هبة آلسهيت تكتب: مقاربة للمجموعة القصصية "أحلام المانجو"

  • أحمد عبد الله
  • السبت 21 نوفمبر 2020, 04:16 صباحا
  • 1100
الناقدة هبة آلسهيت

الناقدة هبة آلسهيت

مقاربة للمجموعة القصصية أحلام المانجو

للكاتب :ناصر مجدي

المجموعة تتكون من : 10 قصص قصيرة تشغل 85 ورقة

 

القصة الأولى بعنوان : بقعة الضوء

القصة تعبر عن معنى اليأس من تغيير الواقع ، والضياع والغربة ،والانكسار  ،  مع التمسك بالحلم المحبط .

 -استعان الكاتب للدلالة على هذه المعاني بجملة أدوات فنية وجمالية :

 أولها استخدام  معجم الإحباط واليأس مثل :

جملته الافتتاحية : " يزداد ضيق القضبان القفصي " فهي جملة حملت كلمات : الضيق ، القضبان ، القفص " وكلها كلمات تشير إلى الحصار الخانق ، والسجن المحكم الذي لا فكاك منه .

"ظلام الشوارع" ، "على غير هدى" ، "غائبا داخل نفسه" ، "يحمل على كتفيه هموم "، "عاطل" .

فكما نلاحظ  فالمعجم سودواي للغاية ، يعبر عن محنة ضاغطة لا فكاك منها .

2- الوصف : انه في حالة معاش مبكر ، ويحمل على كتفيه هموم  خمسة وخمسين عاما  ، وعاطل عن العمل ، وهي كلمة تشير إلى قدرته على العمل لكنه لا يجد عملا .

3- مشاركة الطبيعة أو الطبيعة كما يراها : فالظلام يلف الشوارع ، والطقس شتوي أي بارد ، وهي اشارة ليس الى الطقس فقط بل هو صقيع يسكن بين جنبات نفسه .

4 - بنية القصة حيث لا إسم للشخصية الرئيسية ، فهو كم مهمل لا إسم له  ، لا مكان موصوف ولا زمان ، إن البنية القصصية  تشارك في الدلالة   على محنة الشخصية الخانقة وشعورها بالعجز ،والضعه .

 

- يراوغنا السرد للحظة ،  فيرفع توقعاتنا عندما يقول بعد هذا الإحباط واليأس الذي شاركت فيه كل هذه الأدوات وعاشها  القارئ ؛فاذا به يقول : "في واجهة الفاترينة الزجاجية رآها " هنا للحظة استشعرنا أن ضمير الغائب  قد يعود على  امرأة ستغير من قدره ، لكنه  لم يمهلنا وأسقط توقعاتنا ، فأخبرنا أنها لوحة زيتية ، ثم راح يصفها لنا : يغلب عليها اللون الأحمر القاني ( تعبير عن نفسه الذبيحه )  ، وبها غيوم كثيفة

( تعبير عن حياته)  لكن يتخللها حزم من شعاع شمس مختفيه(تعبير عن  الأمل الضائع في الواقع )

لمسات دافئة (تعبير عن  أمنيات منشودة ) تسقط على  أمواج بحر هائج (تعبير عن  غضب يعتمل في باطنه ) ،

ثم نبدأ هنا معجم مختلف في (مساحة الظل على الشاطئ )(فالظل حيث البرودة اللطيفة ، والشاطئ حيث الأرض المنبسطة التي يجد فيها الغريق مأمنه ) ، جواد يجري بقوة فوق الرمال ، ساعيا نحو بقعة الضوء (الحلم والأمل المحبط) فوقه رجل يتشبث بالعنق ( نفسه المتشبثة بالأمل ) .

إن اللوحة تلخص قصة حياته وأعماق  نفسه تمثيلا كاملا ، إنها قصة الإحباط واليأس والأمل مصورة في اللوحة ، لكنها في النهاية تتسم بسكون والسكون موت  . لمَّا أراد أن يقتنيها ، تحسس جيبه تذكر المعوقات والمنغصات ، فليس معه نقود كافية ، زوجته ستحاسبه على هذا الإنفاق السفيه في نظرها وتبعا لحالته المادية ( صوت الزوجة وكلامها ، تمثل رؤية المجتمع ، واستلابه حقه في أي فرح ومنعه من أي متعة ، وتذكيره بهشاشة واقعه وكارثيته ) ، لكن الصراع كان بين الإحباط الواقع ،والأمل ولو كان كاذبا  ، فتغلب الأمل وعاد باللوحة .

