ماذا لو خسرت كل ذرات ومواد هذا الكون شحناتها الكهربائية ؟!
- الأربعاء 20 نوفمبر 2024
الكاتب مصطفى البلكي
( نظرت إلى أولادها، وإلى العجوز، وإلى البيت الواطئ، وهي تعاير
الغلة، وقالت إن ما تتحصل عليه نظير قيامها بلم البيض والجبن من النجع،
وحمله للمدينة، والجلوس به في السوق، ما عاد يكفي إلا لوجبتين.
تبادل الأطفال نظرات ملأى بالعجز، وقاموا والصمت رفيق خطواتهم، حتى إنهم حينما حاذوا جدتهم، عجزوا عن مناوشتها كما يفعلون.
العجوز
أحنت رأسها، وأعطت كامل انتباهها لصوت احتكاك حبات القمح بالعلبة الصفيح،
ولما تيقنت بابتعاد الصغار عن بيت لم يعد فيه إلا هي وزوجة ابنها الشابة،
سألتها:
ـ آخر ربع؟
قالت: نعم. وسكتت..
فألقت العجوز
بجسدها على الحشية، وأسلمت عينيها لسقف قارب على السقوط، وأذنيها لجدار
الخزانة، تتنصت إلى الحركات الناشئة من تغيير زوجة ابنها الأرملة لملابسها،
وارتداء ملابس الخروج.
حينما ساد الصمت أيقنت بقرب خروجها،
فاعتدلت، ليقع نظرها عليها وهي تضرب ذيل الجلباب المترب، فارتفع الجلباب،
لمحت العجوز ساقيها البضتين الناعمتين، فساورها نفس شعور الخوف، الذي عاشته
حينما غادر ولدها البيت محمولا على الاكتاف،تهز العجوز رأسها، بغرض طرد كل
أوهام الفقد، وتركز في متابعة زوجة ابنها وهي تميل، بغية رفع ربع الغلة.
تستقيم الأرملة فتلمحها بطرف عينها وهي تطلق همهمات خافتة، تتجاهلها،
لعلمها بالسبب، وتشغل نفسها بنزع الجلباب الغائب بين فلقتي ردفها، على مرأى
من العجوز التي سحبت الباب المتهالك، فصر، لتعانق الفراغ الظاهر لها
والمحتقن بصخب بالصغار.
الأرملة من جانبها تعرف أنها إذا ما
تجاوزتها، ستجعل نظراتها توجه إلى لا شيء، وسوف تنبهها إلى ظلها، توصيها
بأن يظل معتدلاً، ولو حدث ومال عليها بدون إبطاء تقومه. العجوز رأت أن
تخالف طقسها، حينما وقعت عيناها لحظة الارتداد على ردفىالأرملة، شاهدتهما
وهما في حالة عراك دائم، يلتقيان ثم يبتعدان في حركة منتظمة، حولت نظرها
إلى دوامات الغبار المتصاعدة بجوار شجرة النبق العقيمة، عانقت الصغار،
فتعلقت بهم، وحاولت إعادة النصح، لكنها شعرت بجفاف حلقها، من أجل النجاة
تشبثت بالردفين، وصرخت فيها لتأخذ واحدا من عيالها معها.
الأرملة لم
تعلق، واكتفت بإخراج اسم أصغرهم، وسارت في طريقها ببطء، فلما وصلتها وقع
أقدامه الراكضة، أطلقت العنان لقدميها، من أجل اللحاق بالوابور قبل أن يكتظ
برواده.
بعد أن لامست يد الصغير ذيل جلبابها، واطمأنت إلى وجوده،
رفعت يدها اليمني، فلما تجاوزت حافة المقطف المضفرة بقصاقيص القماش الملون،
ثنت أطرافها، وبدأت بنبش سطح الغلة، مرة، ومرتين، في الثالثة حينما غمست
الأطراف بعمق أكبر، وجدت ما كانت تبحث عنه، الشيء الوحيد الذي تصر على
وجوده معها في مشاويرها.
بلهفة سحبتها، ووضعتها في المسافة
المناسبة. ارتبكت إذ رأت وجهها بلونه الأبيض يرزح تحت غابة من الزغب،
المنتشر حول العينين الواسعتين، والوجنتين، وتحت الأنف، رغبت في البكاء،
لكنها تذكرت الصغير ويده المتشبثة بذيل جلبابها المترب، تركت يدها في الوضع
السليم، ومدت بوزها إلى الصغير، ولاذت بعينيه الصغيرتين، تطلب منه التكتم
على ما رأى وشاف.
