د. خالد فوزي حمزة يكتب: ذكريات عن الشيخ المحدث محمد بن علي آدم الإتيوبي

  • أحمد عبد الله
  • الجمعة 09 أكتوبر 2020, 02:45 صباحا
  • 7771

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه....

أما بعد.. فمن مدرسي دار الحديث الخيرية بمكة: الشيخ محمد بن علي آدم.

وهو العالم الرباني الفاضل المحقق المدقق محدث مكة بل الحجاز كله: محمد بن علي آدم، درس عدة سنوات في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة، ومؤلفاته الكثيرة والعظيمة تنبئ عنه وعن منزلته العالية في العلم، وإنما ألتقط بعد الذكريات ههنا عنه رحمه الله.


كان الشيخ وقت تدريسي بالدار طالباً، حيث لم يكن معه شهاداته، وكانت شهرته العلمية تسبقه، وكلمني الشيخ علي عامر عقلان رحمه الله ناظر وقف دار الحديث الخيرية آنذاك ومديرها أنه سيرفع اسمه للمجلس الأعلى ليدرس بالدار، وعليه ضعه في جداول التدريس بالمرحلة الثانوية، حيث كان بها تدريس صحيح البخاري، وكان الشيخ يحب أن يدرسه.


ثم بدأ الشيخ في التدريس في مسجد الدار ليلاً، وأذكر أن الشيخ علي عامر قال أريد أفرغ نفسي وأحضر دروسه.


بدأ الطلاب يلتفون حول الشيخ ويقرأون عليه، وحببهم فيه دماثة خلقه جداً، وكان الشيخ قد بدأ يشمر الساعد عن التأليف، لكن خطه كان أشبه بخطوط المخطوطات القديمة، فصعب على الطلاب، فعرَّفته بالشيخ سيد بندق والذي هيأ له الحاسب (جهاز الكومبيوتر) بحيث إذا فتح يجد برنامج الوورد مفتوحاً فيكتب، وعلمه فقط الحفظ والفتح والإغلاق، ولم يزل معه حتى أتقن الشيخ ذلك، ومن هنا انطلق في مؤلفاته بالكتابة على الحاسب، ورغم معاناته في الكتابة على لوحة المفاتيح؛ إلا أن مثابرته وجلده أدى به إلى إخراج عشرات المجلدات، فجل وقته في الكتابة، وقد كان جاراً لي عدة سنوات، نسكن معاً في عمارة الشيخ علي عامر بحي الهنداوية، فكان نعم الجار، ففي الصباح يأتي إلى الدار، ويرجع بيته يكتب، ويخرج لصلاة العصر ويرجع يكتب، ويذهب لدرس مسجد الدار ويرجع ليبدأ يومه بعد صلاة الفجر، وهكذا.


شحن وقته بالعلم، وكان وقت فراغ خصصه بالدار يصحح ما كتب وطبع، أو يكون بالمكتبة يبحث ويكتب، وكان أول الأمر لا يأخذ أي مقابل ممن يطبع مؤلفاته، ولكنه رأى القول الآخر أوفق له، فقد قال لي يوماً، وجدت نفسي أتكلف الورق والحبر وكلفة الجهاز ولا أجد مالاً لذلك، فأخذ المقابل ليستمر في التأليف، وكان صبوراً على شظف العيش.

كان أكبر أولاده عبد الجليل، ولاطفته يوماً فسألته: هل من أسماء الله: (الجليل)؟، فقال كان هذا اختيار أبي رحمه الله، وما عارضته، وولد له بعد ذلك بقية الأولاد، لكن أذكر أنه أسمى ابنته (مكية)، والأخرى (طيبة)، فقال الشيخ محمد شحاته وكان جارنا أيضاً، أخاف يسمى الثالثة (تبوكية)!! والشيخ يبتسم دوماً، ولا يحمل في صدره على أحد.


لما بدأ الشيخ في شرح النسائي كان حريصاً على لقاء الدكتور فاروق حمادة الذي حقق بعض كتب النسائي، فربت له لقاء له معه في بيت الشيخ الدكتور عبد الله الموجان، واستمتع الحضور بالملحوظات العلمية المتبادلة بين الاثنين، وقد أخذ الدكتور فاروق على الشيخ طريقة التأليف على نهج الأولين بلا هوامش التوثيق، والشيخ يقول لعله في الطبعات اللاحقة، بعد أن أكمل الجمع والترتيب، وليت طلبة العلم يقومون بهذا الذي أراد الشيخ رحمه الله.


