السيد خلف أبو ديوان يكتب: شعرية السرد وتوظيف الرمز في لغة "العازف"

  • أحمد عبد الله
  • السبت 10 أكتوبر 2020, 00:06 صباحا
  • 954

إهداء (غادة) خاص؛ يهتم بكل تفصيل منذ البدء مراعيا بعض المؤثرات حتى في الغلاف، يزيد خصوصية حين يقطع المشروع العام أغنية خاصة في موقف معين، بل قد يتجاوز التخصيص ذلك إلى كلمات بعينها من قصيدة مغناة، معللة اهتمامها بتلك الهوامش المتينة التي تجلب لها الحب والسعادة.

ويتضح في الإهداء الأثر الموسيقي في بناء شخصية الراوي/غادة التي راعت الجانب الواقعي في رسم شخصياتها لتبدو مجموعتها/معزوفتها في مستوى العامة والخاصة غيرَ متكلفة؛ لم يغب عنها مستويات التلقي كافة في  سبعَ عشرةَ لوحة سردية، لم يظهر فيها مسند ولا مسند إليه؛ جاءت جميعا مفردات بين الكلمة والتخصيص بالوصف أو الإضافة، عليها مراعاة المغايرة في المجموعات القادمة.

ففي (العازف) تدرك أن (سلمى) على الرغم من التنوع الذي كفله لها زخم الأحداث المتسارعة في أثناء الوباء ترى الحياة مع الحجر سجنا حقيقيا. وإن كان الراوي كثير التدخل في توجيه مسار الأحداث وإصدار الأحكام الكلية بعد عرض مأساوي بتقريرية كان يمكن العدول عنها وإشراك المتلقي مع المبدع بأداة استفهام عندما عولت على خبرية النتيجة الآتية: "واشترك الوباء والبطالة والجوع في تحويل حياة البسطاء إلى جحيم".

وتستطيع أن ترى في العازف إلى أي مدى كان التطلع إلى الحرية والرغبة في التحرر من القيود سلوكا رشيدا؛ فعندما "خرجت سلمى إلى الشرفة" كانت تبحث عن متنفسا لمشاهدة العالم العاجز عن المواجهة بكل حضارته المادية وتعريته. وفي قصة عريس من الخيال" تخيل أمه تمر بفستانها الأبيض عبر هواء الغرفة وتمد يديها للقمر". وتضمنت إجراءات ذلك الخروج الحيرة والأسئلة والمونولوج  وإن جاء الأخير/ حديث النفس مباشرا، ومع هذا تتشبث بـــ (آلة خربة) كأن الآلة البدائية آخر علاقة لها بماض لن يعود.

فترى هذا الملمح الكلاسيكي يتضافر مع تكوين الراوي الرومانسي ليقدم الواقعية Realism في لغة حية سهلة تنوعت كما وكيفا، ومكانا وزمانا، في مراحل عمرية مختلفة، تمارس طقوسها، ولا تتنصل من الجذور. وإن اصطدمت بالفتور القاتل الذي ينسج ملامحه العبثية في (أم دليفري)، عذرها أنها تبحث عن الحياة "ولم يعد من حبهما القديم إلا وثيقة الزواج". والقدم هنا يرمز إلى الموت وبرود العاطفة وجمود كل شيء.

لكن يحمد لها- والمحمود كثير- توصيل الحيرة والتردد إلى المتلقي في صراع أجادت بثَّ نوازعه وعرض دوافعه، نشب بين الــــ(أنا) والــــ(هُم)، خمد بانتصارها- بعد لأي وتأنيب ضمير وخوف على مشاعر ابنها وبنتها- لكرامتها. وحسمت الصراع؛ "لتبدأ مرحلة جديدة بها بعض الاستقرار".

ومن السرد الشاعري ما جاء على لسان (ريهام) حين قالت: " تذكرتُ يوم ذهبت إلى عم ميمي ليصلح هذه الآلة الخربة في يوم ممطر شديد البرد، تعلن فيه السماء اعتراضها على سكون الأرض التي استقبلت الدموع القاسية، يتبعها صوت نشيج الرعد، ويضيء البرق قلوبا طالت عتمتها".

موافقة عجيبة بين خراب الآلة وسكون الأرض من وجه، والذهاب إلى المُصلِح (ميمي) وهطول المطر من آخر. والمطر المساقط زخات باردة لتعميق أثر الحاجة إلى إصلاح (البابور)؛ لمواجهة نارِه المطرَ ودفئِهِ البردَ ووشيشِهِ الهزيمَ. فهل قصدت غادة شيئا من ذلك؟ سيان؛ فاللغة تفكر مع المبدع، ولا يحاسب صاحب النص إلا على قصدية واحدة.. نعم يا سادة، واحدة فقط، هي قصدية إنتاج الحروف وتخليصها إلى فن بعينه لحظة الكتابة.

