اليوم العالمي لذوي الهمم.. 7 علماء مسلمين تحدوا الإعاقة (إنفوجراف)
- الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
الكاتبة إلهام عفيفي
تتلألأ خيوط الضوء حين تسقط على صفحة الماء فتبدو وكأنها النجوم وأنا أجلس على ذلك الشاطئ ، فليس _ في الدنيا _ أجمل من شاطئ الحرية والذي كان يسمونه _ سابقا _ (شاطئ بوجرشوف).
أخذتني الغفوة على الشاطئ ، وانتعشتُ حين داعبني البحر بزخات منه أيقظت روحي فتنسمت عطر النقاء والحرية..
"هيا ضعي عن كاهلك هذا الكسل يا أماه سيضيع اليوم ولم نر شيئا من جمال المدينة بعد".. تحثني ابنتي "أبية" علي الاسراع في ارتداء ملابسي بعد أن قامت بما يكفي من الضجة لإيقاظي .
لبست ثوبي الفلسطيني التقليدي ، وخرجنا سويا نستقل سيارة النزل وسارت بنا في شارع مصر أهم شوارع يافا ، كم أحببت هذا لشارع لاسمه فمصر حبي كفلسطين تماما ، ليس بينهما حدود ، كان اسمه في عصر الاحتلال (شارع ديزنجوف ) .
تعودت أبية أن أصطحبها في مثل هذه الرحلة كلما هزتني الأشواق لذكرياتي مع والدها الذي نال الشهادة في مثل هذا اليوم ، وصديقاتي من كل ناحية في وطننا الكبير وأتعمد أن تكون زيارتي في ذكرى هذا اليوم المجيد..
عندما أجلس في شرفة بيتنا بالقاهرة تهاجمني الذكريات وأتذكر حبيبي "جهاد" الذي ما استطاع قلبي أن يفتح أبوابه من بعد رحيله .. أحببته حين كنا زميلين في جامعة القاهرة العتيقة ، فلسطيني مقدسي، أحببته جدا فقد كان شابا رائعا متفائلا رغم فقدانه لعائلته كان صابرا ذا خلق يتعامل مع الجميع كما لو كانوا أهله في زمن رديء ، وصل أمر الرجل فيه أن يشي بأخيه أو حتى زوجته.. ليتجنب الأذى أو يحوز مكانة ينتفع بها ، زمن كنا نجاهد فيه لمجرد أن نرفع رأسنا.. لكني اخفيت ذلك الحب ولم أخبر أحدا حتى جاءني يوما يحمل صندوقا خشبيا جميل الشكل يتقدم بتثاقل وكأنه يقدم على خطوة يخشى عواقبها وضعه أمامي وبدأ بالحديث
_ : صباح الورد يا بهية الدنيا ( حينما أتذكر جهاد لا أتذكر أحدا غيره ولذلك نسيت أن أخبركم ان اسمي بهية ، تلك المصرية التي ولدت وعاشت بالقاهرة حتى تزوجت وانتقلت مع زوجها إلى فلسطين قبل سنوات قليلة من تحرر فلسطين ) .
_ : صباح الفل يا جهاد .. لماذا تأخرت عن المحاضرة ؟!
_ : كنت أحضر لك شيئا مهماً.. ولكن سأخبرك بشئ أولا
_ : خير يا جهاد .. قل بسرعة شوقتني !
_ : نحن زملاء منذ أربع سنوات وعرفتيني بشكل كاف ..... ، لقد أحببتك منذ رأيتك أول مرة.. وجهك الطيب يذكرني بأرضي.. أنت يابهية تشبهين زهرات الأوركيد التي تنمو في حديقتنا ، ( يكاد يتلعثم ) أنت والله شامخة كأشجار زيتون فلسطين .. فهل تقبلين أن تشاركيني ما بقي من عمري أيا كان عدد أيامه .. أرى في وجهك وجه "كفاح" . نظر في وجهي وأنا أردد : كفاح هي أمك ياجهاد !! ، ( أقول بدون صوتٍ : ياااااااه ، كل هذا الحب ! ، قل لي كيف استطعت أن تخفيه وتحجبه عن عيني ، لم كان قلبي لايشعر بكل هذا الحب ؟! ) .
لم أستطع النطق ، لساني التصق بتجويف الفم تماما ، وجدت رأسي تهتز بالموافقة وأنا أشعر أن وجهي يشتعل خجلا..
