د. حسام عقل يكتب: غادة صلاح الدين والسَّرد الطليعي.. انفراجات وانفجارات

  • أحمد عبد الله
  • الإثنين 05 أكتوبر 2020, 00:59 صباحا
  • 1431

غادة صلاح الدين.. و السَّرد الطليعي

انفراجات و انفجارات

حين يدفع المبدع بعمله الأول ، يرتجف قلبه -في العادة- بنمط خاص من القلق الصحي المستوفز ، فهو بإزاء الطرقة الأولى ، يتحسس آثارها ، و يتتبع بصماتها النافذة ، و يترقب ردة الفعل بين " مادح " و " قادح " و " متحفظ " ، و هو الثالوث الذي يواكب " النصوص الطليعية " دوما ً ، لكن عندما يكون من يدفع بالعمل الأول ، صاحب رصيد نافذ من الجهد الثقافي الميداني الناشط ، الذي أعاد من جديد تشكيل حواضن المشهد الثقافي و   معادلاته ، بحماسة مشبوبة و مضاء ،  فإن أسباب القلق و بواعثه ، تتضاعف ، خوفا ً على نجاحات مجلية ، تحققت على الأرض سابقا ً بشكل ناجز فعلي  ، و تصل السعادة منتهاها حين يتعانق النجاحان فيحلقان و يصعدان _ بقوة _ نحو الجوزاء.

إن شيئا ً من هذا الزخم نأنسه في المبدعة " غادة صلاح الدين " ، التي وصلت نجاح الجهد الميداني ، بسطوع النص المكتوب ، و عززت نجاحات الممارسة الثقافية على الأرض ، بفتوحات السرد الإبداعي ، الذي يعرف معنى " الانفراجة " ، أي شق مجرى مسارات جديدة في التجربة السردية ، بنية و لغة و تيمات ، و يعرف _ بالقدر ذاته _ معنى " الانفجار " ، أي تشكيل قوة معنوية  مستقبلية لفيض التمرد و الرفض و التكتل لصياغات جديدة للمستقبل ، على أصعدة الرؤية و اللغة و المغامرة التجريبية الناضرة.

كان " صالون غادة صلاح الدين " ، دون جدال ، توطيدا ً نبيلا ً لمسعى نجاح خاص ، بسط ملاءته الرحيبة على كل صاحب قلم موهوب ، و منح وقودا ً سحريا ً لفيالق متلاحقة من المواهب الجديدة ، فتألق الشعر الألمعي المحلق ، و سطع السرد الوثاب ، و انطلق الغناء الطليق الدافيء ، و تحررت الآراء الطليعية التنويرية ، تصنع _ بدبيب أناملها _ مستقبلا ً مفارقا ً لأوطان ، تتهيأ لنهضتها المأمولة ، بعثا ً و تجددا ً ، رغم عثرات المرحلة العربية المأزومة  و صعوباتها المؤكدة ، لكن ثمة قلقا ً بقي في ثنيات المجهول ، يتلفع بسؤال _ خفي أو مستتر _  : هل يمكن للمبدعة التي تخوض مخاطرتها الفنية الأولى مع فن القصة القصيرة ، بوعورته العصية ،  متمتعة بالنجاحات ذاتها التي تمتعت بها " الناشطة الثقافية " ، التي وصل " صالونها الثقافي " إلى سقف من النجاح و التحليق ، يترسخ معه الخوف _ كما تقتضي العادة أو تحتم _ من خوض " خطوة جديدة مجهولة " ؟! 

و لا يمكن لسؤال من هذا القبيل أن يحلق في المطلق ، أو يسبح في رقعة الافتراض المحض ، فلا مكان هنا للتكهنات و الفروض ، و إنما كان يتعين خوض المخاطرة ، بصورة عملية ميدانية ، تحتضن التفاصيل ، بقوة الاهتصار ، لتوجه السؤال نحو بوصلته الفاعلة ، و تحققاته الملموسة ، و من هنا حسمت " غادة صلاح " خيارها ، بثني عنان القلم نحو فن القصة القصيرة ،  فاشتبكت مع أحلامها الطافرة و قلمها و أسئلتها " الأونطولوجية " و الوجودية ، من خلال هذه المجموعة القصصية : " العازف " . 

