د. عباس شومان يكتب: المعصية في ثوب الطاعة

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 20 نوفمبر 2020, 01:45 صباحا
  • 807


يفهم بعض الناس الزهد فهما خاطئا، فيظنون أنه يعني التخلي عن متع الحياة بالكليّة، والاكتفاء بما يبقيهم على قيد الحياة من الطعام والشراب، وما يستر الأبدان من رخيص الثياب، وما يكفي لمنع حر الشمس وبعض برد الشتاء من المسكن...والأدهى أنه يفرض ذلك على أهل بيته وأولاده، مع قدرته على أن يعيش حياة كالتي يعيشها الناس!.


ولقد لقيت واحدا من هؤلاء هو وبعض أولاده وبعض قرابة له جاءوا مشفقين على أولاده، وطالبين نصحه بأن ينفق على أولاده،ولايلزمهم بهذه الحياة التي اختارها والتي نبالغ إن وصفناها بالآدميّة، ولقد رأيت الرجل يلبس وأولاده ملابس غريبة في نوع قماشها وطريقة تفصيلها، فقد يكون هو من قص قماشها الرخيص بنفسه وخاطها كالأكياس ، لتستر عورة أطفاله الذين يفترشون الأرض في نومهم ولا يذهبون إلى المدارس بحجة أنه يدرس لهم بنفسه ؛حتى لا تفسد المدرسة والمدرسين أخلاقهم ....!

وعند الحديث معه علمت بأنه خريج جامعة كبرى في إحدى كلياتها العمليّة، وأنه في عقده السابع من عمره، وأنه ينتمي إلى عائلة حسب قوله من أثرى الأثرياء، وأنه يسكن في منطقة راقية من مناطق القاهرة، وأنه كان يعيش حياة عاديّة كالتي يعيشها الناس حتى لقي شيخا من العلماء المعروفين فتعلم على يديه وعرف الطريق الصحيح- طريق الزهد بفهمه المغلوط -، فوقف أمواله وبيته وجميع ممتلكاته على تعليم كتاب الله...قلت له: وأولادك كيف يعيشون؟ قال يعيشون حياة سعيدة – يقصد حياة الحرمان التي فرضها عليهم -.قلت له: منظر أولادك يصعب أن يراهم شخص في طريقه ولا يمد يده في جيبه ليتصدق عليهم! قال : هم سعداء ولا ينقصهم شيء. قلت: هل قال لك شيخك الذي تعلمت على يديه أن عليك أن تفعل ذلك لتكون مؤمنا حقا؟! قال : لا. قلت له هل رأيت شيخك يلبس ما تلبس أو يعيش كما تعيش؟! قال:لا. قلت وهل تشك في تقواه وورعه؟ قال :لا . قلت: ألا تعلم أن شيخك الذي علمك يلبس غالي الثياب ويسكن في قصر؟! ألم تعلم بقصة سيدنا سعد حين أراد أن يتصدق بماله كله فلم يسمح له رسولنا r بأكثر من الثلث قائلا:«الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"؟،ولذا فقد تجاوزت الشرع حين وقفت أموالك وتركت أولادك فقراء. قال: لكنني أملك دليلا مقابلا. قلت له: ما هو؟ قال: سيدنا أبو بكر t تصدق بأمواله كلها ودفعها لرسول الله r وحين سأله ماذا تركت لأولادك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله. قلت له: الخبر ضعيف ،وعلى فرض صحته فإن هذا كان في وقت ضيق شديد مر بالمسلمين، وحين يكون ديننا ووطننا في خطر ويحتاج لما في أيدينا فكلنا وأموالنا له فداء ،فهو ظرف استثنائي لظروف طارئة، أما في الظروف العاديّة فليس مطلوبا من الناس بل ولا يجوز التصدق بأموالهم أو وقفها وحرمان ورثتهم، وأخذ الرجل يجادل  بفهمه المغلوط لديننا وأحكام شريعته ليبرر مافعله، فقلت له: اعلم بأنك عصيت الله بوقف أموالك وحرمان من تعول ظنا منك أن ما تفعله قربة وهو عين المعصية، وأن عليك أن تدرك نفسك قبل فوات الأوان فلن ينفعك ما وقفته ولا ما تقوم به من تحفيظ لكتاب الله الذي يحمل كثيرا من الآيات الدالة على بطلان مسلكك، فمن حق أولادك ومن تعول العيش كأقرانهم في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم والتمتع بالنعم التي أنعم الله بها عليكم. أليس في كتاب ربنا :{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}ﭐ؟أليس فيه { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }؟ أليس فيه الأمر الذي على سبيل الوجوب: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ...} ؟ أليس فيه          ؟وغير ذلك كثير من الآيات ،وفي سنة رسولنا الكريم إذنه r لزوجة{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } أبي سفيان وقد بخل على أولاده بالإنفاق من ماله على نفسها وعياله من غير إذنه بشرط أن يكون بالقدر الكافي دون زيادة: حيث قال لها: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ، بِالْمَعْرُوفِ».قال : ماذا فعل هل أفك الوقف؟ قلت له : إن استطعت فافعل لتنقذ أولادك مما هم فيه.


ومشكلة هؤلاء أنهم يفهمون بعض ما يسمعون فهما خاطئا ويحفظون كتاب الله أو بعضا منه، ولا ينتبهون لما في الآيات مما يحرم ما هم عليه، وهذا مثله مثل أولئك الذين لم ينجبوا أو أنجبوا من لا يرضون عنهم من الأبناء لاعوجاج سلوكهم ،فيوقفون أموالهم لجهات البر حتى يُحرم الورثة منها، ويظنون بذلك أنهم فعلوا خيرا وهم لا يعلمون أنهم ارتكبوا معصية عظيمة بحرمان الورثة مما أوجبه الله لهم في أمواله بعد وفاته، وثمة خطأ آخر يقع فيه البعض وهو اعتقادهم بأن الإنسان حر في ماله طالما هو على قيد الحياة، يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء، وللأسف الشديد يقع بعض من يتصدون للفتوى في خطأ عظيم حين يفتون لهم بذلك، فيترتب عليه كتابة صاحب المال بعضه لبعض ولده دون إخوته، أو يملك المال لبناته إن لم يكن أنجب ذكورا حتى لايشاركهم إخوته وغيرهم في الميراث بعد وفاته، وليعلم هؤلاء  أن هذا من أكل أموال الناس بالباطل ،وقد رفض رسولنا الأكرم الشهادة على نحلة للنعمان بن بشير من أبيه دون إخوته؛ وقال لبشير: «لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ».


فالمال ليس مملوكا لصاحبه على الحقيقة بل هو مستخلف فيه، وقد نظم الشرع طريقة انتقاله بعد وفاته ميراثا وليس له أن يخل بما نظمه مولاه،وأموال الميراث مستحقة لأصحابها وجوبا من الشرع وليس تفضلا ممن كانت بيده قبل وفاته ففي كتاب ربنا:{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}،وفيه :{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ،ولذا فإن أي إخلال بآلية انتقال المال من الأحياء إلى ورثتهم هو مخالفة صريحة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع علماء ا لمسلمين، فلنتق الله في أموالنا التي بين أيدينا ولا نبخل بها على أنفسنا أو من نعول، ولا نتصرف فيها تصرفا نحسبه بجهل طاعة وهو معصية، ولا نحدث تصرفا يضر باستحقاق ورثتنا من بعدنا.

تعليقات