حتى فرحته باللوحة غير صافية فوراءها منغصات ، لا تصفو له معها سعادة ولا فرحة .

- دخل إلى بيته متلصصا( حتى بيته وموئل أمنه يدخله متلصصا ) ، أين يضع اللوحة ؟

 أنزل صورة زفافه ونكسها إلى جدار الحائط ، وتعجب من ابتسامتهما السعيدة في الصورة ، فلا يجد الآن سببا لهذه السعادة البلهاء  ( أمل زمن الشباب المحبط) . ووضع مكانها الصوره الزيتيه والتي تعبر عن  حكايته ، والأمل الذي تبشره بها .

جلس وأشعل السيجاره محدقا في اللوحه متخيلا نفسه راكبا الجواد متشبثا به طائرا فوق الرمل متوجها إلى بقعة الضوء . إلى الخلاص إلى الحرية إلى عالم السعادة المنشود ، إلى الحلم الكاذب أو الضائع .

 لكن الواقع يحطم الحلم ويمنع تحققه ، صوت امرأته ( تعبير عن المجتمع )  تطالبة بإطفاء النور (تعبير عن  منع الحلم )  ، فيجلس وحيدا في الظلام ، لقد عاد إلى الواقع غريبا محاصرا منكسرا مقهورا، لكنه وجد خيالا يستطيع أن يهرب به إلى  بقعة الضوء المستحيلة المتوهمة  . 

 القصة على قصرها مشحونة بالدلالات الإنسانية و الاجتماعية ، ويبدو فيها وعيين ، الوعي الواقعي القائم ، والوعي الممكن المنشود ، والانكسار في الأول ، والقيود التي تمنع تحقق الثاني .

إنها قصة انكسار الإنسان في عالم لم يعد للإنسان فيه قيمة ، وأصبح الإنسان فيه غريبا مقهورا ، عالم المادة الذي لا يرحم .عالم خلا من الرحمة والتكافل والتضامن الاجتماعي ، عالم الغابة الذي يأكل فيه القوي الضعيف .

 

القصة الثانية بعنوان : نداء البحر

 

القصة تعزف على نفس الأغنية في القصة السابقة ،ولكن بنغمة مختلفة .

فالحوار بين الراوي وبين حبيبته التي يريد الزواج منها .

برع الكاتب في المزاوجة الحوارية  بين البحر وبين الحبيبة ، وكان حواره مع البحر إسقاطا على علاقته بالحبيبة ، ومقارنة بينه وبينها ، وأحيانا يتحد البحر مع الحبيبة ، فيُجري حوارا نفسيا بين الراوي والبحر أي/الحبيبة .

يحكي لنا عن حبه للبحر وعشقه له منذ (وعى على البحر ووعى البحر عليه) (البحر هنا الحبيبة) أي أن علاقتهما كانت قديمة منذ الصبا الباكر ، وكانت تحبه كذلك في تلك الأيام الغابرة ، أيام الطفولة البريئة قبل أن يفصلهما المجتمع بأعرافه وطبقاته . .

 

-  أبدى  الكاتب براعة في استخدامه لجملة من الصيغ الفنية الجمالية في الحوار :مثل :

 "صفعنى سؤالها " وهي استعارة جعلت الكلمات تتحول الى مشهد حي

 

-  ويقول: (هربت مشاعر نشوتي بلقائها الثاني )أي  إرتبكْتُ من السؤال

- ويقول  (من اضطر لخلع قميصه وهو يرتدي ملابس داخلية مهترئة) بمعني أنه قد اعتراه الخجل  هنا تشبيه بارع يستشعره القارئ  دون تأمل ، فالصورة تصل بسرعة إلى وجدان القارئ  . 

 - "وأجاب بصوت يحمل عار الفقر ".. مجاز الجزء عن الكل

 

- ويقول "معي ستمائة جنيه ، وغسالة ايديال "  هنا سخرية سوداء .