خرجت المجموعة القصصية معزوفة موسيقية شاملة ، تأخذ شكل المتتالية الموسيقية ، التي تتدفق زخاتها على مراحل ، و تتشكل بنيتها من خلال موجات متلاحقة ، يأخذ بعضها بحجز بعض ، لكن هذه المعزوفة ، بمتتالياتها و لحونها المتنوعة ، ارتدت _ في خاتمة الأمر _ إلى لحن جذري يتمحور حول " خطاب اجتماعي " واحد  _ لا " وحيد " ! _ متماسك ، يتشكل حول المرأة العربية الجديدة ، في أشواقها المتطلعة ، و أزماتها الذاتية و الجماعية المتجذرة ، و نوع انشغالاتها و اشتباكاتها ، مع ذاتها و تراثها ، و خطابها المجتمعي ، الذي قد يميل في بعض منحنياته ، إلى التكلس و الجمود ، أو " القمع " الذكوري " أحيانا ً ، على نحو ما عبرت " جوليا كريستيفا " من خلال عملها الطليعي : " الساموراي " ، و هو الخيط ذاته ، الذي التقطته " غادة صلاح " ، لتتحرك ب " عازفها " في مساحة " السرد الطليعي الجديد " ، بكل انشغالاته و هواجسه و رؤاه . فمنحت مشروع " جوليا كريستيفا " التجديدي الشامل ، شكلا ً دالا ً من أشكال الموائمة و الأقلمة و " التعريب " الاجتماعي ، إن صحت العبارة ! 

ففي قصة الاستهلال : " العازف " ، و هي القصة التي تحمل عنوان المجموعة ، تفاعلت " سلمى " _ المنظور المركزي للسرد _  مع الظرف المستجد ، الذي فرضته " جائحة كورونا " ،  المضفورة بدلالات العزلة و الاغتراب الجديد ، و الإحباط الجاثم ، الذي لا يستطيع أن يحدس أو يبصر بصفاء كاف ٍ  ، بصورة المستقبل ، و هو ما عبرت عنه أدبيات المرحلة بما أسماه الباحثون الاجتماعيون : " تداعيات التباعد الاجتماعي "  ، لقد ظلت بقعة الضوء الوحيدة ، التي تصل " سلمى " ، بالحس الإنساني الموار ، و بذاتها ، هي نغمات هذا العازف الغامض ، الذي ظل ينقر أوتار قيثارته تحت شرفتها ، ليشعل فيها جذوة التحدي ، و طاقات الاستمرار و المواصلة ، رغم ضراوة جائحة لا تعرف معنى الترفق  ، حيث  غيرت المفاهيم ، و قلبت الطاولة ، و أضرمت النيران في الأنساق الاجتماعية و الثقافية النمطية ! 

و في قصة : " أم ديلفري " ، يدور الحوار الدال بين أم " افتراضية " ، و طفل تتشكل فاجعته ، من خلال غياب معنى " الأم الحقيقية " ، التي جذرت  _ بغيابها الدرامي _ خدودا ً غائرة ، بين حناياه ، و يتحول عتاب الأم الافتراضية ، مع التلميذ ، الذي أدركه اليتم من طرفيه ، إلى إدانة حاسمة لسياق اجتماعي ، معيب قامع ، أفقد هذا التلميذ الحلم و الحاضنة معا ً  ، فشكل سلوكه اللفظي العنيف ، ورسم   بخطوطه شكلا ً من أشكال التشوه الداخلي ، فلم يمثل  التلميذ هنا " سمة لفرد " ، بل " خصيصة لجيل " .

و في قصة : " عريس في الخيال " ، تشكلت ملامح الأزمة لهذه المرأة العجوز ، من خلال تكرس العزلة ، و توطد الأسوار الصفيقة ، و غياب ظل الإلف والرفيق ، و ارتقت بلاغة " المشهد النفسي " ، إلى أعلى ربوتها  ، حين هزأت العجوز ، بكل أعرافها الاجتماعية المتكلسة ، فارتدت " ثياب الزفاف " ، في هذا العمر الطاعن ، برغم تبدد دلالات العرس ، و انسراب لحظات العمر الهارب ، و غياب الإلف ذاته ، الذي يكتمل به معنى الارتباط الاجتماعي و النفسي ! 

