اليوم العالمي لذوي الهمم.. 7 علماء مسلمين تحدوا الإعاقة (إنفوجراف)
- الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
الناقدة هبة آلسهيت
مقاربة للمجموعة القصصية أحلام المانجو
للكاتب :ناصر مجدي
المجموعة تتكون من : 10 قصص قصيرة تشغل 85 ورقة
القصة الأولى بعنوان : بقعة الضوء
القصة تعبر عن معنى اليأس من تغيير الواقع ، والضياع والغربة ،والانكسار ، مع التمسك بالحلم المحبط .
-استعان الكاتب للدلالة على هذه المعاني بجملة أدوات فنية وجمالية :
أولها استخدام معجم الإحباط واليأس مثل :
جملته الافتتاحية : " يزداد ضيق القضبان القفصي " فهي جملة حملت كلمات : الضيق ، القضبان ، القفص " وكلها كلمات تشير إلى الحصار الخانق ، والسجن المحكم الذي لا فكاك منه .
"ظلام الشوارع" ، "على غير هدى" ، "غائبا داخل نفسه" ، "يحمل على كتفيه هموم "، "عاطل" .
فكما نلاحظ فالمعجم سودواي للغاية ، يعبر عن محنة ضاغطة لا فكاك منها .
2- الوصف : انه في حالة معاش مبكر ، ويحمل على كتفيه هموم خمسة وخمسين عاما ، وعاطل عن العمل ، وهي كلمة تشير إلى قدرته على العمل لكنه لا يجد عملا .
3- مشاركة الطبيعة أو الطبيعة كما يراها : فالظلام يلف الشوارع ، والطقس شتوي أي بارد ، وهي اشارة ليس الى الطقس فقط بل هو صقيع يسكن بين جنبات نفسه .
4 - بنية القصة حيث لا إسم للشخصية الرئيسية ، فهو كم مهمل لا إسم له ، لا مكان موصوف ولا زمان ، إن البنية القصصية تشارك في الدلالة على محنة الشخصية الخانقة وشعورها بالعجز ،والضعه .
- يراوغنا السرد للحظة ، فيرفع توقعاتنا عندما يقول بعد هذا الإحباط واليأس الذي شاركت فيه كل هذه الأدوات وعاشها القارئ ؛فاذا به يقول : "في واجهة الفاترينة الزجاجية رآها " هنا للحظة استشعرنا أن ضمير الغائب قد يعود على امرأة ستغير من قدره ، لكنه لم يمهلنا وأسقط توقعاتنا ، فأخبرنا أنها لوحة زيتية ، ثم راح يصفها لنا : يغلب عليها اللون الأحمر القاني ( تعبير عن نفسه الذبيحه ) ، وبها غيوم كثيفة
( تعبير عن حياته) لكن يتخللها حزم من شعاع شمس مختفيه(تعبير عن الأمل الضائع في الواقع )
لمسات دافئة (تعبير عن أمنيات منشودة ) تسقط على أمواج بحر هائج (تعبير عن غضب يعتمل في باطنه ) ،
ثم نبدأ هنا معجم مختلف في (مساحة الظل على الشاطئ )(فالظل حيث البرودة اللطيفة ، والشاطئ حيث الأرض المنبسطة التي يجد فيها الغريق مأمنه ) ، جواد يجري بقوة فوق الرمال ، ساعيا نحو بقعة الضوء (الحلم والأمل المحبط) فوقه رجل يتشبث بالعنق ( نفسه المتشبثة بالأمل ) .
إن اللوحة تلخص قصة حياته وأعماق نفسه تمثيلا كاملا ، إنها قصة الإحباط واليأس والأمل مصورة في اللوحة ، لكنها في النهاية تتسم بسكون والسكون موت . لمَّا أراد أن يقتنيها ، تحسس جيبه تذكر المعوقات والمنغصات ، فليس معه نقود كافية ، زوجته ستحاسبه على هذا الإنفاق السفيه في نظرها وتبعا لحالته المادية ( صوت الزوجة وكلامها ، تمثل رؤية المجتمع ، واستلابه حقه في أي فرح ومنعه من أي متعة ، وتذكيره بهشاشة واقعه وكارثيته ) ، لكن الصراع كان بين الإحباط الواقع ،والأمل ولو كان كاذبا ، فتغلب الأمل وعاد باللوحة .