وبعيدا عن الموافقات والمفارقات فإنها في مختتم موسيقي مهيب لجملتها الشاعرية ترقص طربا على إيقاع المطر المتجاوب خبنا وقطعا مع (بحر الخبب) الذي يحاكي وقع حوافر الخيل:

 ويضيـــ /ءُ البرْ  /قُ قلو/ بًا طا/  لتْ عتـْ/  مَتُها

///0  /0/0    ///0   /0/0    /0/0    ///0 

ربما كان منتوج صحبتها مع رئيس (ملتقى السرد) وصاحبة (دار أفاتار) سردا شاعريا يستر من وراء حجاب أياديهم البيضاء(د. حسام عقل- د. زينب أبو سنة) تاركة صوت البابور تغلغل داخل قلب أبيها المحرك غير المرئي لسلوكات ابنته غادة.

ومثل ذلك تعجب (إنجي) في (المشاكس) من الفانوس الذي يعادله موضوعيا البشر: "يا ربي! حتى الفانوس تغير شكله، بمرور الزمن، وكبر حجمه كما كبرنا نحن!". ولا يخفى عن باحث عن الجمال الخالد مآل الحال وخروج المرء من طور إلى آخر بحركة تتشابه شكلا وأثرا في أثناء دعك/فرك الفانوس أو الثياب/ الأحزان، وكثير من الناس – حتى الذين على البر- مدعوكون في الهموم " وهم يغسلون أحزانهم في البحر". لم يسلم من أجواء الحزن أحد!، حتى العازف" بدا حزينا منكسرا، ينفخ وسط الألحان الجميلة أساه...بدأ يسرع خطاه ويتسرب كشعاع يتلاشى عبر امتداد الشارع...وضع مبسم الساكسفون بين شفتيه، نفخ أوجاع روحه عبر المواسير النحاسية النابضة بالجمال، خرج اللحن حرا عنيدا حيا".

وقد صاغت الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا  Julia Kristeva مصطلح التناص Intertextuality  للوقوف على النصوص المتداخلة وفقا للسياق التفاعلي لبيان حد السرقة والاقتباس، وكان حريا بكل مبدع ألا يهمل قيمة الربط النصي خاصة حين يشير إلى قضية السرقات.

كانت غادة في بعض القصص تترك مكانها لأحد أبطال مجموعتها ليروي بضمير المتكلم مقتربا من قدرة امتلاك أدوات السرد Narratology  التي تعنى ببنية القص Narrative وأنواع الراوي Narrator  في صنع الأحداث وتحريكها.

 في(رسالة غامضة) وظفت التكثيف والرمز لخدمة المأساة بعد تنامي الأحداث وتبئير رومانسية العلاقة في تسلسل منطقي مثير يخضع للضرورة والسببية في خط فني خاص اختصرت به المسافات، وزللت به العقبات، وفتحت من زوايا الخوف والترقب بابا مشرقا يطل على الحياة المثلى، دون أن تبتني قصورا في الرمال، فشيدت صرحا نورانيا شفيفا جميلا على خطى الواقعية، سرعان ما عاجله القدر في ذروة السعادة، بعد أن قرر رأفت مغادرة بور سعيد والاستقرار في القاهرة للارتباط برشا "وتشكَّلت تلك الليلة الفارقة عندما سمعت صوت رسالة الماسنجر، وطار قلبها فرحا، هرعت إلى الهاتف، فوجدت رسالة من صديق لرأفت: البقاء لله.. مات قلبك في حادث سير".

لو قال صديقه: (مات رأفت) لمَا عمَّق المأساة؛ فوعيه بأن (رأفت) قلبُ (رشا) فيه فلسفة عزاء من متعاطف، وليس مجرد نبأ وفاة يتخلص منه رسول نعِيٌّ.

في (الشبح) بعد توبيخ أهل لمياء لزوجها واستفزاز رجولته يتعامل معها بهمجية مغتصب، فتنجب(ندى)، وفي جريمته الثانية أنجبت(سمر)، وعاد كل منهما إلى غرفته، وظلا هكذا حتى مات، فأجادت وصف مشهد موت منجب ابنتيها في محطة قطارات رمسيس غامزة المهملين والمسئولين هنا وهناك، لكنها جعلت الفاجعة استجابة سريعة لدعائها عليه، ولم تشعر بالأسى لأجله، وأحست أن صدرها يتسع لمزيد من الهواء.

