الثقافة والإلحاد في الذهنية العامة.. وكتاب "سفر الإلحاد" الشيوعي

  • حاتم السروي
  • الإثنين 15 يوليو 2019, 5:09 مساءً
  • 1944
ماركس أشهر ملحدي العصر الحديث

ماركس أشهر ملحدي العصر الحديث

لم يعد للشيوعيين العرب وجود لافت ومؤثر كما كان في السابق، تلك حقيقة لم تعد مجالاً للمناقشة ويشهد عليها الشيوعيون أنفسهم، على أن وجود الشيوعيين وإن كان قد تقلص من الناحية السياسية فهو في المشهد الثقافي أمرٌ واقع ونحن نجد كتاباتهم أصحاب إنتاج غزير وقوي وشهرة في الأوساط الثقافية وحتى على مستوى رجل الشارع.


والسؤال الآن هل صحيح أن الشيوعيين الذين تغلب عليهم وصمة الإلحاد في الذهنية العامة لدى الشعب المصري هم دعامات الحركة الثقافية وأن الثقافة خارج إطارهم تقريباً ليس لها وجود، وهل صحيح أن الإلحاد يفشو وينتشر بين المثقفين؟


وتاريخ الثقافة المصرية يعطينا الإجابة واضحةً وشافية ولا تترك أي مجال للحيرة؛ حيث نرى أغلب كتابنا يقدسون الدين وتعاليمه وينافحون عنه وما كان مصطفى صادق الرافعي وعلي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار إلا أمثلة في سياق أدبي يغلب عليه احترام الأديان السماوية جميعاً والإيمان العميق بالإسلام والانطلاق من هديه وتوجيهاته، وأمامنا مئات الكتب التي وضعها مثقفونا لخدمة الإسلام؛ فهذا عبد الرحمن الشرقاوي صاحب رواية الأرض يكتب "محمد رسول الحرية"، و"الحسين ثائرا"، و "الحسين شهيدا"، و"ابن تيمية الفقيه المعذب"، كما يؤلف توفيق الحكيم رحمه الله مسرحية بعنوان "محمد" وكتاب "أرني الله"، ويكتب عبد الحميد جودة السحار موسوعة كاملة بعنوان "محمد رسول الله" ويضع السيناريو بالاشتراك مع غيره لفيلم "الرسالة" الذي أخرجه الراحل مصطفى العقاد، كما يكتب عن المسيح عيسى بن مريم وعن الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز..إلى آخر قائمة الكتب التي عبرت عن ارتباط الثقافة مع الدين وليس العكس.


أما عن الشيوعية فإن الدارس لفلسفتها في بعديها التاريخي والجغرافي يلحظ فريقين كلٌ منهما يتهم الآخر بالتدليس وتزييف الحقائق، والفريق الأول يعتقد أن الشيوعية والإلحاد توأمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وهذه التوأمة هي صنوية متماثلة بحيث يمكن القول أن الشيوعية هي الإلحاد وربما كان الإلحاد هو الشيوعية، ولأن الإلحاد قد يوجد عند غير الشيوعيين فمن الخطأ البيِّن إطلاق القول بأن الإلحاد هو الشيوعية، لكن القول بأن الشيوعية فلسفةٌ ملحدة هو الرأي السائد عند الأكثرية وفي سياق التدليل على هذا المعنى لا تعوزهم العبارات من صلب كتابات ماركس الذي قال بصريح العبارة "الدين أفيون الشعوب" ورفيقه فردريش إنجلز، ولينين زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفيتي، والمانفستو الشيوعي وكذلك ما يسمى بـ "سِفر الإلحاد" الذي شارك في تأليفه لفيفً من الفلاسفة والعلماء الملحدين في أكاديمية موسكو أيام الاتحاد السوفيتي، ليس هذا وحسب فإن الكتب التي عنيت بسيرة ماركس وبيان مذهبه أكدت أنه كان من كبار الملحدين وهذا ما نراه عند "ألكسندرا استيبانوفا" في كتابها عن ماركس والصادر عن دار التقدم بموسكو التي عملت على تقديمه للقراء العرب في نسخة مترجمة بغلافٍ جذاب ولغة عربية دقيقة.