حتى فرحته باللوحة غير صافية فوراءها منغصات ، لا تصفو له معها سعادة ولا فرحة .
- دخل إلى بيته متلصصا( حتى بيته وموئل أمنه يدخله متلصصا ) ، أين يضع اللوحة ؟
أنزل صورة زفافه ونكسها إلى جدار الحائط ، وتعجب من ابتسامتهما السعيدة في الصورة ، فلا يجد الآن سببا لهذه السعادة البلهاء ( أمل زمن الشباب المحبط) . ووضع مكانها الصوره الزيتيه والتي تعبر عن حكايته ، والأمل الذي تبشره بها .
جلس وأشعل السيجاره محدقا في اللوحه متخيلا نفسه راكبا الجواد متشبثا به طائرا فوق الرمل متوجها إلى بقعة الضوء . إلى الخلاص إلى الحرية إلى عالم السعادة المنشود ، إلى الحلم الكاذب أو الضائع .
لكن الواقع يحطم الحلم ويمنع تحققه ، صوت امرأته ( تعبير عن المجتمع ) تطالبة بإطفاء النور (تعبير عن منع الحلم ) ، فيجلس وحيدا في الظلام ، لقد عاد إلى الواقع غريبا محاصرا منكسرا مقهورا، لكنه وجد خيالا يستطيع أن يهرب به إلى بقعة الضوء المستحيلة المتوهمة .
القصة على قصرها مشحونة بالدلالات الإنسانية و الاجتماعية ، ويبدو فيها وعيين ، الوعي الواقعي القائم ، والوعي الممكن المنشود ، والانكسار في الأول ، والقيود التي تمنع تحقق الثاني .
إنها قصة انكسار الإنسان في عالم لم يعد للإنسان فيه قيمة ، وأصبح الإنسان فيه غريبا مقهورا ، عالم المادة الذي لا يرحم .عالم خلا من الرحمة والتكافل والتضامن الاجتماعي ، عالم الغابة الذي يأكل فيه القوي الضعيف .
القصة الثانية بعنوان : نداء البحر
القصة تعزف على نفس الأغنية في القصة السابقة ،ولكن بنغمة مختلفة .
فالحوار بين الراوي وبين حبيبته التي يريد الزواج منها .
برع الكاتب في المزاوجة الحوارية بين البحر وبين الحبيبة ، وكان حواره مع البحر إسقاطا على علاقته بالحبيبة ، ومقارنة بينه وبينها ، وأحيانا يتحد البحر مع الحبيبة ، فيُجري حوارا نفسيا بين الراوي والبحر أي/الحبيبة .
يحكي لنا عن حبه للبحر وعشقه له منذ (وعى على البحر ووعى البحر عليه) (البحر هنا الحبيبة) أي أن علاقتهما كانت قديمة منذ الصبا الباكر ، وكانت تحبه كذلك في تلك الأيام الغابرة ، أيام الطفولة البريئة قبل أن يفصلهما المجتمع بأعرافه وطبقاته . .
- أبدى الكاتب براعة في استخدامه لجملة من الصيغ الفنية الجمالية في الحوار :مثل :
"صفعنى سؤالها " وهي استعارة جعلت الكلمات تتحول الى مشهد حي
- ويقول: (هربت مشاعر نشوتي بلقائها الثاني )أي إرتبكْتُ من السؤال
- ويقول (من اضطر لخلع قميصه وهو يرتدي ملابس داخلية مهترئة) بمعني أنه قد اعتراه الخجل هنا تشبيه بارع يستشعره القارئ دون تأمل ، فالصورة تصل بسرعة إلى وجدان القارئ .
- "وأجاب بصوت يحمل عار الفقر ".. مجاز الجزء عن الكل
- ويقول "معي ستمائة جنيه ، وغسالة ايديال " هنا سخرية سوداء .