ثم ارتدت فستانا أحمر وتزينت وتعطرت، وحضنت عيناها الكحلَ "غير أن المرآةَ عكستْ ذلكَ الشبح"، لتنتهي قصتها بجملة عبقرية تفتح أبواب الميتافيزيقا مشرعة لكل تأويل في انزياح عن عرَض الرعب المعهود إلى جوهر الفن الخالص؛ إيمانا بقيمة المأمول المتخيل وحقه في هدم أطر النمطية المقيتة والتكرار المعيب. وقد لجأت إلى فانتازيا الدهشة في سكتة عن القص ليسبر المجتمع بخيالاته ما يحرك به الذهن الجمعي الصور الحسية المتكئة على ميتافيزيقا الوعي والخيال المحض، وفيها التحام مقبول مع نظائرها في الآداب العالمية التي تفوقت في ابتكار الرعب المثير.

وقد حالفها التوفيق غير مرة في اختيار أسماء أبطال القصص، من ذلك: في قصة (أمسية ثقافية) أو صالون ثقافي (أمين فكري) لص يدَّعي أنه مؤلف رواية الواشم، فكان له من اسمه النصيب المعكوس؛ حيث افتقد الأمانة، ولم يكن من فكره إلا السرقة والاحتيال. على حين كان لــ (منصور الكاشف) صاحب الرواية نصيبا من اسمه؛ فقد نصر أمام الناس في الأمسية، وكان سببا في كشف اللص المدعي الواهم.. وهكذا.

 ومن طرائف العازف استخدام مفردات عصرية (اللاب توب- الفيس- الواتس- اليوتيوب- طلبات الصداقة- الكمبيوتر- الماسنجر- الساكسفون- البوتجاز- بابور- جاتوه- باتون ساليه- أوركيدا...).  وربما كان الأصوب من قولها: "وانتقل البابور من المطبخ ليوضع في بهو المؤسسة داخل دولاب زجاجي". عند النظرة الأولى القريبة المألوفة أن يقال: نُقِلَ البابور بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأن الآلة لا تنقل نفسها. لكن المسوغ هنا أن البابور(غير العاقل) هو بطل القصة الرئيس، فاكتسب ببطولته العقلانية ليختار ويؤثر وينتقل، أو على أقل تقدير يدفع المحيطين إلى تنفيذ رغباته.

وفي مناسبات قليلة لم تناسب اللغة في بعض ألفاظها عاطفة أبطالها، فالأم الدليفري التي تشبه الوجبات الجاهزة، وتهجر أولادها لا يمكن أن تقول: "أنتم من الآن في معية أبيكم"؛ حيث لا يتسق الهجر والتخلي وما يثيرانه من دلالات تصب في حظوظ النفس والأنانية مع دلالات العطف والرعاية وتغليب النزعة الإنسانية في لفظة(معية).

أزيدكم من السحر حبلا: إسناد شحنة المعية إلى الأبوة يخرج بالحدث الأصلي عن مراده، ويحطم الصورة الذهنية للأم الدليفري، تلك الوجبة الجاهزة التي تحولت دون قصد فجأة بلا مبرر إلى شيخ جامع، وكان يمكن قبول العبارة على هذا النحو إذا وردت مثلا في مشهد احتضار الأم، أما في غيره فيقال: (أنتم من الآن مسئولون من والدكم)؛ إذ لا يمكن لعَجُول تخاطب المثنى بضمير الجمع أن تتأنى وتتأنق في انتقاء المعية وإضافتها إلى الأبوة.

وهنا نقرر أمرا مهما للتاريخ: "الشاعر أكثر حظا من السارد"؛ فالشاعر يأتي بالمعنى وفي رأسه آلاف المعاني غير مسئول عن إيضاح رؤيته، وليس عليه أن يجيب أسئلة توجه إليه عن دلالة أو معنى، حتى في أخطاء النحو واللغة من باب "علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا"، على نقيض القاص والروائي.

لذا؛ أرى حتمية تدخل النقد العادل الحكيم؛ لإنصاف المبدع في كل فن وعدم مطالبته بتفسير ولا تأويل. فبعد أن يترك المبدع قلمه أو ريشته أو فرشاته أو إزميله يصبح النص/العمل من حق الجماهير.

تعليقات