 - وقبل أن يذكر ردها ، ينتقل إلى البحر ، فيقول :

 " عندما كان البحر يصفعني من الخلف بموجة مفاجئة - تدفع رأسي داخل الماء ، فابتلع بعضه وأسعل – كنت أبتسم بعدها ، وأقول إنه يداعبني ..ببعض القسوة "

 

 لا حظ هنا قوله : " عندما كان البحر يصفعني من الخلف " مع قوله السابق : " صفعني سؤالها المفاجئ " إنها الصافعة  أي الحبيبهىوليس البحر ، وهو سيتحمل صفعتها لأنها في نظره تداعبه ببعض القسوة . إنها نفسه التي كسرها الفقر ، وطُبٍعت بالذل ، فيتقبل الصفعات ويبررها لنفسه . إنها مداعبات لا أكثر . هكذا تعود في حياته ، ليستطيع تقبل الذل دون استشعار مرارته .

ثم  يقول  : " حاولت أن تداري ابتسامتها الساخرة وهي تنظر لي ، وعيناها تقولان : وهل ما معك يكفي للتفكير بالزواج؟"

 

 إنها أي الحبيبه  لم تقل شيئا ، لكنها كانت تداري ابتسامة ساخرة ، وذلك أشد من الكلام وأشد  اهانة من الصفعة ، فالصفعة تعَوَّد أن يعالجها بتحويلها إلى مداعبة لكن الابتسامة الساخرة لا حيلة له فيها . . وقالت عيناها ما فهمه ، هنا لا  مجال للتحويل أو التحوير فمقالة العينين المفهومة لديه ، باترة .

 ثم انتقل إلى الكلام عن البحر، وهو هنا يخاطب الحبيبه(حديثه لنفسه )  : " انها لم تكن تقسو عليه دائما بل أحيانا كانت تهدهده ، فهي تعلم مقدار حبه وعشقه لها.

- يعود للحضورموجها كلامه للحبيبه فيقول : (قلت لها : متشبثا بأي شيئ يمنعني من الغوص)  ، هنا استخدم لفظ الغوص وهو يتحدث معها ، لينبهنا أن  البحر هو المعادل الموضوعي للحبيبه .

ويستمر في الفكاهة السوداء حيث يقول أنه مشترك في جمعية بخمسمائة جنيه وسيقبضها قريبا ، انضحك أم نبكي من حالته ؟!.

حيث ردت بهدوء..... وهما ينزلان درجات سلم الكازينو الرخيص، وكلمة الرخيص هنا تكرس وتذكر القارئ دائما بفقره الذي هو عاره ، وهوانه لطلبه ما ليس في إمكانه .  . ردت:هذا لا يكفي)

 ويظهر هنا اختيار الكاتب لمعجمه بعناية شديدة وإحساسه بالكلمات ، فكان يمكن ان يصوغ الجملة : (قالت : لا يكفي ) لكن استبدال (قالت برَدَّت ) تحمل مع معنى الجملة الخبري  ، معنى الرد والرفض .

 ما زال الراوي يشير إلى فقره الشديد ، الفقراء أيضا لهم قلوب تحب وتعشق ، ولهم آمال في الزواج ، والاستمتاع بالمشاعر الإنسانية ، لكن الفقر لا يرحم . . والتطلع إلى الطبقةالأعلى لا يقبله المجتمع بأعرافه  المتكلسه .

- والمجتمع / هو أمها التي لا ترحم وتطالبه أن يذهب بفقره بعيدا .

- تعثر فأمسك بذراعها العاري ،ويقول   "سحبت ذراعها الباردة من بين أصابعي الملتهبة ) هنا  طباق (بين الباردة والملتهبه)أو مفارقة تكثف المعنى وتبرزه بالثنائية المتناقضه   ، يشير إلى عشقه ورغبته ، وبرودها تجاهه ، هناك فرق بينهما في المشاعر كما أن بينهما فرق في الطبقة الاجتماعية . يدل على ذلك تأففها من المفرش  في الكازينو الرخيص .

 ينتقل إلى البحر ليقول لنا ، أنها قبلت به لأن كل الراغبين قد انصرفوا عنها ولم يبق سواه يشعره أنه مرغوب (الكلام للبحر/الحبيبة ) . هنا اتحد البحر مع الحبيبة.

- أخبرته انه سيكون أمامهما وقت طويل لكي نتمكن من الزواج (أي  انها لن تتنازل عن طلباتها التي تفرضها طبقتها ) وسيكون  عليه توفير طلباتها مهما طال الوقت .