- وقبل أن يذكر ردها ، ينتقل إلى البحر ، فيقول :
" عندما كان البحر يصفعني من الخلف بموجة مفاجئة - تدفع رأسي داخل الماء ، فابتلع بعضه وأسعل – كنت أبتسم بعدها ، وأقول إنه يداعبني ..ببعض القسوة "
لا حظ هنا قوله : " عندما كان البحر يصفعني من الخلف " مع قوله السابق : " صفعني سؤالها المفاجئ " إنها الصافعة أي الحبيبهىوليس البحر ، وهو سيتحمل صفعتها لأنها في نظره تداعبه ببعض القسوة . إنها نفسه التي كسرها الفقر ، وطُبٍعت بالذل ، فيتقبل الصفعات ويبررها لنفسه . إنها مداعبات لا أكثر . هكذا تعود في حياته ، ليستطيع تقبل الذل دون استشعار مرارته .
ثم يقول : " حاولت أن تداري ابتسامتها الساخرة وهي تنظر لي ، وعيناها تقولان : وهل ما معك يكفي للتفكير بالزواج؟"
إنها أي الحبيبه لم تقل شيئا ، لكنها كانت تداري ابتسامة ساخرة ، وذلك أشد من الكلام وأشد اهانة من الصفعة ، فالصفعة تعَوَّد أن يعالجها بتحويلها إلى مداعبة لكن الابتسامة الساخرة لا حيلة له فيها . . وقالت عيناها ما فهمه ، هنا لا مجال للتحويل أو التحوير فمقالة العينين المفهومة لديه ، باترة .
ثم انتقل إلى الكلام عن البحر، وهو هنا يخاطب الحبيبه(حديثه لنفسه ) : " انها لم تكن تقسو عليه دائما بل أحيانا كانت تهدهده ، فهي تعلم مقدار حبه وعشقه لها.
- يعود للحضورموجها كلامه للحبيبه فيقول : (قلت لها : متشبثا بأي شيئ يمنعني من الغوص) ، هنا استخدم لفظ الغوص وهو يتحدث معها ، لينبهنا أن البحر هو المعادل الموضوعي للحبيبه .
ويستمر في الفكاهة السوداء حيث يقول أنه مشترك في جمعية بخمسمائة جنيه وسيقبضها قريبا ، انضحك أم نبكي من حالته ؟!.
حيث ردت بهدوء..... وهما ينزلان درجات سلم الكازينو الرخيص، وكلمة الرخيص هنا تكرس وتذكر القارئ دائما بفقره الذي هو عاره ، وهوانه لطلبه ما ليس في إمكانه . . ردت:هذا لا يكفي)
ويظهر هنا اختيار الكاتب لمعجمه بعناية شديدة وإحساسه بالكلمات ، فكان يمكن ان يصوغ الجملة : (قالت : لا يكفي ) لكن استبدال (قالت برَدَّت ) تحمل مع معنى الجملة الخبري ، معنى الرد والرفض .
ما زال الراوي يشير إلى فقره الشديد ، الفقراء أيضا لهم قلوب تحب وتعشق ، ولهم آمال في الزواج ، والاستمتاع بالمشاعر الإنسانية ، لكن الفقر لا يرحم . . والتطلع إلى الطبقةالأعلى لا يقبله المجتمع بأعرافه المتكلسه .
- والمجتمع / هو أمها التي لا ترحم وتطالبه أن يذهب بفقره بعيدا .
- تعثر فأمسك بذراعها العاري ،ويقول "سحبت ذراعها الباردة من بين أصابعي الملتهبة ) هنا طباق (بين الباردة والملتهبه)أو مفارقة تكثف المعنى وتبرزه بالثنائية المتناقضه ، يشير إلى عشقه ورغبته ، وبرودها تجاهه ، هناك فرق بينهما في المشاعر كما أن بينهما فرق في الطبقة الاجتماعية . يدل على ذلك تأففها من المفرش في الكازينو الرخيص .
ينتقل إلى البحر ليقول لنا ، أنها قبلت به لأن كل الراغبين قد انصرفوا عنها ولم يبق سواه يشعره أنه مرغوب (الكلام للبحر/الحبيبة ) . هنا اتحد البحر مع الحبيبة.
- أخبرته انه سيكون أمامهما وقت طويل لكي نتمكن من الزواج (أي انها لن تتنازل عن طلباتها التي تفرضها طبقتها ) وسيكون عليه توفير طلباتها مهما طال الوقت .
