مصطفى البلكي يكتب: قراءة في رواية الهجانة للمبدع أيمن رجب

  • أحمد عبد الله
  • الثلاثاء 29 سبتمبر 2020, 7:18 مساءً
  • 1948

الهجانة ..

سرد الوجع

قراءة في رواية الهجانة للمبدع أيمن رجب والصادرة عن دار كيان 2020م

تعد رواية " الهجانة" لأيمن رجب طاهر من الأعمال المنبثقة من سياق تاريخي, لا يعرف الكثيرون شيئا عنه, وبغض النظر عن  ما يثار حول مشاركة الجيش المصري في الحرب العظمى, فإن الثابت أن هناك فرقة من العمال والهجانة شاركت في الدفاع عن فرنسا من خلال الانضواء تحت لواء الحلف الذي يضم بريطانيا وفرنسا وروسيا, ضد الحلف الثاني الذي يضم ألمانيا والنمسا وإيطاليا, والتي اندلعت عقب اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو في يونيو 1914, ومن خلال الفضاء الروائي سوف نشهد ترحيل فرقة العمال من مرفأ بورسعيد, تم اقتلاعهم من قراهم, وفيما بعد يظهر الهجانة, ونعيش بداية الرحلة مع غلاب النجار وابنته منصورة التي فقدت هويتها حينما أرغم والدها تحت ثقل ما يمر به بأن يجعلها تلبس ملابس الرجال, وتصبح منصور بدلا من منصورة, ومن خلال سرد مشهدي نتعرف على فرقة العمال الذي تقوم بينهم الصلات وتقوى ليشكلوا تكتلا يواجهوا من خلاله ما سوف ينتظرهم, وتلك الصفة هي التي لفتت نظر الجندي رينيه حينما ودع فرقة العمال والهجانة بقوله" أنتم أيها الشرقيون جديرون بالاحترام فإنكم تعرفون كيف تكون المحافظة على الحياة في وسط نيران الأزمات تصبرون وتخترعون الفرح والسعادة" , وهذه هو الهدف الذي حافظوا عليه منذ اللحظة الأولى التي رست فيها السفينة على جزيزه مودروس, وعملهم في الكامب الذي بدأ بتجهيز المكان ليكون صالحا لسكنهم أولا ثم لسكن الجند الجرحى الذين عادوا من حربهم مع جيش السلطان التركي, ومن خلال هذه الاقامة تنوعت الأعمال التي قاموا بها, في بداية الرحلة صنعوا الصناديق من كتل الخشب, وعلى الجزيرة قاموا بالبناء والشجن والتفريغ, والمساعدة في نقل الجرحى والمساهمة في اسعافهم وحفر القبور لدفن من يفارق الحياة منهم, ولم يبتعد الحزن عن أيامهم, فهم دائما في ذيل اهتمامات القادة, أسوأ المفروشات وبقايا الأطعمة, وأحيانا لا يجدون إلا الزبالة لالتقاط ما يقيم صلبهم ومن جراء هذه الممارسة فقدوا الكثيرين من رفقاء الرحالة كصالح وميخائيل, وسط صمت القائد الشركسي الممثل للحكومة المصرية والذي يرعى اتفاق السلطان حسين كامل مع سلطة المحتل, وترك مصيرهم في النهاية لتلك السلطة ولقادة لا يحملون ولو قدرا من الرحمة, أمثال, الكولونيل سيمث, والميجور ويليام, وتحت ضغط القوة والوعيد بالموت لمن يخالف الأوامر, يزعن العمال, وفي أوقات قليلة يتغير الحال, وتجد الثورة أو الفعل طريقا لقلب أحدهم, كما فعل كامل الجمّال حينما قتل الميجور ويليام حينما وجده يعتدي على منصورة بعدما عرف سرها, ولينتقم من والدها غلاب الذي تفوق عليه في لعبة العصا, ومع الكولونيل سيمث الذي قتلته منصورة لتمنعه من تكرار ما فعله مع فرقة العمال والهجانة بأن جعلهم الطعم الذي اصطاد به الألمان في الأماكن التي يتحصنون فيها, تلك الخدعة التي أحكم خيوطها في المرحلة الأولى في باشنديل فراح ضحيتها الكثر من العمال والهجانة وكان من بينهم غلاب والد منصورة.

وتلك القسوة جعلت السؤال دائم الحضور: لماذا نحن هنا؟ دار السؤال في ذهن كل واحد منهم, فالحرب الدائرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل, يساقون من مكان لمكان, مشيا على الأقدام أو محشورين في القطارات هم ودوابهم, من مارسيليا مرورا بجرونوبل , ففوارون , فشامبري, فليون, فباريس, وأراس, ثم نهاية الرحلة في باشنديل, ثلاث سنوات وشهور, والسؤال يدور, وحلم العودة يلح, والفقد يعيشونه مع كل مكان, فيودعون أحبابهم ويضعون فوق رأسه حجرا, وتدون منصورة اسمه وتاريخ وفاته, وكل شيء يبقى كما هو, يمهدون الطرق, ويقيمون خطوط الهاتف, ويعمرون المعسكرات المتهدمة, وينقلون الذخائر, ويحملون الجرحي , ويحفرون القبور للموتى, كل هذه وقبضة القسوة تزداد عصرا لهم.

هذه القسوة وجد ما يخالفها, ويوجد جانبا آخر, فالإنسان بطبيعته في أي مكان لا يوجد في سمت واحد, فهناك الشرير بطبعه, وهناك الخير, لذلك كان أيمن حريصا أن يظهر جانبا مخالفا لهؤلاء القادة متمثلا في وجود الطاهي ليمان وابنته جوليانا والمهندس توماس وزوجته صوفيا, والعجوز أميمة, والجندي الفار من أرض المعركة ديمار, ومن خلالهم نتعرف على وجه فيه الكثير من الحب والمعرفة بقيمة الإنسان, فنرى تلك المعاملة التي ترفع من معنويات الروح لدرجة أن منصورة قالت عن معاملة العجوز صوفيا وزوجها توماس" ما رأيت أحن عليّ منهما", وفي معاملة الطاهي الذي ساوى بينها وبين ابنته جوليانا, والذي أخبر منصورة بأنها مثلها, واقتسم بينهما اسورتين, منح كل واحده منهن اسورة.

وفي النهاية يظل التاريخ شاهدا على ما كان, وإعادته يكون من باب التذكير بما حدث, وحتى نعرف وندرك اللحظة التي نعيشها, فدائما لا شيء يتم إلا وله مرجعية يعود إليها.

تعليقات