- أبدى حبه ووعده بالإنجاز رغم فداحة الطلبات  ،ثم  تعلق رشفت من العصير ثم قالت إنه فاسد ، ذاقه فلم يجده فاسدا . وهي إشارة إلى رؤيتها له ولمستقبلهما معا ، فلكلٍ منهما رؤية للواقع والمستقبل ومذاق . هو يراه صالحا حلوا ، وهي تراه فاسدا  مرا .

 - انتقل إلى البحر ليقول أنه عانى وكافح حتى انجز القليل مما طلبته ، رغم كل العقبات التي واجهته ، وطلباتها التي فوق قدرته

تزوجها وأنجب طفلتين ، لكن عينيها تقول هذا لا يكفي ، (وكثر الملح في طعامها ) كناية عن مرارة حياتهما التي اصطنعتها بعدم رضاها .

- يعود إلى البحر/ المحبوبة /الزوجة  الذي أنهكه وبعد أن فقد السيطرة  ، وترك قياده ،  لفظه البحر ، لقد انفصم ما بينهما ،

- وجد نفسه على الشاطئ حوله حلقة من الناظرين المستطلعين المتبلدين ، أي المجتمع الذي لايهتم حقيقة بمصائب بعضه بل دوره الفرجة البليدة ، لا تعاطف ولو بالكلمة او حتى بالنظرة ، هم متفرجون متبلدون همهم التسلية بالمشاهدة لمصائب الغير.

سأله شيخ مسن ( بمعني  أنه رجل قد خبر الحياة وعركها ) :" لماذا تعمقت ما دمت لا تجيد السباحة؟"  

بمعني لماذا دخلت في بحر الطبقةالأعلى وانت لا تملك مقوماتها ؟  و لماذا تطلعت إلى ما لا تقدر عليه؟؟

قلت "بصوت واهن" : لقد وافق البحر ،نعم لقد وافق البحر ، بمعني  لقد وافَقَت وأسرتها ، فلماذا لا أنجح في القفز إالى طبقتها بالزواج والاقتران بها ؟  

 نظر طويلا الي الأمواج الملساء ، تنفس بعمق، ثم زفر قائلا : هذا ...لا يكفي بمعني أن  ( الشيخ الحكيم ) نظر إلى الأمواج ( أي إلى  أمواج المجتمع وطبقاته التي يعلو بعضها فوق بعض كتلك الأمواج ) ثم قال : هذا لا يكفي .أي لا يكفي قبولك ، لتكون ضمن الطبقة الأعلى ، فالطبقات ليست بارادة اصحابها ولا بارادة افرادها انها قدر من الاقدار ، لا يجوز لاحد أن يكسر حاجزها لا برغبته ولا برغبة افراد الطبقة الاعلى .

 

 القصة تحكي مأساة الفقراء ، وآمالهم المحبطة وانكساراتهم ، الفقراء ليس لهم الحق ولا القدرة في الحياة السعيدة الهانئة ، الفقراء لا حق لهم مهما سعوا وأخلصوا .

 وطبقات المجتمع بينها أسوار لا يجوز القفز عليها أوتخطيها ، وهذه سمة المجتمعات المتصلبة المتكلسة .

 

 إنه يفضح واقعا قبيحا ، عبر قصة أليمة ، في إطار فني جمالي بارع .

 

 القصص الأخري تنوع النغم على نفس النوتة الموسيقية ، وخلاصتها أن مصائر الفقراء ليست بأيديهم وانها كلها مبنية على الرضا بالقسمة ، والاكتفاء بما هو متاح . والا فمصيرهم مصير صاحبنا الذي اغتاله البحر .

قصة  الميراث

-     ذلك الرجل الثمانيني الذي تحايل عليه أبناؤه حتى لا يتزوج خوفا على الميراث ، زوجوه تحت الحاح الانشغال ، ورضي باختيارهم ، فهو مسلوب الإرادة أيضا لكن ليس لفقره بل لكبر سنّه ، وسيطرة أبنائه عليه ، فالقهر ليس فقط للفقراء ، بل أيضا للضعفاء بأي شكل من أشكال الضعف ، إنه مجتمع وحشي فاقد لكل أخلاق ، عقرته  المادة فأصبح مسخا شائها . لا يرحم القوي فيه  الضعيف  ، ولا يعطي غنيُه فقيرَه، ولا يَبَرُّ الأبناءُ آباءهَم . مجتمعٌ منزوعُ الروح .