- أبدى حبه ووعده بالإنجاز رغم فداحة الطلبات ،ثم تعلق رشفت من العصير ثم قالت إنه فاسد ، ذاقه فلم يجده فاسدا . وهي إشارة إلى رؤيتها له ولمستقبلهما معا ، فلكلٍ منهما رؤية للواقع والمستقبل ومذاق . هو يراه صالحا حلوا ، وهي تراه فاسدا مرا .
- انتقل إلى البحر ليقول أنه عانى وكافح حتى انجز القليل مما طلبته ، رغم كل العقبات التي واجهته ، وطلباتها التي فوق قدرته
تزوجها وأنجب طفلتين ، لكن عينيها تقول هذا لا يكفي ، (وكثر الملح في طعامها ) كناية عن مرارة حياتهما التي اصطنعتها بعدم رضاها .
- يعود إلى البحر/ المحبوبة /الزوجة الذي أنهكه وبعد أن فقد السيطرة ، وترك قياده ، لفظه البحر ، لقد انفصم ما بينهما ،
- وجد نفسه على الشاطئ حوله حلقة من الناظرين المستطلعين المتبلدين ، أي المجتمع الذي لايهتم حقيقة بمصائب بعضه بل دوره الفرجة البليدة ، لا تعاطف ولو بالكلمة او حتى بالنظرة ، هم متفرجون متبلدون همهم التسلية بالمشاهدة لمصائب الغير.
سأله شيخ مسن ( بمعني أنه رجل قد خبر الحياة وعركها ) :" لماذا تعمقت ما دمت لا تجيد السباحة؟"
بمعني لماذا دخلت في بحر الطبقةالأعلى وانت لا تملك مقوماتها ؟ و لماذا تطلعت إلى ما لا تقدر عليه؟؟
قلت "بصوت واهن" : لقد وافق البحر ،نعم لقد وافق البحر ، بمعني لقد وافَقَت وأسرتها ، فلماذا لا أنجح في القفز إالى طبقتها بالزواج والاقتران بها ؟
نظر طويلا الي الأمواج الملساء ، تنفس بعمق، ثم زفر قائلا : هذا ...لا يكفي بمعني أن ( الشيخ الحكيم ) نظر إلى الأمواج ( أي إلى أمواج المجتمع وطبقاته التي يعلو بعضها فوق بعض كتلك الأمواج ) ثم قال : هذا لا يكفي .أي لا يكفي قبولك ، لتكون ضمن الطبقة الأعلى ، فالطبقات ليست بارادة اصحابها ولا بارادة افرادها انها قدر من الاقدار ، لا يجوز لاحد أن يكسر حاجزها لا برغبته ولا برغبة افراد الطبقة الاعلى .
القصة تحكي مأساة الفقراء ، وآمالهم المحبطة وانكساراتهم ، الفقراء ليس لهم الحق ولا القدرة في الحياة السعيدة الهانئة ، الفقراء لا حق لهم مهما سعوا وأخلصوا .
وطبقات المجتمع بينها أسوار لا يجوز القفز عليها أوتخطيها ، وهذه سمة المجتمعات المتصلبة المتكلسة .
إنه يفضح واقعا قبيحا ، عبر قصة أليمة ، في إطار فني جمالي بارع .
القصص الأخري تنوع النغم على نفس النوتة الموسيقية ، وخلاصتها أن مصائر الفقراء ليست بأيديهم وانها كلها مبنية على الرضا بالقسمة ، والاكتفاء بما هو متاح . والا فمصيرهم مصير صاحبنا الذي اغتاله البحر .
قصة الميراث
- ذلك الرجل الثمانيني الذي تحايل عليه أبناؤه حتى لا يتزوج خوفا على الميراث ، زوجوه تحت الحاح الانشغال ، ورضي باختيارهم ، فهو مسلوب الإرادة أيضا لكن ليس لفقره بل لكبر سنّه ، وسيطرة أبنائه عليه ، فالقهر ليس فقط للفقراء ، بل أيضا للضعفاء بأي شكل من أشكال الضعف ، إنه مجتمع وحشي فاقد لكل أخلاق ، عقرته المادة فأصبح مسخا شائها . لا يرحم القوي فيه الضعيف ، ولا يعطي غنيُه فقيرَه، ولا يَبَرُّ الأبناءُ آباءهَم . مجتمعٌ منزوعُ الروح .