الصغير رفع إليها وجهه الشاحب، والمزدان بابتسامة
عذبة، شقت شفتيه الجافتين، رأت، فرغبت في استخلاص موافقة صريحة منه،
فاستعارت جهامة العجوز وقت خروجها، وقالت:
ـ خلاص.
أومأ الصغير موافقا، وهو يحافظ على ابتسامته، وأظهر لها لهفته لرؤية وجهه في المرآة التي حرمت العجوز دخولها البيت.
وهي
تعيد الشظية لمكانها، تمنت ممارسة طقوس النساء اللاتي تراهن في السوق،
مجليات ومكحلات العيون، ومزججات الحواجب، وواضعات قطع اللادن في أفواههن..
تلعن في سرها العجوز وما قامت به، يوم أن دخلت خزانتها ووجدتها تتطلع إلى
وجهها في المرآة الملتصقة بالجدار، ركبها عفريت الغضب، فنزعت المرآة، وألقت
بها على الماجور المقلوب المجاور لصومعة خاوية، فتهشمت، مالت عليها
وجمعتها، وبعيداً في قلب الهدار ألقت بقطعها.
ألقت بجسدها على
الحشية المفرودة على الأرض، ودفنت وجهها في المخدة، ولما أخذت كفايتها
اعتدلت على صوت خربشة، وجدت الفأر اللعين يزيح الغبار عن شظية صغيرة من
المرآة، غائبة خلف الصومعة، مدت يدها وسحبتها، أزالت عنها الغبار، وجدتها
قطعة صغيرة في حجم كفة اليد، لكنها كافية لرؤية الوجه إذا وضعت في وضع
مناسب.
خوفا من توغلها خلف الذكريات، فضلت استعادة حضورها، فعادت،
فإذا هي قريبة جدا من شجرة السنط، يلوح جذعها المجروح في أماكن كثيرة بجروح
مُلئت بصمغ، يجذبها؛ لاقتناعها بأنه جائزة مناسبة لصمت الصغير.
تقدمت
بدون أن تأخذ في اعتبارها خطر الشوك، همها كله وضعته في كتل الصمغ
المتجمعة، كتلة واحدة منها تكفي لعمل عشرات الطائرات الورقية التي يجيد
الصغير صنعها. اندفعت، متعلقة بطوق النجاة، خطوة، والثانية لم ترفعها، لثقل
قدمها الساري فيه ألم الوخز، فثبتت في مكانها، وأيقنت أن شوكة اخترقت
الحذاء البلاستيكي، ووصلت لبطن القدم.
رأت أن الوضع يحتم عليها رفع
القدم الموجوعة، في نفس وقت ميلها بجذعها لتستند بيدها إلى جذع الشجرة،
وبالأخرى تحافظ على اتزان المقطف، فعلت، وأشارت إلى الصغير. مد يده، تحسس
مؤخرة الشوكة، وبأنامله الصغيرة قبض عليها، أيقنت بدنو اللحظة، فأغمضت
عينيها، وأطلقت آهة واحدة ثم صمتت، تنصت إلى الألم، وحتى لا تقع في أسره،
راحت تضرب بقدمها الموجوعة الأرض، ضربات متتالية، من أجل بث الخدر، حتى
يتسنى لها الوصول إلى الوابور، عبر المدق الظاهر لها، الواجب عليها أن
تقطعه، ليسلمها لجسر، الوابور في منتصفه.
بجهد وصلت إلى الباب،
ولجته، وتحته حطت بجسدها، وأسرعت إلى الحذاء، خلعته، ونظرت إلى مكان
الشوكة، وجدث ثقباً صغيراً، ارتجفت لعدم وجود الدم حوله، فاندفعت يقودها
الخوف للابتعاد عن تسمم مقبل.
أمسكت بفردة الحذاء، وراحت تضرب بها
باطن القدم، شعرت بالخدر، فوقفت ونظرت فإذا بمكان الوخز لم يشخب أي قطرة من
دمها، فارتبكت، ونظرت، فإذا الأوسطى يقرب حنك المقطف من القادوس، وضوء
خاطف يندلق منه.