متورمة مرة في وصف ملابسه ، ومرة في صفة حقيبته ، ثم يؤكد هذه النرجسية وضعه ساق على ساق لتكون مقدمة حذاءه في مواجهة فمها ، ثم أصلح ياقة قميصه المنشأة... ثم بعد قذفه الطلاق ، لم يشأ أن يتركها دون أن يشبع غروره ونرجسيته ، فعايرها  بأن وفاة زوجها الأول   تهيمن على تفكيرها وتقضي على فرصها في أي حياة جديدة -  وهنا تظهر لغة مختلفة عن لغة الزوج الأول المزارع الذي كان معجمه زراعي كما أشرنا انفا . فصاحبنا هنا يلبس القميص المنشى ، فهو من الأفندية والذي يراها أقل منه في الطبقة  .

 

- تنتقل السردية إلى الزوج الرابع ، وتصفه عبر تحركات الفراش الذي تعجز عن مغادرته بسبب حركة هذا الزوج بالغ السِمَن ، فكلما تحرك انزلقت ، واختل توازنها ، وتصفه السردية بشكل يحمل صورة ساخرة ، لكنه زاد وزنه بهذا الشكل على يديها ، فلقد كان يضع لسان الحزام في الخرم الرابع أما الان فهو يضعه في الخرم الأول ، وهو يرتدي قميصا لا ذوق فيه ، وشكواه أنها دائما تشعره أنها امرأة ذات خبرات زوجية سابقة ، ويرى أنها لو تصنعت أنها لا خبرة لديها لترضي كبرياءه لاستمرت الحياة بينهما ، وكان يكفي ان تخبره أنها أرملة ولا تذكر له عدد من سبقوه .

نقول : كأن صدقها  أصبح من عيوبها ونقائصها

 

 -ونقول هنا أن عبارة : " جذر الشجرة يستقر في الأرض بالتواءاته ، لا باستقامته " التي جاءت على لسانه ؛كانت أول عبارة خارج السياق ، ولا تناسب الشخصية التي رسمتها السردية لهذا الرجل ، هنا كان صوت الراوي يدوي كالجرس .

 ولكن لكل جواد كبوة ، ولكل سيف نبوة ، وكفى المرء نبلا أن تُعد معايبه ..

ولا ينقص هذا أبدا من تميز واحترافية وعلو تقنيات المجموعة .

 

نأتي إلى ختام القصة والتي تكمل المعزوفة الرائقة التي سمعناها ، بآخر انغامها الحزينة :

 "أغلقت الباب خلفه ..أمسكت مفتاحها الوحيد ..أطبقت كفيها عليه ..دسته في صدرها ، في الجهة التي ينبض فيها قلبها ، كأنها تخبئ مفتاح كنزها "

 

قلت : لم تعبر السردية في أي مرة عن إغلاق الباب خلف الزوج المطلِّق إلا هذه المرة لأنه الباب الذي لن يفتح أبدا بعد ذلك ، بل ودسَّت المفتاح الوحيد في صدرها حيث قلبها ، لقد أغلقت باب قلبها ، أغلقت باب كنزها الذي رفضه الازواج .

هل كانوا رجالا ؟ بحيث يصدق عليهم مثل الام " الرجل في بيت رحمة ولوكان فحمة "؟ المثل صحيح ، لكنهم لم يكونوا رجالا بل كنوا عباد جنس ، لا يروا من المرأة غير انها موضوع جنسي .

 

-  وينتقل السرد إلى صوت الراوي/ الجارة  "

"قالت إحدى جاراتها وهي تربت بيديها على السعف الذي جففته الشمس الحارقة ، قدر المجروح أن يعيَّر بدمه ، وقدر المريض أن يُلام على أنينه " 

 - أي لا ذنب للأرملة  إلا أنها أرملة ، ذنب لا يد لها فيه ، وتُعيَّر به وتُحاسَب  وتُلام عليه.

- وعلقت عجوز / صوت الراوي " قالت قد تُجبَر العصافير على العيش في الجدران الأسمنتيه ..لكنها لا تمنح شدوها الجميل إلا لحنان ا لشجر ..لعناق أغصان الشجر "

 - هنا تلوم السردية أو الراوي الرجال الذين تزوجتهم الأرملة ولم يستطيعوا أن يجعلوها تشدو لهم بأجمل اللحان ، فالذنب ذنبهم والعيب عيبهم  .

 

- "ربتت على المفتاح الرابض فوق نبض قلبها ، أسدلت جلبابها على ساقيها المضمومتين ، عقصت شعرها المنسدل على كتفيها ورقبتها ، أغلقت القلب الأخضر الذي استغرقت في تجديله عدة ليال معتمه "

- انه لحن النهاية الأليمة النهاية المحبطة ، سقوط الحلم ، ضياع الأمل ، لحن الإنكسار .

 

ثم تأتي الأم لتضع اللمسة الاخيرة لغلق الستار فكما كانت في البداية هي التي فكت عقيصتها ، وفكت طرحتها بكفها الكبيرة التي تشبه الشجرة .

 الان "حدقت في ساقيها المغلقتين بإحكام ، تمايلت يمنة ويسرة كمن يتلو على مقبرة ، ربتت عليها بكفها الكبيرة التي تشبه شجرة ، أوقفتها أمام شجرتها المفضلة التي غرسها زوجها الراحل ، ألبستها طرحة سوداء جديدة .."

 

- أي  فعلت كل الأفعال العكسية التي بدأت بها القصة .

" ثم جذبتها من يدها تشيد معها من السعف اليابس سياجا يتصدى للريح ، ويحمي شجر الدوم الذي لا يصدق من يرى خدوده المتوهجة المضطرمة أنه يستطيع على غياب الماء .."

 والدلالات هنا واضحة بارعة كعادتها .

 

- ملاحظات :

 - لم نسمع خلال السردية كلها صوت الأرملة ، وكأنها طيلة الطريق مفعول بها .

- نظرة الرجال في السردية إلى المرأة لا تخرج عن كونها موضوع جنسي ، ولذلك فشلوا في التواصل معها ،فلم ينظر أحدهم إليها ككيان إنساني متكامل؛ الجنس أحد جوانبه ، الذي لا يكتمل ما لم تكتمل بقية الجوانب الإنسانية . وهو ما فشل فيه كل رجال السردية عدا الزوج الأول  .

- السردية تناقش ظلم المجتمع للأرملة على وجه الخصوص ، وليس ظلم المجتمع للمرأة على وجه العموم .

-  أبرز ما في السردية لغتها الشعرية وصورها البيانية .

 - جاءت البنية متماسكة ، وايقاعها سريع .

التكنيك عال جدا بصفه عامه في كل المجموعه

 

 

 

 

تعليقات