- اما قصة الفرج :
- فهي تبدو ان بطلها الراوي ومحنته التي تخلص منها فقط بعد ان غادر وطنه مغتربا ، فخرج من ذل الطبقات الدنيا وقهرها ، لكن القصة في الواقع هي قصة ام وردة الفقيرة المعدمة وزوجها ، انها قصة الفقر والفقراء ومحنتهما في هذا المجتمع ، والمفارقة هنا بين الراوي الذي استطاع ان يقفز من المركب الغارق وبين الذين لم يتمكنوا من القفز فعاشوا في طين الوطن المحبوب وماتوا أذلاء مجهولون . حشرات لا قيم لها أو وزن .
-
قصة (أحلام المانجو)
فصاحبها أقصى آماله ان يتناول حبة مانجو التي ذاقها يوما ، وهو غارق في الدين ، مهددا بالطرد من شقته لعجزه عن تسديد الايجار ، ينتهي به الامر بالرضا بابنة صاحب البيت البلهاء زوجة له بعد ان يعرضها عليه صاحب البيت ، فيقبلها ويتنعم ببلاهتها ، فتأتيه صينية مليئةبثمار المانجو .
المجموعة لوحة سوداوية لقاع المجتمع حيث يقبع أكثر الناس ، لا يعرف عنهم أحد ولا يسمع لهم صوت ، كشف لنا فيها الكاتب هذا العالم الذي نسمع عنه ولا نراه ، جعل القارئ يتألم لألمهم يفهم منطقهم ، يتعرف عليهم في أكواخهم ، وفي عششهم ، وفي أخلاقهم ، ورآهم يبتلعون الذل ويستسيغونه ، ورأي النفوس التي أذلها الفقر والحاجة فانحنت ورضيت بما يعتبرونه قدرا ، لا يملكون رفاهية الاختيار ، مبدأهم في الحياة : ما يتاح لك فاقبله ، وما لا يتاح لك فلا تتطع له . ولا تحلم به .
- (وفي لدغة عقرب )
- يظل (خُضري ) يراقب زبيده الأرملة الحسناء بائعة الذرة ، التي ترفض الزواج بعد موت زوجها عطوة ، في رحلته اليومية فوق القطار بحثا عن عمل ، إنه الفقر والمعاناة ، والرحلة اللانهائية بحثا عن عمل ، والموت العبثي ، وترفض الزواج بعد هذا المجاهد الكبير وقد ترك لها ولدا ، وهذا خضري يشتهيها ويجلس أمامها بالساعات يتأملها ، ولا يستطيع الإقدام على مفاتحتها ، إذ أن تصاريف الحياة عند الفقراء ليست بالرغبة والإرادة بل بالاقدار وتصاريفها فهو ينتظر القدر . فعندما تستشعر (زبيدة ) ان قطار العمر يسرقها ، تلين ممانعتها ، وتقلل من محافظتها ، وتسمح لعيني خضري بفسحة الأمل ، هل يتحرك (خضري ) أبدا فليس في ثقافة الفقراء الغزو والإقدام بل هو ينتظر الأقدار ، تأتيه الاقدار بمحنة في طيها منحة ، تقرصه العقرب ، فيحمل إلى المستشفى ، ومستشفى الفقراء ليست مستشفى عادية بل هي (وحدة صحية ) مجرد وحدة ، تتناسب مع هذا الصنف من الكائنات النكرات ، كل شيء فيها مثل حياتهم ؛قدري ، فلا الطبيب موجود ، ولا المساعد مساعد ، ولا الدواء متاح ، وربما يظن البعض أن فقرة المستشفى خارجة عن إطار القصة ، نقول بل هي في صلب القصة ، فليست القصة عن خضري الذي أحب زبيدة وتزوجها ، فإذا قرأناها بهذا المفهوم فنكون قد سطحناه ، وكانت فقرة المستشفي حشوا زائدا ، لكن القصة كشفا لمحنة الفقراء بكل أشكالها ومنها محنتهم في الرعاية الصحية ، وبعد أن كاد خضري يموت وإلى جواره زبيدة ، تمسك بيده ودموعها تسيل وتقول له إن شاء الله هاتخف وتعيش لي " ، إنها الأقدار ، التي افتعلت اللحظة المشحونة بالعاطفة التي تخرج زبيدة عن تحفظها وأعراف طبقتها ، فتبدأ بالتصريح لهذا الجبان برغبتها ،ورضاها وقبولها ، وهو ما لم يستطع فعله او قوله لها ، إنها الأقدار وليس الاختيار .
