في ذكرى ميلاد رفاعة الطهطاوي.. اعرف منه عادات أهل باريس

  • جداريات 2
  • الخميس 15 أكتوبر 2020, 08:09 صباحا
  • 9542
رفاعة الطهطاوي

رفاعة الطهطاوي

تحل اليوم ذكرى ميلاد رائد التنوير والترجمة الشيخ رفاعة طهطاوي التي توافق 15 أكتوبر من عام 1801، والذي سافرإلى فرنسا فيما بعد وكان واحدا من أعلام النهضة المثرية في عهد محمد علي، بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
من أهم مؤلفات الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وقد ألفه وهو في باريس، ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي، وهنا نختار للقارئ مفتبسا من الكتاب حول مشاهدات الطهطاوي في باريس وهو بعنوان: "في أغذية أهل باريس وفي عاداتهم في المآكل والمشارب"

اعلم أن قوت أهل المدينة هو الحِنطة، وهي في الغالب صغيرة الحبوب، إلا إذا كانت منقولة من البلاد الغريبة فيطحنونها في طواحين الهواء والماء، ويخبزونها عند الفران فيباع الخبز في دكانه، وسائر الناس لها مرتب يومي تشتريه من الخباز، وعلة ذلك توفير الزمان والاقتصاد فيه؛ لأن سائر الناس مشغولون في أشغال خاصة؛ فصناعة العيش في البيوت تشغلهم.

ثم إن المحتسب يأمر الخبازين أن يكون عندهم كل يوم من العيش ما يكفي المدينة وفي الحقيقة لا يمكن فقد العيش أبدًا بمدينة باريس، بل ولا فقد غيره من أمور الأغذية.

وأدم أهل هذه المدينة اللحوم والبقول والخضراوات والألبان والبيض وغيرها، والغالب تعدد الأطعمة ولو عند الفقراء، ثم إن المذابح عندهم تكون بأطراف المدينة لا داخلها، وحكمة ذلك أمران: دفع الوخم، ودفع أضرار البهائم إذا انفلتت، وكيفية الذبح تختلف عندهم، فأما ذبح الضأن فإنه أهون من ذبح غيره، فإنهم ينفذون السكين وراء زوره يعني بين زوره ورقبته، ثم يقطعونه بعكس ما نفعل، وأما ذبح العجول فإنه مثله، وأما الثيران فيضربونها بمقامع من حديد في وسط رأسها فيدوخ من عِظم الخبط، ثم يكررون ذلك عدة مرات، فيقطع الثور النفس مع بقاء الحركة، ثم يذبحونه كما تقدم من ذبح الضأن، ولقد بعثت خادمًا لي مصريًا إلى المذبح ليذبح ما اشترى منه كما هو عادتي، فلما رأى معاملة الثيران بمثل ذلك الأمر البشع جاء يستجير، ويحمد الله تعالى؛ حيث لم يجعله ثورًا في بلاد الإفرنج، وإلا لذاق العذاب كالثيران التي رآها، والعجول والثيران تكون من البقر؛ إذ لا وجود للجواميس بهذه البلاد إلا للفرجة.

وأما ذبح الطيور فإنه على أنواع مختلفة: فمنهم من يصنع فيها كالغنم، ومنهم من يقطع لسان الطائر، ومنهم من يخنقه بفتلة خيط، ومنهم من يذبحه من قفاه إلى غير ذلك.

وأما الأرانب فإنها لا تذبح أبدًا، بل تخنق ليحقن فيها دمها.

وأما ذبح الخنازير فلم أره؛ لأن له مذبحًا مخصوصًا، والظاهر أنهم يصنعون بها كالعجول، ثم من الأمور التي بها راحة للناس بمدينة «باريس» محال الأكل المسماة «الرسطراطور» أي «اللوكنجة»، فإنها مستوفية لما يجده الإنسان في بيته بل أعظم، وقد يجد الإنسان ما يطلبه حاضرًا، وفي هذه «الرسطراطور» غرف لطيفة متعددة مستوفية لآلات البيوت، وربما يوجد فيها محال للنوم مفروشة بأعظم الفراش، وكما يوجد في «الرسطراطور» أنواع المآكل والمشارب يوجد فيها أنواع الفواكه والنُقَل.
وعادة الفرنساوية الأكل في طباق كالطباق العجمية أو الصينية، لا في آنية النحاس أبدًا، ويضعون على (السفرة) دائمًا قدام كل إنسان شوكة وسكينًا وملعقة، والشوكة والملعقة من الفضة، ويرون أن من النظافة (أو الشلبنة) ألاّ يمس الإنسان الشيء بيده، وكل إنسان له طبق قدامه، بل وكل طعام له طبق، وقدام الإنسان قدح فيصب فيه ما يشربه من (قزازة) عظيمة موضوعة على (السفرة) ثم يشرب فلا يتعدى أحد على قدح الآخر.

