حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
الناقدة هبة السهيت
إذا اعتمدنا رأي مارتن هيدجر باعتبار الهيرمينيوطيقا فرعا من الأنطولوجيا فتصبح عملية الفهم مسأله مرتبطة بوجود الإنسان حينئذ تتعلق الهيرمونيطيقا ببنية الوجود التي ترتبط بالكائن عبر فهمه لوجوده، وكذلك يقرر بول ريكور بانتماء الذات المُؤَوّلِه إلة الصيرورة التاريخيه التي يتعذر عليها الإفلات منها.
بناء عليه فيمكن أن نرى في قصة العازف أن النفسُ البشرية بها بئرُ خفية يحملُ حزنا وجوديا، حزنا مقدسا، حزنا قديما، ربما كان حزنُ خروجِها من جنةِ عدنْ؟ ربما كان الحياء من الأكلِ من الشجرةِ تحول إلى حزنٍ عميقٍ يتوارى في أعماقِ النفس.
فما إن يجد هذا الحزنُ المقدس منفثا إلا وفاض، وملأ النفسَ. . إنه ليس بحزنٍ على واقعةٍ بعينها، لكن قد تخرِجُهُ واقعةٌ بعينها.
ونحن هنا في قصة العازف نشاهد هذا الحزن الوجودي الشفيف المِرنان، تتهادي أمواجُه، فالعازف يمر من قبل الكورونا، وسيظل يمر من بعدهِا، لكنه اليوم مع ما فرضَه ُالفيروس من حجر قسري، جرد النفوس من غواشي الوجود الثَرثار، والانشغالات المُلهية، وخفف أستارَ المادة، وكأن الناس في محاريبِ تَعبُّد في بيوتهم، فما إن مرَّ العازف، وتسللت أنغامه، حتى أخرجت النفسُ احزانَها الرقيقة، وتفاعلت مع النغم الحزين، وتاهت في ذكرياتِها، لقد ردها النغمُ إلى ذكريات الماضي الجميل القريب، لتثير أحزانا رقيقة غيرَ مفهومة، إنها الأحزان القديمة، التي تسكن بئر الأحزان في أغوارِ النفس.
لقد تحول العزف والعازف إلى ما يشبه الحلم الرقيق، حيث تقول الكاتبة: "كان العازف قد بدأ يُسرع خطاه ويتسرب كشعاعٍِ يتلاشى عبر امتداد الشارع، وأخذ صوتُ العزفِ يبهتُ ويخفتُ شيئا فشيئا".
ثم يأتي لَحنُ الختام بكلمات الأغنيه الشهيرة: "في ليلة سَرحت في اللي راح، دمَّعت وصِحْيِت الجراح، مبقاش بيساعَك البَراح ، ولا يملا عينيك".
هنا تكتملُ اللوحة، ويكتملُ الحُلم، وتعودُ الأحزان إلى مَكمَنِها في أعماقِ النفسِ لتستقر في أغوارِها.
وهنا تنتهي القصة، أو كنا نود ان تنتهي القصة.
- وقد وصفت الكاتبه هذا اللحن ْبأنَّهُ: "حر عنيد حي" وكان الأولى أن يُوصَف "حانيا، حزينا، منكسرا"
- وإذا عدنا إلى أرضِ الواقع ، فالصورة لشابٍ ثلاثيني موسيقارٍ موهوبٍ يتسول الإحسان في الشوارع ويَقبَلُ الصدقة َمن الناس، ويستخدمُ موهبته ليبيعها بالثمنِ البخس، إنها صورةُ انكسارٍ مجتمعٍٍ، وضياع شبابٍه، وانهيار قيمِه، وتمزق نسيجَهُ، إن مجتمعا يحتاج فيهِ الشباب إلى استخدامِ مواهبهم للتسول لهو مجتمعٌ فقد الثقافة وفقد اإانسانية وفقد التكافل . إنه مجتمع على حافة الانهيار .
لقد كانتْ المفارقة أن القصة عبرت بكلمات رقيقة حزينه وبصورةٍ حالمةٍ جميل عن حالةِ مجتمعٍٍ بالغةِ القُبْحِ والدمامةِ.
ملاحظات على قصة "الآلة الخربة"
بدأت القصة بحادث يتسم بالغرابة، فبطلة ِالقصةِ تشتري بوتاجازات تملأ بها المطبخ بشكل لا إرادي، والبداية تثير الفضول لدى القارئ، فهي بداية موفقة.
- ثم تتداعي الذكريات للماضي عند مشاهدة البابور في ركن المطبخ فتقول الكاتبه: "نظرت إليه بحزنٍ و أسى! تكاد عيناها تفتك به وتحنو عليه في نفسِ الوقت" لتبين سبب هذه المشاعر المختلطة لديها تجاهه، فتحكي عن حب الأبِ للبابور بل عِشقِه له ،لما يَحمِلُهُ من ذكرياتِ الصبا المحببة له. وتبذل الابنة كلَّ وِسعِها لإصلاحِ هذا البابور الخرب، لتعيدَ للأبِ ذكرياتَهُ المحببة، وتتذكر هي الأسرة الدافئة، والأم َّتلك الشجرة الوارفة التي كانت تظلل عليهم من حبِّها، وتُغدقُ عليهِم عاطفتها.
