"ألحان سماوية".. قصة قصيرة لـ محمود حمدون
تبدو " المقابر " من بعيد كبيوت صغيرة الحجم , يغلب عليها البناء بالطوب اللبن , إن كان بعض منها أعيد بناؤه بالطوب الأحمر وبأسقف خرسانية لكن ظلت هذه نغمة نشاز لا تليق بالمكان أو قاطنيه . على اليمين من المدخل الرئيسي , على خطوات قليلة تصدح موسيقى يحسبها أهل الحظوة والثروة أنها رديئة قبيحة النغمات , تؤذي الأذن , بينما يراها المستمعون إليها من أهل المكان ألحانًا سماوية تطرب لها نفوسهم ,
هي بعض حياة يعيشونها ويرون فيها قليل من مسرّات تُلقى تحت اقدامهم أحيانا , هي الدنيا كما سمعوا عنها , فمالوا إليها بقلوبهم وآمنت أفئدتهم أن ما وراء ذلك عبث وقبض ريح لا يستر المرء فوق الأرض أو تحت الثرى حين يحين الموعد.
حين نقترب تختلط علينا أصوات متداخلة قد تتنافر وقد يعتادها المرء بعد فترة , فاليوم حفل زفاف " آمنة " غادة المكان والحسناء الوحيدة التي لا تطاردها عيون المارة فهم قليلون وإن وُجدوا كانوا في شغل يمنعهم التمتع بالنظر لأنوثتها المتفجرة ,,بيضاء كجبل ثلجي ضلّ طريقه إلينا , متناسقة القوام حتى تحسب أن كل جزء فيها قد وضع بموضعه الصحيح دونما زيادة أو نقصان ,
دافئة الصوت ودائما من يستمع إليها يظنّ كأنما صحت من نومها توّا فتبعث في جسد المتلقي تيارًا كهربيًا ,اليوم ختام خطوبتها وزفافها على " حسن " سليل عائلة أخرى تتوطن المكان منذ قرون , تعمل حيث لا أحد ينافسها في مهنتها , مهنة يُجلها الجميع حينما يحتاجون إليها كلهم يفعلون ويحتقرونها سرًّا ويفرون منها بعد ذلك . وحسن كما يقولون عنه في المنطقة " دلّوعة " الحي , الرائق دومًا , فلا تثير حفيظته كارثة , كما لا ينهزم قلبه عندما يعلو نحيب النسوة كل فترة , يؤمن بمقولة أن كل شيء يتساوى في النهاية
لعل قلبه ومن قبله جسده يثوران لفترة كلما هلّ طيف " فتاته " آمنة " يراها في غدوها ورواحها تمر أمامه فتضطرب جوارحه ويخفق قلبه بشده وتقف شعيرات رأسه الخشنة, يمنعه من مغازلتها علنًا بأس أبيها , سلاطة لسانها , فيُضمر كل مرة ما يختلج بنفسه على أمل قريب سيتحقق . كانت " آمنة " تجلس على " مصطبة " من الحجارة مستوية الزوايا مستطيلة الشكل هي في النهاية بقايا شاهد قبر , مغطّاة بسجاد من بقايا أقمشة ملونة , تجيد النسوة في الأحياء الشعبية صناعتها وتعكس قدرتهن على التعايش مع الحال والاستغناء عمّا يتجاوز النظر والقدرة.
تجلس " العروس " مربّعة الساقين تحيط بها نسوة ثلاثة , يُعملن أيديهن بمهارة لإزالة طبقات من الشعر من الوجه والذراعين والساقين, وإعادة تحديد ورسم الحواجب , ويُلقين على سمعها بعض تعليمات تنزع عنها غلاف رقيق يفصل بين عالم البراءة ودنيا جديدة ستدلف إليها بعد سويعات .
هن يدركن والعروس قبلهن معنى الزفاف ومقدماته اللازمة , يؤمنّ أن العروس يجب أن تتزين حتى تصبح فتنة لزوجها فوق ما يستطيع , فاكهة حلال دانية بين يديه قطوفها .
تلك ليلة العمر كما يقول النسوة ويروي الناس من مئات السنين. تحمل بعض القلق للفتاة البكر من عالم ضبابي تخشاه , وقلق مضاعف لأبيها , فللشرف معنى محدد يؤمن به ولا يحيد.
وهي مهمة على رغم أنها شاقة إلّا أن النسوة يفعلنها بحب وإخلاص شديدين , لسببين , الأول أنها ليلة فرح قلّما يمر بها المكان وثانيها أن " آمنة " فتاة مدلّلة لأبيها وبين القوم هنا ومن وراءها رزق سيصل إليهن .