وأواني الشرب دائمًا من البلور والزجاج، وعلى السفرة عدة أوان صغيرة من الزجاج أحدها فيه ملح، والآخر فيه فلفل، وفي الثالث خردل إلى آخره.

وبالجملة فآداب سفرتهم وترتيباتها عظيمة جدًا، وابتداء المائدة عندهم (الشوربة) اختتامها الحلويات والفواكه، والغالب في الشراب عندهم النبيذ على الأكل بدل الماء. وفي الغالب، خصوصًا لأكابر الناس، أن يشرب من النبيذ قدرًا لا يحصل به سكر أصلاً؛ فإن السكر عندهم من العيوب والرذائل، وبعد تمام الطعام ربما شربوا شيئًا يسيرا من العرقي، ثم إنهم مع شربهم من هذه الخمور لا يتغزلون بها كثيرًا في أشعارهم، وليس لهم أسماء كثيرة تدل على الخمرة كما عند العرب أصلاً، فهم يتلذذون بالذات والصفات، ولا يتخيلون في ذلك معاني ولا تشبيهات ولا مبالغات، نعم عندهم كتب مخصوصة متعلقة بالسكارى، وهي هزليات في مدح الخمرة، لا تدخل في الأدبيات الصحيحة في شيء أصلاً.

ويكثر في «باريس» شرب الشاي عقب الطعام؛ لأنهم يقولون إنه هاضم للطعام، ومنهم من يشرب القهوة مع السكر، وفي عوائد أغلب الناس أن يفتتوا الخبز في القهوة المخلوطة باللبن، ويتعاطوها في الصباح — وإذا أردت بعض شيء يتعلق بالمأكل والمشرب فراجع فصل المآكل والمشارب في ترجمتنا كتاب: «قلائد المفاخر».

ثم إن الغالب أن ما يقطعه أهل هذه المدينة من المآكل والمشارب كل سنة يكون هذا تقريبه، فمن الخبز ما تزيد قيمته على خمسة وثلاثين مليونًا من الفرنكات، وتأكل من اللحوم نحو واحد وثمانين ألف ثور، وأربعمائة وثلاثين ثورًا، ومن البقر نحو ثلاثة عشرة ألف بقرة، ومن الضأن أربعمائة وسبعين ألف كبش، ومن الخنازير الوحشية والأهلية نحو مائة ألف خنزير، ومن السمن بنحو عشرة ملايين من الفرنكات، ومن البيض بنحو خمسة آلاف فرنك.

ومن غرائب الأشياء أن فيها التحيل على عدم عفونة الأشياء التي من شأنها العفونة؛ فمن ذلك ادخار اللبن بكيفية خاصة خمس سنين من غير تغير، وادخار اللحم طريًا عشر سنوات، وادخار الفواكه لوجودها في غير أوانها، ومع كثرة تفننهم في الأطعمة والفطورات ونحوها، فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة، ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ.

وأما خماراتها فإنها لا تحصى؛ فما من حارة إلا وهي مشحونة بهذه الخمارات، ولا يجتمع فيها إلا أراذل الناس وحرافيشهم مع نسائهم، ويكثرون الصياح وهم خارجون منها بقولهم ما معناه: الشراب، الشراب! ومع ذلك فلا يقع منهم في سكرهم أضرار أصلاً.

وقد اتفق لي ذات يوم وأنا مار في طريق في «باريس» أن سكران صاح قائلاً: يا تركي، يا تركي، وقبض بثيابي، وكنت قريبًا من دكان يباع فيه السكر ونحوه، فدخلت معه، وأجلسته على كرسي. وقلت لرب الحانوت على سبيل المزح: هل تريد أن تعطيني بثمن هذا الرجل سُكْرًا أو نُقَلاً؟ فقال صاحب الحانوت: ليس هنا مثل بلادكم، يجوز التصرف في النوع الإنساني؟ فما كان جوابي له إلا أنني قلت: إن هذا الشخص السكران ليس في هذا الحال من قبيل الآدميين، وهذا كله والرجل جالس على الكرسي، ولا يشعر بشيء، ثم تركته بهذا المحل وذهبت.

تعليقات