2- لم يتوقف الأمر على أنسنة البابور ، بل تحركتْ الطبيعة معها، فتقول الكاتبة: "ليصلح هذه الآلة الخربة في يوم ممطر شديد البرد. تعلن فيه السماء اعتراضها على سكون الأرض؛ التى استقبلت الدموع القاسية؛ يتبعها صوت نشيج الرعد؛ و يضييء البرق قلوبا طالت عتمتها".
لكن هذه الفقرة مضطربة إلى حد ما، فلا تناسب حالة البطلة وهي تبحث عن الفني لإصلاح البابور للأب المتيم به، فلماذا تعلن السماء اعتراضها على سكون الارض؟ ولماذا كانت الدموع قاسية؟ ولماذا كان الرعد صوت نشيج؟ وقلوب من التي طالت عتمتها؟ فالطبيعة هنا حزينة باكية، والقلوب معتمة.
ليس هناك في البنية السردية ما يبرر هذه الأوصاف، فالمجال مجال بر الوالد، والجهد لتلبية رغباته، فإما أن تتوافق الطبيعة مع هذا البر، أو نجعل الطبيعة قاسية ورغم قسوتها فإن ذلك لم يمنع البطلة من سعيها، فيكون البر مضاعفا، لكن ليست حزينة فلا معنى للدموع ولا النشيج.
وعتمة القلوب لا تتناسب مع بر الوالد من ناحية وطيبة قلب الفني من ناحية أخرى.
ولم تكن عبارة: "وصعدت بروحه إلى السماء؛ التى بكت أمس" بمصححة للخلل الزمني، فبكاء الطبيعة وحزنها يكون بعد الوفاة لا قبلها.
ولكن وعلى غير العاده فسأنحي النقد الموضوعي جانبا وأقول: الكاتبه كتبت هذه القصة بعد وفاة الوالد، من كان منارة حياتها، فتضافرت داخلها كل المشاعر الغاضبه والمختلطة، فأرادت أن يبكي ويغضب كل من حولها، السماء التي صعدت الروح الحبيبه لها، الأرض التي احتضنت الجسد الطاهر، الرعد الذي يبكي بعلو الصوت، ولهذا فقد ينظر لكل التعبيرات المتضاربه بوجهة نظر مختلفه وحانيه وبعيدا عن الموضوعيه المطلقة.
2- جعل السرد من البابور كينونة حية، تتنازع البطلة مشاعر الحب والكراهية له في آن واحد، فهو القاتل الذي قتل الأب، وهو المحبوب الذي أحبه الأب وعشِقَه ُلما يحمل له من ذكريات.
- من هنا تُرجِمَت هذه المشاعر على بِساطِ الواقع بالاحتفاظ به، كمحبوب، وعقابَهُ بشراءِ الأدوات الحديثة التي كانت سببا في الاستغناء عنه، ليراها البابور أمام عينِه ويتعذب بمَرآها.
- لأن البابور حي مؤنسن فهو يرى، ولهذا فهي تعذبه تباعا بشراء أعدائه من البوتاجازات.
- ظن الناسُ أنها تشتري كلَّ هذه البوتاجازات لتجعلها هدية للعرائس الفقيرات، من هنا أخبرتْها البائعة أنها ستتزوج قريبا، إشارة إلى طمعِها في أن تُهديها بوتاجازا.
- انتبهت بطلة القصة إلى ذلك بعد عودتها للمنزل ، ذلك أنها وهي تشترى البوتاجاز تكون تحت وطأةِ مشاعر انتقام تعتمل في اللاوعي منها، وليست في حالة الوعي.
فلما عادت لوعيها تذكرت الفتاة، واتصلت بها، لتهديها أحد تلك البوتاجازات.
- ثم أنشأت مؤسسة خيرية لتجهيز العرائس الفقيرات، ولكنها لم تنسْ ولم تتنازل عن مشاعر الانتقام ممن سلبها أباها في ليلة غدر ، حيث غدر به جزاء محبة الأب له فلما احتضنه الأب، قتله الغادر، بل خنقه؛ فوضعته في بهو المؤسسة داخل دولاب زجاجي.ليشاهد البوتاجازات رائحة وغادية ليعيش (البابور القاتل) في حسرة لا تنتهي.
- جاء تعبير الكاتبه "لكن ذكرياتَهُ الجميلة سبقتها وأرهقت قلبَهُ المليء بالطفولة وصعدتْ بروحِهِ إلي السماء"
تعبيرا موفقا شاعريا ، مفعما بالعاطفة.
- القصة في مجملها جيدة ، مليئة بالعواطف الحزينة ، والمشاعر المختَلِطة، بين الحزن والانتقام، بين الوعي واللاوعي، واللغة متوسطة مناسبة للموضوع، وتخللها استرجاع للماضي، واستخدام الصور كان موفقا في مجمله.
مما لا شك فيه أن طبيعة عمل الكاتبة وإدارتها لصالونها الثقافي الذي يعد من أنجح الصالونات الأدبيه في القاهرة، كذلك تعدد قراءاتها لكل ما يطرح ويناقش في ملتقى السرد العربي، قد أكسبها حسا مرهفا للكلمة ترجمته على الورق بعاطفة رقيقة ومشاعر إنسانية راقية فنجحت في إيصال رسائلها للمتلقي.