د. عباس شومان يكتب: حتى لا تتحول نعمة الماء إلى نقمة
من أعظم نعم الله علينا نعمة الماء، فهي سبب الحياة وبدونها يستحيل تصور حياة كائن من الكائنات كما نص عليه كتاب ربنا: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} وذكرنا رب العالمين بتفضله علينا بهذه النعمة حيث قال:{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ . لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} ومعلوم أن الماء العذب المتمثل في مياه الأنهار والآبار والعيون والأمطار أكثر أنواع المياه نفعًا للإنسان ،فهو يصلح لجميع استخدامات البشر شرابًا وطهورًا وسقيًا لدوابهم وزرعهم، ومعلوم أيضًا أن هذا الماء العزب هو أقل أنواع المياه على أرضنا فأكثر الماء هو ماء البحار والمحيطات المعروف بملوحته الشديدة التي يستحيل الانتفاع معها إلا بعد تحليته المكلفة، وهذه المحيطات والبحار وإن كانت مياهها مالحة إلا أنها تعد مصدرا لثروات أخرى كاللؤلؤ والمرجان والأسماك وتحت قيعانها البترول والغاز الطبيعي.....
والمياه العذبة التي هي أقل أنواع المياه على أرض الناس حظهم منها متفاوت فبعض البلاد كمصرنا وسوريا والعراق... وهبها الله أنهارًا عظيمة تجري على أجزاء من أراضيها لتجعل من جاورها من الناس من المحظوظين بقربهم منها أكثر من غيرهم ممن يستوطنون الصحاري في نفس البلد، والذين ربما لا يصلهم منها إلا ما يضخ خلال مواسير ناقلة لشرابهم إن وصلتهم ،بينما تبقى أرضهم جرداء لندرة الماء في باطنها مالم تكن المياه الجوفية كامنة فيها ولو على مسافات بعيدة.
وإذا كانت البلاد التي وُهِبَتْ نعمة الأنهار والعيون والآبار والأمطار قد تعاني أجزاء كثيرة منها من ندرة المياه لبعدها عن مجرى الأنهار فإن دولا كاملة تكاد تفتقد بالكلية مصادر طبيعية للمياه العذبة ويعيش أهلها على تحلية مياه البحار كدول الخليج.
و يختلف إحساس الناس بنعمة الماء وقدرها ،فتجد أن من يسكنون على ضفاف الأنهار لا يشعرون بمقدار النعمة التي حرم منها كثير من البشر داخل الدولة أو خارجها ولا يشعرون بهذه النعمة حقًا إلا إذا سافر بعضهم لبلد أو منطقة قلَّ حظها أو عُدِمَ الماء العذب؛ فيدرك حين يشتري زجاجة ماء كان يستهلك منها العشرات في استخدامه اليومي؛ بما يرهق ميزانيته حتى ولو كان من أصحاب الدخول المرتفعة ،وهنا يدرك كم هو جاحد لنعمة الله عليه حيث لم يشعر بقيمة الماء العذب الذي تركه في بلده أو منطقته، ولا يكاد شخص يعمل في الخليج يصدق بأنه كان يغسل سيارته بما يكفي لشرابه هو وأسرته شهرًا كاملًا في المرة الواحدة، وأنه كم قصر حين استهان وترك إصلاح صنابير بيته وغفل عن خراطيم المياه لتبقى يومًا وربما أيامًا تسقي حديقة بيته أو أرض شارع ترابي يمر من أمام بيته، وهو ما يستحيل أن يفكر في فعله في البلد الذي سافر للعمل فيه رغم أن دخله أضعاف أضعاف ما كان يتقاضاه في بلده، وقد علم الخالق أزلا أن الإنسان كفور لا يشعر بالنعم إلا حين يفقدها أو يخشى فقدانها، كحالنا الآن ونحن نضع أيدينا على قلوبنا خشية أن يتأثر نيلنا بالتصرفات الإثيوبية الجائرة،؛ ولذا كان منهج الإسلام الذي غفلنا عنه واضحًا في تثقيفنا بأهمية نعمة الماء، فمنهج الإسلام هو تبني الاقتصاد في استخدام الماء بما يحقق الغرض دون زيادة ،ولا علاقه لهذا المنهج بالغنى والفقر ولا بكثرة الماء ولا ندرته، و لا بكون الاستهلاك مجانيًّا تتولاه الدولة، أو الشركة التي يعمل بها، أو أنه هو من يتولى دفع ثمن استهلاكه، فكلنا يعلم إنكار رسولنا على سيدنا سعد حين رآه يتوضأ ويستخدم من الماء أكثر مما تحصل به الكفاية حيث قال مستنكرا:" مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ”