طار جهاد من فوق الأرض واجتمع حولنا الأصدقاء يهنئونه ، وبدأ يفتح أمامهم صندوقه أخرج من الصندوق مفتاح بيته في القدس ومد يده به موجها حديثه نحوي "هو الآن بيتك وهذا مفتاحه وذلك الثوب ثوب زفاف أمي وتلك أيضا كانت لأمي سلسلة ذهبية بشكل قلب تحمل بداخل صفحتيها صورة لأمي وأبي".
شعرت لحظتها أنه يقدم لي عمره كله مقدم الصداق ، ففاضت دموعي فرحا.. أرى بعين الذكرى كيف ذهبنا إلى فلسطين بعد أن تزوجنا ، أنا التي صممت على الذهاب معه رغم أنه خيرني أن أظل بمصر ، ويعود لنا كلما استطاع ، ولكن تصميمي أن أكون معه أجبره على الاستسلام لرغبتي الجامحة للحياة في فلسطين مهما كان الثمن ..
عشت معه أجمل ذكريات عمري رغم ما كنا نعانيه من اللصوص أو من كان يطلق عليهم عندئذ الصهاينة .. نعم كانت المعاناة فوق احتمال البشر ، فالصهاينة قطاع طرق وقتلة الأطفال والنساء ، وأعداء للحياة ، يحبون جدا أن يروا دماء البشر تسيل على الأرض ، يقتلون كل ذكي عربي ، لايهمهم إن كانت امرأة أو كان رجلا ، يالها من أيام بطعم الجرح العميق الذي لايمكن أن ننساه ، لكن صدقوني أكاد أن أنسى الآن ، فشمس فلسطين عفية ، وأرض فلسطين خصبة ، وقد جاء العرب من كل قطر عربي يستمتعون بأرض فلسطين ، بشمس لطيفة ، وقمر كأنه مخلوق لهذه الأرض ، جمال أرض فلسطين طاغ للغاية .
تعرفت على أصدقاء وأخوات من كل وطننا العربي فكان يوم الاثنين لقاء صداقتنا في كل أسبوع بلون بلد من بلاد الاتحاد العربي الكبير بعدما نجحت الشعوب في تكوينه بعد القضاء على لصوص الصهيونية الهجامة .. والذي كان أيامها مجرد عدد من شتات الدول الفقيرة الضعيفة التي تخضع لاستغلال الدول الكبرى ، ويرزح أهلها تحت وطأة الفقر والظلم والتبعية .. ولم تكن فلسطين فقط هي التي تعاني من الاحتلال ،
بل كانت كل بلادنا العربية تئن تحت وطأة احتلال أقل كلفة على المحتل .. فهو احتلال بالتبعية.
وأفقت على "أبية" تنبهني أننا قد وصلنا إلى ( مركز العالم العربي ) للتسوق أو ما كان يعرف منذ سنين بمركز ( ديزنجوف ).. نلتقي هنا أنا وصديقاتي وابنائهن كلما سمحت لنا الظروف بالسفر هنا في يافا والتي كانت منذ زمن تدعى ( تل أبيب ) ، تلك الجميلة الكنعانية التي انتظرت سنين طويلة لكي يتم تحريرها من الأسر الذي وقعت فيه تحت وطأة الاحتلال الصهيوني ، نجلس لنتذكر هذا اليوم حين كنا في مثل أعمار أولادنا ، وفقدت كل منا عزيزا بل أعزاء ليعيش أولادنا كما يعيشون الآن ..
أصبح سهلا علينا اليوم أن نلتقي كلما أردنا فلم يعد أي منا بحاجة إلى المعاناة السابقة للحصول على تأشيرة سفر لأي بلد من بلاد الاتحاد.
افتقدتهم كثيراً.. صديقاتي ... رفيقات الأيام الصعبة .. جلسنا نذكر بعضنا البعض ؛ بما كنا نعيشه وأيام تجمعنا معا عندما يبدأ اللصوص في القصف وكيف كنا نجتمع لنساعد من يقصف بيته ونأخذ من بقي حيا الى بيت احدنا إلى أن يحين دوره.
نحب دائما أن نبدأ جولتنا بزيارة المسجد الأقصى لنصلي في قبة الصخرة فقد حرمنا منه طويلاً، وكنا في الماضي نجلس على أبوابه شهورا ننتظر أن يُسمح لن بالدخول اليه حين كان اللصوص يغلقونه.