-     اما قصة الفرج :

-      فهي تبدو ان بطلها الراوي ومحنته التي تخلص منها فقط بعد ان غادر وطنه مغتربا ، فخرج من ذل الطبقات الدنيا وقهرها ، لكن القصة في الواقع هي قصة ام وردة الفقيرة المعدمة وزوجها ،  انها قصة الفقر والفقراء ومحنتهما في هذا المجتمع ، والمفارقة هنا بين الراوي الذي استطاع ان يقفز من المركب الغارق وبين الذين لم يتمكنوا من القفز فعاشوا في طين الوطن المحبوب وماتوا أذلاء مجهولون . حشرات لا قيم لها أو وزن .

-      

 قصة (أحلام المانجو)

فصاحبها أقصى آماله ان يتناول حبة مانجو التي ذاقها يوما ، وهو غارق في الدين ، مهددا بالطرد من شقته لعجزه عن تسديد الايجار ، ينتهي به الامر بالرضا بابنة صاحب البيت البلهاء زوجة له بعد ان يعرضها عليه صاحب البيت ، فيقبلها ويتنعم ببلاهتها ، فتأتيه صينية مليئةبثمار المانجو .

 

المجموعة لوحة سوداوية لقاع المجتمع حيث يقبع أكثر الناس ، لا يعرف عنهم أحد ولا يسمع لهم صوت ، كشف لنا فيها الكاتب هذا العالم الذي نسمع عنه ولا نراه ، جعل القارئ يتألم لألمهم يفهم منطقهم ، يتعرف عليهم في أكواخهم ، وفي عششهم ، وفي أخلاقهم ، ورآهم يبتلعون الذل ويستسيغونه ، ورأي النفوس التي أذلها الفقر والحاجة فانحنت ورضيت بما يعتبرونه قدرا ، لا يملكون رفاهية الاختيار ، مبدأهم في الحياة :  ما يتاح لك فاقبله ، وما لا يتاح لك فلا تتطع له . ولا تحلم به .

 

 

-    (وفي لدغة عقرب )

-      يظل (خُضري ) يراقب زبيده الأرملة الحسناء بائعة الذرة ، التي ترفض الزواج بعد موت زوجها عطوة ، في رحلته اليومية فوق القطار بحثا عن عمل ، إنه الفقر والمعاناة ، والرحلة اللانهائية بحثا عن عمل ، والموت العبثي ، وترفض الزواج بعد هذا المجاهد الكبير وقد ترك لها ولدا ، وهذا خضري يشتهيها ويجلس أمامها بالساعات يتأملها ، ولا يستطيع الإقدام على مفاتحتها ، إذ أن تصاريف الحياة عند الفقراء ليست بالرغبة والإرادة بل بالاقدار وتصاريفها فهو ينتظر القدر . فعندما تستشعر (زبيدة ) ان قطار العمر يسرقها ، تلين ممانعتها ، وتقلل من محافظتها ، وتسمح لعيني خضري بفسحة الأمل ، هل يتحرك (خضري ) أبدا فليس في ثقافة الفقراء الغزو والإقدام بل هو ينتظر الأقدار ، تأتيه الاقدار بمحنة في طيها منحة ، تقرصه العقرب ، فيحمل إلى المستشفى ، ومستشفى الفقراء ليست مستشفى عادية بل هي (وحدة صحية ) مجرد وحدة ،  تتناسب مع هذا الصنف من الكائنات النكرات ، كل شيء فيها مثل حياتهم ؛قدري ، فلا الطبيب موجود ، ولا المساعد مساعد ، ولا الدواء متاح ، وربما يظن البعض أن فقرة المستشفى خارجة عن إطار القصة ، نقول بل هي في صلب القصة ، فليست القصة عن خضري الذي أحب زبيدة وتزوجها ، فإذا قرأناها  بهذا المفهوم فنكون قد سطحناه ، وكانت فقرة المستشفي حشوا زائدا ، لكن القصة كشفا لمحنة الفقراء بكل أشكالها ومنها محنتهم في الرعاية  الصحية ، وبعد أن كاد خضري يموت وإلى جواره زبيدة ، تمسك بيده ودموعها تسيل وتقول له إن شاء الله هاتخف وتعيش لي " ، إنها الأقدار  ، التي افتعلت اللحظة المشحونة بالعاطفة التي تخرج زبيدة عن تحفظها وأعراف طبقتها ، فتبدأ بالتصريح لهذا الجبان برغبتها ،ورضاها وقبولها ، وهو ما لم يستطع فعله او قوله لها ، إنها الأقدار وليس الاختيار .