" مع ملاحظة أن ما اعتبره رسولنا سرفا من سيدنا سعد نعده نحن تقتيرا شديدا لو فعلناه، فلم يكن الصحابة يملكون صنابير يفتحونها عن آخرها من أول وضوئهم حتى نهايته، وربما ينشغلون أثناء وضوئهم بما يزيد من فترة إنجازهم للوضوء، ولم يكن يتصور وهم يعيشون على ما جمعوه من ماء المطر أو بعض المصادر الضعيفة أنهم يضحون بكميات كبيرة منها لوضوئهم، بل ربما رآه يزيد في غسل الأعضاء عن ثلاث مرات مثلا، أو يغرف في المرة الواحد ما يزيد عن غسل اليد مثلا ليتساقط منه الكثير؛ حيث إن الغسل يتحقق بتمرير الماء على العضو من أوله إلى آخره، ويسقط منه ولو نقطة، أمَّا مانفعله نحن وهو غسل العضو وجريان الماء عليه وسقوط أكثر بكثير مما استخدم في غسل العضو فهو غير متصور ولا يساعد عليه الفقر المائي الذي كان ولازال بالجزيرة العربيّة.
ولست أدري لو كان رسولنا بيننا وشاهد استخدامنا للماء في حياتنا كيف كان سيفعل بنا؟ ولك أن تقارن بين ما نفعله في وضوئنا بوضوء نبينا الذي كان يتوضأ بالمُد وهو يساوى 687 مليمتر، أما الاغتسال فكان يستخدم معدل صاع وهو يساوي 2.75 لتر، ومع أن هذا القدر لم يفرض علينا ويمكن أن نزيد عليه فإن علينا أن نقتصر قدر الإمكان لنكون أقرب إلى سنة رسولنا الأكرم.
وإذا كنا بعد هذه القرون الطويلة قد أدركنا أهميّة منهج إسلامنا في التعامل مع نعمة الماء ومع قلقنا من نقصانها أو ندرتها فللأسف الشديد لازلنا غير ملتزمين بهذا المنهج الرشيد بعد، ولازال السَّرَف في استخدام الماء هو الشائع بيننا، وهذا تناقض بين قناعتنا و سلوكنا، فإذا كنا نستشعر الخطر فعلًا فعلينا أن نهيئ أنفسنا للتعايش معه إن حل بنا – لاقدر الله – ومنهج الإسلام الواضح الذي أرده إسلامنا لنا كثقافة نلتزم بها سلوكًا دائما ومنهجًا لحياتنا لم يكن خاصًّا بأزمة تهديد أمننا المائي جراء التصرفات الإثيوبية ،ولكن ليحافظ الناس على أهم مصدر لحياتهم وهو الماء العذب ،لافرق بين من كثر حظهم منه أو قلَّ، ولنحذر جميعًا من السرف في الماء أو سوء الاستغلال لهذه النعمة ،
وهذا الماء الذي هو أعظم نعمة منحنا الله إيَّاها يمكن أن تتحول إلى نقمة مدمرة ، فبالماء أغرق الله قوم نوح ونجاه ومن آمن معه ، وبه أهلك فرعون ومن معه ونجى موسى ومن تبعه مع أن الجميع سلكوا طريقًا واحدًا في البحر في معجزة غير متكررة، نجا الله بها فريقًا وأهلك الآخر، ولنتذكر مجددًا تحذير ربنا وهو يذكرنا بهذه النعمة وعظمتها:{ ... لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }،فلنُعَدِّل من سلوكياتنا الخاطئة في تعاملنا مع نعمة الماء ،ولنتضرع إلى الله أن يبارك في نيلنا وعيوننا وآبارنا وأمطارنا وبحارنا، وليبطل مكر الماكرين بنا ، وألا يقلب نعمه إلى نقم بسوء صنيعنا.