وقد اعتمد الشيخ في شرحه النسائي على مخطوطات أيضاً، وأذكر لما تعانيت تدريس أحاديث مختارة من سنن النسائي بكلية الحرم، في مذكرة أسميتها: (إعلام السامع والرائي بشرح ثلاثين حديثاً مختارة من سنن النسائي)؛ فقد وقفت في التعريف بالسنن على ترجمة النسائي (كتاب التطبيق) فتعجبت، فإن الإمام النسائي كتب كتاب الافتتاح: أي افتتاح الصلاة، وهي من التراجم التي انفرد بها، وقد أورده بغد كتاب القبلة، وكتاب الإمامة، وقد ذكر في كتاب الافتتاح بدايات الصلاة من أبواب افتتاح الصلاة ورفع اليدين في التكبير، وأذكار الافتتاح، وقراءة الفاتحة، ومواضع سجود التلاوة، والقراءة في الصلوات، والركوع. ثم أعقبه (كتاب التطبيق)، وقد ذكر فيه آخر الصلاة من بعد الركوع، أبواب الرفع والسجود وحتى التشهد. وبعده كتاب السهو]، فشعرت أن كتاب التطبيق كالمقحم بين تيك الكتب، وكذا فالتطبيق منسوخ، ولا يخفى ذلك على إمام في جلالة النسائي، ثم الأحاديث فيه ليس كلها في ذلك، وكنت بعيداً عن الشيخ آنذاك، فأرسلت السؤال مع الشيخ عبد الله شلبي، فسأله فأفاد الشيخ أنه وجده في بعض المخطوطات: باب التطبيق، وليس كتاب التطبيق، فانتفى العجب ببركة حواب هذا الحبر، والحمد لله.


ومما وصل للشيخ من النعمة في هذا الكتاب، أني سمعت الشيخ صالح الفوزان لما زار دار الحديث يقول للشيخ محمد آدم: نستفيد من شرحك للنسائي، فابتسم الشيخ، ولم يزد على ذلك، فقد كان كثير التواضع جداً.


ربما تكون محاضرة الشيخ عقب محاضرتي في القسم العالي، فلعله أستمر بعد انتهاء الوقت دقيقة أو أكثر، وأخرج فيبتسم لي ويقول: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، ومما يذكر له فيحمد أنه دوماً في محاضراته يكون على باب الفصل مع بدء الوقت تماماً في حين ربما تأخر غيره في الانتقال لمكان المحاضرة.


وكان الشيخ حاضر الفكر فيما يعرض عليه، سألته مرة عن (عمار بن أبي حسن)، وكان الاسم محرفاً في النسخة التي كانت معي، فقال لا أعرفه، إلا أن يكون (عمارة)، وبحثت فوجدته كما قال. وأذكر أن بعض المشايخ وقت اجتماعنا للتصحيح سأل عن علة أن النبي عليه السلام قال (أكرموا عمتكم النخلة)، فقلت له: لا يصح، فالتفت لي الشيخ محمد آدم، وقال بل موضوع، وكان لا يحب الدخول في جدال مع ذاك الشيخ لكبر سنه، فربما ترك هذا لي، وأيضاً كان يحثني على مناقشة بعض مشايخ الدار، كما فعل معي أول قدومي الدار مع الشيخ إدريس فكان الشيخ محمد آدم يحب منازعته، لكن لا يواجهه غالباً، بل ومرة جعلني واسطة في ذلك، يقول سله عن كذا، وقل له كذا، وكنت شاباً أستمتع بالفائدة من الإثنين.


ومرة أحضر لي كتاباً في الأصول له، وكان يدرسه في المسجد، فأخذ عليه بعض الطلاب الأحرف اليسيرة، كما حدثني الشيخ الفاضل عبد الله عوض المدرس بالدار، فجاءني الشيخ محمد بالكتاب وقال جمعت فيه جمعاً كثيراً، وأخاف يكون فيه بعض المخالفات العقدية، فأحب أن تراجعه، فأنت متخصص في ذلك، فاستخرجت له بعض المسائل بالمناقيش، كما أردفت ببعض المناقشات لاختياراته في الأصول، بما أرى خلافه، ودفعت النسخة له، وبعدها بيوم، قال رأيت كل ملحوظاتك، وصوبت كل ما كان مخالفاً، أو مناقشاتك الأصولية فلم آخذها كلها، لكن فيها وفيها، فقلت هلا توقفني عليها فقال: لا.

