غادة صلاح الدين تكتب: عَريس في الخَيَال

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 20 نوفمبر 2020, 03:50 صباحا
  • 1413
الكاتبة غادة صلاح الدين

الكاتبة غادة صلاح الدين


   في عصر يوم حار جلس سعيد يتناول طعام الغداء مع أسرته، أجلس والدته بجواره، لاحظ شرودها غير المعهود، فلم يُعر الأمر اهتمامًا، وقال في نفسه: ربما تكون مجهدة أو من تأثير الجو الحار، على الرغم من تجاوزها السبعين، فإنها كانت مُفعمة بالحيوية والنشاط.
   ذهب إلى غرفته ليأخذ قسطا من الراحة قبل أن يذهب للقاء أصدقائه، حاول أن يخلد إلى النوم فتسارعت الذكريات تلاحقه.
   مشهد وفاة والده تجسد أمام عينيه، حزن أمه المكتوم، ونظرات أخواته البائسة.
   حاول أن يستجدي النوم مرارا والهروب من الأحزان التي تلاحقه كلما وجد والدته قد تغير شكلها وخط الزمن على وجهها علامات الكبر والتعاسة بشكل مفاجيء.
   تهيأ سعيد للخروج بعد أن تأكد أن لا نصيب له اليوم من الراحة محدثًا نفسه: "يعني هو جديد عليك يا سعيد التعب طول عمرك شايل الهم وشقيان"، وطلب من ابنته الكبرى كوبًا من الشاي قبل أن يتجه لأصدقائه، وجلس بجوار والدته يحدثها عن أمور البيت، فقد كان يستشيرها في كل كبيرة وصغيرة، غير أنه تأكد من أنها ليست بخير؛ كانت شاردةً ولا ترد على أسئلته؛ فأثار ذلك في نفسه الحيرة، وسأل زوجته سعاد:
- هل تسببتِ أو أحد الأولاد في مضايقة جدتهم ؟!
- فأقسمت له: لم يحدث شيء، ولكنها على هذي الحال منذ أمس الأول!
فأخذ يسأل والدته: ماذا بكِ؟! هل هناك ما يؤلمك يا أمي؟
- فقالت له: إنني في انتظار حبيبي، سوف يأتي لخطبتي، وأفكر ماذا سأقول له! أريد أن أبدو جميلة، لا تقلْ له إني مريضة وإنك اصطحبتني إلى الطبيب؛ سوف يحزن من أجلي كثيرا، تعالَ معي نختر ماذا سأرتدي؟ الفستان الوردي أم ذاك الأخضر؟ لا. لا. لا سوف أرتدي الأبيض كي يكون فأل خير.
   ارتدت العجوز فستانها الأبيض، تأملت نفسها في المرآة بسعادة وفرح، كان سعيد يشاهدها عبر فرجة الباب الموارب، سمعها تغني (يا أمه القمر ع الباب) تكلمت وغنت وتمايلت كأنها فراشة في بستان، وسعيد يبكي حتى أغرقت الدموع وجهه دون توقف، تذكر يوم أن أتى جده بعد وفاة والده بسنة ليعرض على أمهِ الزواج من عم أولادها. لم يتمالك سعيد نفسه حين قال بغضب شديد:
"أمي لا تريد أن تتزوج اتركونا في حالنا نعش بسلام".
فربت جده على كتفه وقال:
"يا بني، أمك لا تزال صغيرة، وعمك سيعتني بكم ويعينكم على تحمل أعباء الحياة، فمعاش أبيك ليس كافيا وإخوتك صغار".
   رفض سعيد رفضا تاما وقال: "سأعمل وأساعد أمي وأصرف على البيت وأمي معززة مكرمة لا تحتاج إلى أحد".
   مضت الأيام والبنات كبرن وتزوجن الواحدة تلو الأخرى وأمي ترسم الفرحة على وجهها، لكن كنت أسمعها ليلا تبكي حظها ووحدتها، فصممت على أن أتزوج معها ولا أتركها أبدا، وكان اختياري للزوجة ليس على أساس الحب ولكن اخترت من اختارتني وأمي معا، لم أنسَ فضل زوجتي حين أصرَّت على عدم خروج أمي من البيت ليلة فرحنا، حمدت الله على أنها زوجة بنت أصل، لكن لم أدرِ وقتها أني ذَبحتُها بسكين للمرة الثانية.
   رجع سعيد من شروده يحتضن أمه ويقبل رأسها ويشعر بالذنب الذي أدى لما هي عليه الآن. استعان بابنته في فتح جهاز اللاب توب، بحثا عن دكتور أمراض نفسية، وعن وصف لحالتها، واستقر به الحال على دكتور كبير ذهب إليه وشرح له حالتها بالضبط، فطمأنه وهدأ من روعه وقال:
إنها تعاني حالة من حالات الزهايمر المبكر، وتعلن عن رغباتها المكبوتة طوال السنين الماضية، ولا داعي أبدًا لعرضها على أطباء آخرين، حيث إن الأدوية لن تأتي بجديد في مثل حالتها بل ستزيدها سوءا.
فسأله سعيد عمَّا يجب فعله؟!
فقال: تجاوب معها، وقُل لها: إنك توافقها لا غير، فالعيش على أمل أفضل من الموت على قيد الحياة.
   صعد سعيد سلم البيت، أسمع أمه كلمات عذبة وجميلة، أخبرها أنها صبية وحسناء وعروس بحق، وأنها ستفرح قريبا، دخلت غرفتها، وضع سعيد أذنه على الباب، سمعها تغني (يا أمه القمر ع الباب).
   جر قدميه نحو غرفته وعض على يده، تذكر كلمات جده، ارتسمت أمام عينيه جدران السجن الذي بناه بأنانيته وسجن فيه أمه، وأطفأ شمس حياتها، تمنى لو عاد الزمن إلى الوراء، تخيل أمه تمر بفستانها الأبيض عبر هواء الغرفة وتمد يديها للقمر.

تعليقات