ويعد كتاب "سفر الإلحاد" مثال شديد الوضوح يدعم بنسبةٍ كبيرة الرأي الذاهب إلى اعتبار الشيوعية تستلزم الإلحاد ويجعل موقف أعضاء اليسار في غاية الحرج؛ فالكتاب تمت تسميته "سفراً" وهو بكسر السين وتسكين الفاء يعني كتاباً غير أنه يستخدم للدلالة على الكتب المقدسة عند المسيحيين، وبذلك يكون الكتاب قد وُضِعَ نكايةً في المسيحيين الروس ومحاولةً لإحلال المادية محل المسيحية الأرثوذكسية التي يدين بها الكثيرين من أبناء روسيا وإن شئت فقل هو محاولة للرد على الكتب المقدسة جميعاً والتبشير بالإلحاد عوضاً عن الإيمان بالإله الخالق، وقد اعتبر الشيوعيون "سفر الإلحاد هو إنجيلهم وأنشأوا له دعاية جبارة في الراديو والصحف والتلفزيون ثم طبعوه مراراً بل وترجموه إلى عدة لغات.


وعلى النقيض من هذا الرأي دافع الشيوعيون عن أنفسهم وقالوا بأن وصمهم بالإلحاد هو محاولة من المستغلين والرأسمالية المتوحشة لاغتيال سمعتهم وتحطيم صورتهم عند العامة والطبقات التي يدافعون عنها وعرقلة مسيرتهم الإنسانية، وهذا الرأي لم يجد قبولاً إلا في النادر ولم يعول عليه إلا الشيوعيون أنفسهم أو من يتعاطفون معهم، وكان من حيثيات هذا الرأي أن ماركس في نظر الشيوعيين لم ينشغل أصلاً بمسألة الإيمان لا سلباً ولا إيجاباً ولم تدخل قضية وجود الإله في إطار خطته الفكرية بل كان هدفه يتمثل في القضاء على التفاوت بين الطبقات وتحقيق المساواة بين الناس بعد توزيع للخيرات فيما بينهم يتسم بالعدالة والنزاهة والشفافية.


على أن دفاع الشيوعيين عن أنفسهم لم يدفع بعض المثقفين إلى التراجع عن الدعوة إلى إيجاد نخبة جديدة لا ترتبط بالتوجهات اليسارية ولا تنطلق منها؛ ذلك أن هذه التوجهات لا تقف أمام التدين في موقف تحدي وتصمه بنشر الغيبوبة وإشاعة الوهم فحسب بل إنها تعتقد أن الأخلاق نسبية وأن المبادئ تختلف من مجتمع لآخر  ومع اختلاف الزمان أيضاً، وأن الأسرة اختراع بشري يهدف إلى تدعيم الملكية الخاصة والحفاظ عليها، ولو طبقنا هذه المفاهيم فإننا سنكون بصدد أكبر عناصر هدم للمجتمع.

وسواء كانت الشيوعية موقفاً إلحادياً كما يبدو لمعظم الناس، أو أنها ترى الإيمان جزءاً من الحرية الشخصية كما يحاول الشيوعيون أن يروجوا عن أنفسهم؛ فإن المطالبة بثقافة حرة بعيدة عن التصنيفات والانطلاق من الأيديولوجية والتخديم على مذهب فكري معين باتت أمراً ملحاً، وهذا ما تعمل عليه جداريات التي تنشد ثقافة رصينة تعبر عن الهوية العربية والمصرية وتبتغي وجه الحقيقة متخذةً من البحث بمفهومه العلمي المنضبط غايةً لمعرفة تخدم الإنسان ولا تخدم الأحزاب.



تعليقات