فقد كان يحب بعض أسولتي، لكن لا يدخل معي في نقاش، ويقول: الحمد لله أنك من أهل السنة، وإلا كنا تعبنا معك!، ولما اختار الشيخ في حديث (الكبرياء ردائي والعزة إزاري)؛ أنها الصفة، أرسل لي الدكتور محمد المعتز يسألني، فقلت له: الأظهر أنه الحجاب، لحديث الصحيحين (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) وفي مسلم (حجابه النور)، وفي رواية أبي بكر (النار)، فدل أنه الحجاب المخلوق، فليس بالصفة، فقلت له أنا أكلم الشيخ، فقال لي: هو يتنكب ذلك، حتى لا تقنعه، فسكت.


كان الشيخ في الفقه يدور حول النص، وكم من مسألة اختار فيها ظاهر النص ولا يبالي وافق قول الجمهور أو لا، فقد كان تعظيمه لظاهر النص أقوى من أي مذهب، وكتبه كلها طافحة بذلك، وكم من مسألة سألته فيها وكنت أتوقع رده مسبقاً لأجل الحديث، فمن العسير أن تقف له على مسألة خالف فيها ظاهر النص.

وإذا وقف على النص لم يعده، وقد سألني مرة من أتيت بلفظ (الصفة) فقلت له حديث الصحيحين في الرجل الذي (كان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ{قل هو الله أحد}. فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك، فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه)، فما جاوزها الشيخ فاعتمدها.


وكنا مرة في المقبرة، فقال لي ما دليلك على التعزية عند القبر، فقلت حديث المرأة التي كانت تبكي عند قبر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله واصبري)، فقال صدقت، وذهب وعزا أهل الميت على القبر.


كان الطلاب يحصون على حضور دروسه في مسجد الدار، حتى أُذن له بالتدريس في الحرم، فكانوا يجتمعون له ولعلك ترى في مجلسه أيضاً من كبار المشايخ، وقد ختم عدة كتب تدريساً، وبورك له في وقته، وكان يدرس علوم الآلة بالقدر الذي يدرس به الحديث، إلا أنه في الحديث غزير الفوائد جداً، وله اختيارات في التصحيح والتضعيف والحكم على الرجال، ولعل الطلاب يستخرجون منها علماً، وبعمل على كتبه طلاب الدراسات العليا للفائدة.


ذات يوم ذكر الشيخ محمد بن علي آدم نسبته فقال هي بالتاء (الإتيوبي) لأن أهل البلاد أعلم ببلادهم، وهم يقولون اتيوبيا وليس اثيوبيا، ولذا فكان رحمه يحرص في كتبه تكتب بالتاء المثناة فوقية وليس بالثاء المثلثة.


ولعمر الله كم استفدت الفوائد الجمة من علمه، وكان الشيخ مفزعاً لي في الدار إذا نزلت بي نازلة وأردت مناقشتها، فأستفيد جداً من مناقشته أضعاف ما أجده في الكتب، وكان يحب المزح الصدق، فربما سألني (كيف حالك؟) فأقول الحال منصوب دوماً، فقال إلا إذا جر بحرف زائد ثم نشد الشاهد: (افما رجعت، بخائبة، ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها)، والشيخ رحمه الله آية في الاستشهاد في اللغة، كما كان آية في نظم العلوم بنظمه الرائق.


ومن أوسع ما حفظ الطلاب من نظمه: جمعه الشيوخ الذين اشترك أصحاب الكتب الستة في الرواية عنهم بدون واسطة، حيث قال: (اشترك الأئمة الهداة *** ذو الأصول الستة الوعاة // في الأخذ عن تسع شيوخ مهرة *** الحافظين الناقدين البررة // أولئك الأشج وابن معمر *** نصر ويعقوب وعمرو السري // وابن العلاء وابن بشار *** كذا ابن المثنى وزياد يحتذى)، وهذا هو الراجح بإذن الله، لكن ثمة منازعة دقيقة في غيرهم.


توفي الشيخ رحمه الله في الحادي والعشرين من شهر صفر عام 1442هـ الموافق 8 أكتوبر 2020م، رحمه الله وغفر له، وأحسن الله عزاء طلاب العلم في فقده، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} جاء عن ابن عباس في رواية: خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد أيضا: هو موت العلماء، وفي تفسير ابن كثير لأحمد بن غزال:  (الأرض تحيَا إذا ما عَاش عالمها ... مَتَى يمُتْ عَالم منها يمُت طَرفُ ... // كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها ... وإن أبى عَاد في أكنافهَا التَّلَفُ ...)

فالحمد لله على كل حال، ولعل كبار طلاب الشيخ يتحفونا ببعض دقيق الفوائد العلمية التي تلقوها منه، رحم الله الشيخ محمد آدم، وجمعنا به في جناته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


والله أعلم،  وبالله التوفيق.                                                     


كتبه:

د. خالد بن فوزي حمزة

تعليقات