المدينة القديمة كنا نسميها بنفس الاسم فيما مضى، تلك التي تحمل عبق حضارات متعددة وتحمل آثارها بين جنباتها، وكانت أيام الاحتلال تعج بالصهاينة فقد طردوا منها أهلها واستولوا على بيوتهم واصبح أهل البلدة أقلية فيها .. ها قد عادت كما كانت حتى سكانها من اليهود أصبحوا أكثر سعادة من ذي قبل .. لأنهم عرفوا معنى الأمن، عرفوا أن العدل والمساواة هي كلمة السر في تحقيق الأمن والاستقرار وليس الظلم والعنصرية .
هذا ما كانت تحدثنا عنه صديقتنا ( سيرينا ) وهي من يهود القدس .. كم كانت رائعة ذات عقل جميل وقلب يعي معنى أن تعيش وسط من يحبونك، وهكذا كانت صديقتنا مليكة وهي يهودية من المغرب كانت كالطفلة الصغيرة تغرينا بالجري خلفها بين أشجار الزيتون ، وكم بكينا جميعا حين ضرب القصف بيت صديقتنا ( فاطمة ) وتوفيت بداخله مع زوجها .. وظلت ( ماريا ) صديقتها المقربة تسقي شجرة الزيتون الوحيدة التي بقيت من حديقة بيتها المتهدم .. كان الجميع رائعين حتى وسط الحطام .. قلوب رويت بالمحبة فأنبتت دفئا ومودة وسلام.
كان يوما غير عادي أنتظر الفرصة دائما لتكراره ، وأظل أحلم بالتجوال في مناطق الاستقلال من أرجاء فلسطين التي كانت محتلة، وها نحن عانقنا القدس وقبلنا ثراها، وودعنا المسجد الأقصى باشتياق، وعاهدنا قبة الصخرة المشرفة بأن نعود دائما فلم يعد هنا ثمة ما يمنعنا.
ثم طلبت ( أبية ) أن ترى أطلال ( الجدار العنصري ) وكان يسمى قديما ( الجدار العازل ) وقد تركت حكومة فلسطين ما تبقى من حطامه كشاهد على عنصرية الاحتلال بعد أن قام أطفال العرب وأطفال فلسطين وشبابهم برسم اللوحات التشكيلية والرسومات التعبيرية التي تعبر عن حريتهم وكيف استرجعها آبائهم، وكان اللصوص قد أقاموه ليمنعوا هجمات الشباب عليهم .. كانوا يخشون هجوم الأطفال بالحجارة والشباب بأسلحة بيضاء وحتى الطائرات الورقية كانوا يخشونها.
كنا نحكي ذكرياتنا وابنتي ( أبية ) مندهشة مما تسمع وترى وظلت تحثنا على التجول في شوارع يافا الفلسطينية التي يعاودنا الحنين إليها كلما جنحت الذكريات بنا إلى الماضي البعيد ..
مشينا بين الأشجار والسهول والحقول، والأخضر ينبض وسط ألوان البساتين اليانعة إنها أقدم مدينة تاريخية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط يافا عاصمة الثقافة الفلسطينية والعربية لأعوام عديدة ، يتلألأ الميناء فيها كماسة نادرة ، سفن تعبر وتعود وتجارة مزدهرة، وصيادون بلا خوف يطرحون شباكهم بالطرق التقليدية التي ما زالت تمارس بجنب سفن الصيد الحديثة ، بساتين البرتقال والليمون تملأ الجو بعبيرها الساحر، وتمتد تلك السجادة الخضراء على مدى العين، تلك هي مدينة البرتقال والمتنزهات الجميلة.
جلسنا معا على الشاطئ نشاهد مغيب الشمس وهي تسير على مهل لكي تلقي بنفسها في البحر لتغوص بداخله، وأخذتني ألوان الشفق نحو طيف الذكرى.. وصلت إلى حيث كنت أنشد منذ بداية الرحلة، يااااالله خمسة وعشرون عام مرت على هذا اليوم الغالي.. إنه أغلى أيام الأرض..
أعرف المكان والمكان يعرفني لم أشعر بالغربة أبداً هنا فهذه روح زوجي وتلك ابنتي وهؤلاء صديقاتي كانت الروعة تغمرني والنشوة تعتمل بداخلي، حتى شعرت بروحي تغادر جسدي، وأخذت تحلّق في سماء يافا سامية بشرف العروبة الحقيقية.. تملكتني السعادة وأنا أرى حبيبي .. نعم ها هو جهاد.. ينتظرني بوجهه الباسم كما يفعل دائما فاتحا ذراعيه ويقول لي جملته التي طالما غازلني بها " تقبرني أحلى عيون زيتوني".