 

-     وفي قصة (دفع الحياة)

-     : نفس التيمة تقريبا ، الارمل الذي ماتت زوجته ولا يستطيع نسيانها ، وبعد فترة يشعر بالفراغ واحتياجه إلى أنيس له ، فيجد جارته (ازهار ) الفتاة العشرينية التي باعها ابوها لخليجي فأذاقها سوء العذاب ، وعادت منكسرة وحيدة ، ظل يمانعها ، وهي جارته ، ويتسلل اليه رائحة طهيها ، انها رائحة الامل  واشواق الرجل ، واخيرا يقابل ابتسامتها من النافذة بابتسامة ،حملت القصة محنة فتيات الطبقات الفقيرة وبيعهم لرجال الخليج وليس لاثريائهم ، بل مجرد كونه خليجي فهوقطعا يملك من المال اضعاف ما يملكه هذا الفقير او ذاك ، والخليجي يعرف ذلك ولا يريدها زوجة بل أمة يستمتع بها ثم يلفظها بعد أن يجردها من كل ما أعطاها .

ثم  قصة هذا الأرمل الذي  لم يبحث ولم يختر ، بل احترامه لذكرى زوجته كما يبدو كان ممانعة العاجز ، لا ممانعة القادر ، فلما أتاحت له ازهار الموشومة بوشم (المطلقة) - في مجتمع يحتقر المطلقات  القبول بابتساماتها هرع إليها ، انها فقدان الرجال للإقدام ، وهوأهم خصائص الرجوله إن الرجل الذي لا يستطيع التصريح  برغبته  إلى امرأة يريد الزواج منها   ، هو أعجز عن المدافعة لاقتناص حق من حقوقه . انها اخلاق المقهورين . ثم هي موشومة بوشم المطلقة ولولا ذلك ما شاغلته او قبلته ، إنها أعراف طبقة  .

وتظل الامال المحبطة والاحلام الممنوعة تطالعنا في قصتي الخفير ، وليل المستشفى .

-    وتأتي قصة عم عبده

-      في خضم هذا الخط الاليم من العبثية والعدمية ، لتصنع المفارقة ، فهو جيل المقاومة العنيدة ، والتمسك بالارض ، والقتال ضد العدو انه جيل يختلف تماما عن بقية الاجيال في بقية القصص ، والمفارقة هنا تبرز المعنى وتجسمه ، المفارقة بين جيل الرجال الاقوياء ذوو الارادة والاقدام والمبادرة ، وبين بقية القصص حيث الخنوع والاستسلام للاقدار والضعف والمهانة الذليلة .

 


         المجموعة القصصية تتميز أن كل قصة متماسكة البنية ذات دلالة بمفردها ،والمجموعة كلها يجمعها خيط واحد كحبات في عقد ، فالبنية متماسكة على مستوى الأجزاء ، ومتماسكة   

  علي المستوي الكلي الشمولي . وهي لوحة سوداوية لقاع المجتمع حيث يقبع أكثر الناس ، لا يعرف عنهم أحد ولا يسمع لهم صوت ، كشف لنا فيها الكاتب هذا العالم الذي نسمع عنه ولا نراه ، جعل القارئ يتألم لألمهم يفهم منطقهم ، يتعرف عليهم في أكواخهم ، وفي عششهم ، وفي أخلاقهم ، ورآهم يبتلعون الذل ويستسيغونه ، ورأي النفوس التي أذلها الفقر والحاجة فانحنت ورضيت بما يعتبرونه قدرا ، لا يملكون رفاهية الاختيار ، مبدأهم في الحياة :  ما يتاح لك فاقبله ، وما لا يتاح لك فلا تتطع له . ولا تحلم به .

 

 

تعليقات