و لا تبعد بنا قصة : " آلة خربة " عن مدارات السرد الاجتماعي نفسه ، بانفراجاته و انفجاراته ، حيث يصبح " البابور " القديم ، معادلا ً موضوعيا ً ، لأشياء الزمن الجميل ، التي يمثلها " البيت القديم " مرتكز السرد الطليعي الجديد ، كما يؤكد " باشلار " في كتابه الأشهر : " جماليات المكان " ، و إن ضمخت القصة  هنا ، في سردها و زمانها  و مكانها _  خلطة " الكرونوتوب "  كما يقول " باختين " _ و جملتها الحوارية اللاذعة بروح " النوستالجيا " الشاملة التي تسترد زمن البيت القديم و أشياءه و رموزه ، التي تتخللها رمزية الأب الغائب ، الذي بقي ظله ساربا ً في ثنيات الزمن الحاضر ، و إن غاب فيزيقيا ً ، في منطقة الشفق . فخلف غيابه خيطا ً حازا ً مسنونا ً ، من الحزن المتراكم ، و الإيجاع المتغلغل ، و الحنين المبهم لأعمار أفلتت من بين أصابعنا في خفة الماء ! 

و بقيت نبضات الإدانة  للسياقات الاجتماعية المتشوهة ، حادة ، في معظم قصص المجموعة ، و ربما كان أكثرها قوة و حفولا ً بالدلالة المعبرة ، قصة : " مهرجان ألوان " ، التي شجبت _ في رمزيتها المتحفزة _ " التلون الحربائي " للشخوص و الوجوه ، و اعتبرت هذا التلون معبرا ً عن انخذالات و انكسارات مهينة ، لا تعكس _ مطلقا ً _ شكلا ً من أشكال المصالحات الداخلية أو المجتمعية ، أو ما يظنه بعض الأغرار " تأقلما ً إيجابيا ً " ، و هو _ على الحقيقة _ تراجع خطير في معنى الممانعة و انكسارا ً مخذولا ً في  إرادتها المفترضة ! 

لقد اتخذ معنى الرفض المتمرد في قصص المجموعة شكلين من أشكال الجفوة مع اللحظة المجتمعية الأسيانة  المتعثرة في إخفاقاتها ، الشكل الساخر كما  في قصة : " البرطمان " ، حيث قهقه الراوي النزق _ بعربدة أو ما يشبه العربدة ! _ أمام عجز النخبة ، و فسادها و عقم أدواتها الكليلة ، و اتخذ معنى الرفض نفسه _ بإزاء خطايا النخبة و تلونها و فسادها _شكلا ً أكثر حدة في قصة : " صالون ثقافي " ، حيث تأكدنا أن هذه النخبة تعتاش على " السطو الفكري " ، و تقتات من اللصوصية المكشوفة  دون حياء ! 

و قد نتفق أو نختلف _ بمنطق التقييم الفني المتشح بالحيدة و التجرد _ مع غلبة آلية السرد الوصفي  مثلا ً على آلية الحوار ، أو تراجعات الأدوار الوظيفية ل" المونولوج الداخلي " في أنساق السرد و أبنيته  المتقاطعة ،  و كان بمقدورنا الامتداد برقعته ، لكن هذه الخيارات الفنية ، أيا ً ما كانت تقييماتها ، لا تحول بيننا و بين أن نقر _ بوضوح دون جحود أو شطط  _ بأن " غادة صلاح " قد وثبت بخطوتها المباغتة  ، مساحة مصقولة  من النجاحات الجمالية  الملحوظة ، في مدى المخاطرة الفنية ، و تجلياتها ، و نوع سجالاتها ، و انعقدت جديلة النجاحات بإحكام ، حين وثقنا بأن " غادة صلاح " القاصة ، لم تتخلف بأشواط التميز و التحليق و الإدهش  ، عن رهانات " غادة صلاح " الناشطة الثقافية ، التي كان صالونها _ و مازال _ موئلا ً لأحلامنا الطافرة بثقافة عربية جديدة ، و إنسان عربي جديد ، لا سقف لأشواقه الحضارية ، و لا منتهى لأغرودته الصادحة بالحرية والتقدم والبحث السرمدي عن العدالة والتعايش والرفاهية .

تعليقات