بينما النسوة في شُغلهن ينزعن بقايا زغب بجسد العروس , تقف" أم آمنة " ترمقهن من قريب , تلحظهن مؤرقة البال من نافذة صغيرة تُطل " على الحوش " بزاوية وعلى الممر الضيق الذي لا يتسع بالكاد لمرور شخصين متجاورين , يساورها بعض القلق الذي يختلط بسعادة غامرة , فها هي ابنتها الوحيدة ستغادرها إلى عالم جديد , أمر ذكّرها ببدايات حياتها مع زوجها " صبحي " شديد السمرة , فارع الطول , نحيل الجسد ,
وتذكرت أن بمولد " آمنة " فُتح باب من شائعات لم يردّه إلى نهايته إلاّ الزمن , حول مفارقة غير مقبولة بين جمال وبياض بشرة الوليدة وبين قُبح الأب , سيرة لاكتها الألسن بعض الوقت ,بيقين مؤقت قيل أن العرق دسّاس وأن الوليد قد يأخذ صفاته من سابع جد. وهو تفسير مال إليه الأب وتبخّر على إثره بعض قلق داخلي واستراحت إليه الأم وراحت تفتّش في ثنايا عائلتها وزوجها عن نسل أبيض البشرة . ثم نُسيت الحكاية فيما ينسى الناس مشكلات بفعل الوقت. أفاقت الزوجة العجوز على رغم أن عمرها لا تجاوز منتصف عقدها الرابع , لكن للشقاء والفقر أفاعيل تتجاوز طاقة المرء ,
فتغضّن بعض وجهها , وانتثرت على فوديها شعيرات بيضاء تمرّدت على حجابها المتهرئ , تنبّهت على صوت صرخة مكتومة لإمرأة تئن فتركت ما بين يديها وهُرعت قائلة للنسوة وإبنتها : لن أتأخر عليكن , بلاش لكاعة وأنجزن , فعاجلتها " عزيزة" الماشطة : ليلة لا نراها كثيرًا , سنفعل شغلنا على مهل وأسرعي أنتِ إلى عملك.
اقتربت " آمنة " من مكان المرأة الملتاعة لتجد نساء ورجالًا ينتظرونها على أحر من الجمر , تساؤل طُرح عليها بغضب عن تأخرّها , فقالت : لا يزال الوقت مبكرًا على " الولادة " , وأثنت بقولها: بعدين هذا عملي وأنا أدرى به , وألقت بعبارة قاسية بوجههم وهي أعلم بحالهم منهم " لو مش عاجبكم أسرعوا بها لطبيب نساء وتوليد " لكن صكّت وجهها عبارة رقّ لها قلب العجوز " الحقيني يا " أم آمنة " هاموت" , فانطلقت " القابلة " مسرعة للإغاثة الملهوفة وألقت بتعليمات هنا وهناك , فخرج الرجال ينتظرون , النساء يهرولن يمينًا ويسارًا , كانت " أم آمنة" تعرف جيدًا ما تفعل ولطالما فعلت شغلها بمهارة لعشرين عام مضت .
لا يزال " صبحي التربي " يحتفظ بقوته الجسدية , فهو نديم للموت لا يفارقه فعمله مواراة أجساد الناس في نهاية رحلتهم بالحياة , موعظته الحسنة الوحيدة والحكمة التي يؤمن بها أن " إكرام الميت دفنه " , بجوار إكرام الفقيد , يسترزق " صبحي " يعيش مع أسرته بواحدة من المقابر التي هجر جميع أصحابها الحياة , واستقر هو على رؤسهم يحمي بقايا عظامهم ويقيم أسرته الصغيرة.
جلس " صبحي " أو كما يناديه أصحابه " صبيّ عزرائيل " على مقهى صغير على رأس المقابر , ينتظر ولا يطول انتظاره كثيرًا فهو يعلم مبكرًا ولا نعرف كيف تصله الأخبار , أن هناك ضيف سيحلُّ علي المكان خلال ساعات , لعلها شفافية أو صلة بينه وبين السماء .. لكنه اليوم ينتظر أمرين , زفاف ابنته , اختار لها صبيّه " حسن " ووريثه في المهنة , كما اختار لهما سكنًا , قبرًا شيّده أصحابه منذ عشرين عامًا بالطوب الأحمر , له باب حديدي يمنع الهوام وروّاد الليل البهيم , فقام بإعداده بما يناسب حياة ابنته الوحيدة , جميلته التي تنير الدنيا إن أقبلت أو أدبرت .
ثم جنازة لكبير ممن كانت تنحني الأرض من سطوته . سيأتي إليه بعد لحظات بكفنه يحمله أتباعه , لم يخرج من الدنيا إلاّ بكتاب سيلقاه منشورًا , الراحل شأنه شأن أي جنازة تصل إليه مجرد " سبّوبة " لا يملك كلما رأى" صبحي " واحدة مُقبلة عليه , إلاّ أن يقول بصدر منشرح " الحمد لله على نعمائه " ويقول لنفسه بعد أن زال عجبه من سنين كثيرة : ما أطيب أن يكون الموت سببًا للحياة .!
ثم هلّت الجنازة في الأفق قادمة من بوابة المقابر الرئيسة بجوار " المطافي القديمة " يسبقها تهليل المشيّعين , عويل نسوة يسرن خلفها , و وراء الجنازة غبار عظيم حجب الرؤية للحظات , تزامن ذلك مع صراخ انطلق لمولود جديد أقبل على الدنيا وأعلن عن قدومه , بينما من " بيت صبحي " القريب انطلقت مكبرات صوت تحمل أغاني وأهازيج للفرح تختلط بزغاريد نسوة وبعض ضحكات حادة ومقطع مبتور من أغنية شعبية ماجنة " اتدحرج واجري يا رمان.."