- وفي قصة (دفع الحياة)
- : نفس التيمة تقريبا ، الارمل الذي ماتت زوجته ولا يستطيع نسيانها ، وبعد فترة يشعر بالفراغ واحتياجه إلى أنيس له ، فيجد جارته (ازهار ) الفتاة العشرينية التي باعها ابوها لخليجي فأذاقها سوء العذاب ، وعادت منكسرة وحيدة ، ظل يمانعها ، وهي جارته ، ويتسلل اليه رائحة طهيها ، انها رائحة الامل واشواق الرجل ، واخيرا يقابل ابتسامتها من النافذة بابتسامة ،حملت القصة محنة فتيات الطبقات الفقيرة وبيعهم لرجال الخليج وليس لاثريائهم ، بل مجرد كونه خليجي فهوقطعا يملك من المال اضعاف ما يملكه هذا الفقير او ذاك ، والخليجي يعرف ذلك ولا يريدها زوجة بل أمة يستمتع بها ثم يلفظها بعد أن يجردها من كل ما أعطاها .
ثم قصة هذا الأرمل الذي لم يبحث ولم يختر ، بل احترامه لذكرى زوجته كما يبدو كان ممانعة العاجز ، لا ممانعة القادر ، فلما أتاحت له ازهار الموشومة بوشم (المطلقة) - في مجتمع يحتقر المطلقات القبول بابتساماتها هرع إليها ، انها فقدان الرجال للإقدام ، وهوأهم خصائص الرجوله إن الرجل الذي لا يستطيع التصريح برغبته إلى امرأة يريد الزواج منها ، هو أعجز عن المدافعة لاقتناص حق من حقوقه . انها اخلاق المقهورين . ثم هي موشومة بوشم المطلقة ولولا ذلك ما شاغلته او قبلته ، إنها أعراف طبقة .
وتظل الامال المحبطة والاحلام الممنوعة تطالعنا في قصتي الخفير ، وليل المستشفى .
- وتأتي قصة عم عبده
- في خضم هذا الخط الاليم من العبثية والعدمية ، لتصنع المفارقة ، فهو جيل المقاومة العنيدة ، والتمسك بالارض ، والقتال ضد العدو انه جيل يختلف تماما عن بقية الاجيال في بقية القصص ، والمفارقة هنا تبرز المعنى وتجسمه ، المفارقة بين جيل الرجال الاقوياء ذوو الارادة والاقدام والمبادرة ، وبين بقية القصص حيث الخنوع والاستسلام للاقدار والضعف والمهانة الذليلة .
المجموعة القصصية تتميز أن كل قصة متماسكة البنية ذات دلالة بمفردها ،والمجموعة كلها يجمعها خيط واحد كحبات في عقد ، فالبنية متماسكة على مستوى الأجزاء ، ومتماسكة
علي المستوي الكلي الشمولي . وهي لوحة سوداوية لقاع المجتمع حيث يقبع أكثر الناس ، لا يعرف عنهم أحد ولا يسمع لهم صوت ، كشف لنا فيها الكاتب هذا العالم الذي نسمع عنه ولا نراه ، جعل القارئ يتألم لألمهم يفهم منطقهم ، يتعرف عليهم في أكواخهم ، وفي عششهم ، وفي أخلاقهم ، ورآهم يبتلعون الذل ويستسيغونه ، ورأي النفوس التي أذلها الفقر والحاجة فانحنت ورضيت بما يعتبرونه قدرا ، لا يملكون رفاهية الاختيار ، مبدأهم في الحياة : ما يتاح لك فاقبله ، وما لا يتاح لك فلا تتطع له . ولا تحلم به .