سمير المنزلاوي.. المبدع الحكاء عاشق منية المرشد

  • حاتم السروي
  • الأحد 07 يوليو 2019, 4:21 مساءً
  • 1807
سمير المنزلاوي

سمير المنزلاوي

سمير المنزلاوي هو ذلك الكاتب المصري الذي آثر السلامة وهدوء البال وقرر أن يعتصم بقريته الوادعة ويعيش فيها بعيداً عن صخب القاهرة وزحامها، وليس المنزلاوي وحده من قرر أن يبقى في دنيا الأقاليم مفضلاً راحة النفس على وهج الطموح فغيره كثير؛ غير أن المنزلاوي من بين هؤلاء يتميز بصدق الانتماء إلى قريته التي هي وطنه الأم، إنها "منية المرشد" التي فتحت عينيها فوجدت نفسها في قلب العصر المملوكي.

ويخبرنا عم سمير ذلك الحكاء الذي لا يفنى جرابه من الحواديت أن منية المرشد كانت يهودية قبل أن يدخلها المرشد في الإسلام، سألته بشغفٍ ولهفة: كيف كانت يهودية ومن هو ذلك المرشد وما الذي كان يرشد إليه ولحساب من كان يرشد، أتراه كان مرشداً في شرطة المماليك؟ أم تراه............. لا لا، لا تخبرني بالله عليك أنه كان مرشداً للإخوان فما أعرفه أن عصر المماليك لم يعرف الإخوان وإنما عرفهم عصرنا العجيب.

ضحك المنزلاوي ضحكته البسيطة الحنونة التي تنم عما بداخله من الحكمة والمرحمة وقال: المرشد هو محمد أبو عبد الله العابد الذي أرسله السلطان الناصر بن قلاوون ليدعو الناس في قريتنا إلى الإسلام، وقد أفلح بجدارة واختفى كل شيء في القرية يمت لليهود بصلة، ولأن أجدادنا أرادوا أن يردوا الجميل لمن أرشدهم إلى الدين الحنيف رأيناهم يطلقون على قريتهم الجميلة: منية المرشد، والاسم الذي يتداوله الناس الآن ومعهم زوار ضريح الإمام هو منية المرشدي بزيادة الياء جرياً على ما هو معتاد في العامية المصرية.

البلد الطيب 

سألته وقد زادني كلامه تعلقاً بهذا البلد الطيب: صف لي منية المرشد؟ أجاب وعيناه تلمعان ببريق المحبة الساكنة في خلايا الوجدان: قريتي شابة لا يعرف الشيب لها طريقاً، هكذا عرَّفتها لي جدتي زمزم، وعندما كبرت صدقت كل ما قالته عن هذه الشابة التي لا تغادر النضارة مُحَيَّاها، كنت أراها ولا أزال فائقة الحسن والدلال، مثقلة بالذهب والجواهر، حتى أنها عندما تزور المرضى الموعودين وتهديهم الفواكه والهدايا تسمع لحليها صلصة من على بعد.

هل تصدق أنني أرى منية المرشد في المنام؟ هكذا هتف بي، قلت له كيف ذلك؟ قال: كانت تأتيني في المنام وتقول: لقد رأيت الملك الناصر وهو يزور صديقه العالم ويطمئن على خطة نشر الإسلام، كان السلطان شاباً وسيماً قسيماً أبيض البشرة عسلي العينين طويل القامة مفتول العضلات، شاب تجري في شرايينه دماء الحياة وفي وجهه ماء النضارة، ورأيت ابن بطوطة عندما زارني ونزل ضيفاً على زاويتي وكتب عني في كتابه "تحفة النُّظَّار في غرائب الأسفار وعجائب الأمصار".

وفي أحد المنامات رآها المنزلاوي فسألها من فوره سؤالاً لطالما فكر فيه: من هم المماليك يا منية المرشد؟ هل هم أهل دين يبنون المساجد والأسبلة وينفحون العلماء بالهدايا والأُعطيات؟ أم تراهم قتلة ومستبدين يرهقون الشعب المسكين بالضرائب؟ هزت القرية شعرها الفاحم وقال: إنهم هذا وذاك، ولك مطلق الحرية في وصفهم بالتناقض، كان شعبنا في الحضيض وكان السلاطين يتعمدون تغييبه بالخرافة والأساطير.


اللغز المحير

وانطلق المنزلاوي يبحث عن مصداق ما ذكرته في دفاتر ابن إياس وابن الأثير من قبله؛ فوجد كل ما قالته صادقاً وحقيقياً؛ فهذا ابن إياس يحكي لنا  أنه في زمان الملك الناصر بن قلاوون ذهب شخصً ليسقي ثوره من النيل؛ فشرب الثور وارتوى ثم قال بلسانٍ فصيح: الحمد لله!، وفزع الرجل وعاد إلى داره مسرعاً، وفي اليوم التالي حدث الشيء نفسه؛ فلم يستطع الكتمان وباح لجيرانه بالسر العجيب واللغز المحير، وسرى الخبر في بلدته كالنار في الهشيم، وكثر الكلام ما بين مصدقٍ ومكذب حتى وصل إلى مسامع كبير القرية الذي قال: الماء يكذب الغطاس، خذونا لنستمع إلى الثور!.

وزحف أهل القرية والقرى المجاورة ثم وقف الجميع صامتين بينما الثور يشرب في هدوء، ثم التفت الثور إلى الجمع الواقف وقال بوضوح: الحمد لله.

سأله كبيرهم: كيف تتحدث بلسان البشر؟

قال الثور: إن رسول الله أمرني أن أخبركم أنه تشفع فيكم ورفع عنكم سبع سنوات من الجوع والجفاف.

قال كبير القرية: وما آية ما تقول؟

قال الثور: آيته أني أموت غداً.. ومات الثور بالفعل وجاء القاضي بعدها وحرر الواقعة في محضر وعرف السلطان فتعجب أشد العجب.

قلت يا عمنا: ما رأيك في هذه القصة؟ أجابني: هذه الحكاية إنما تعكس لنا وجود عقلية جبارة أرادت أن تخدم السلطة بمثل هذه الخرافات؛ فالثور حيوان أعجمي لن يتصور أحد أنه يكذب حين ينطق، ولا بأس من اختراع مشهد الناس وهم يستمعون إليه أو تأجير مجموعة تدعي ذلك وتشهد به، ثم يوقع القاضي ويتعجب السلطان ويتم التخلص من الثور بذبحه فوراً والزعم بأنه قد مات، إن تغييب العقل الجمعي صناعة قديمة لها رجالٌ يتقنونها وينشرونها بين الناس ويفرضونها عليهم.

قلت: وما الحقيقة إذن؟ قال: الحقيقة أن السلطان حينها كان شاباً من حُدَثاء الأسنان، وكانت والدته تحكم من وراء ستار والفقر يفتك بالناس بلا رحمة ولا هوادة؛ فكان لابد للبطانة أن تختلق معجزاتٍ تلهي بها الشعب حتى لو كانت بهذا الضعف والتهافت؛ فالذين اخترعوا حكاية الثور  لم يفطنوا إلى أنهم أساءوا لأنفسهم؛ إذ كيف يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم العلماء والقضاة ويخبر الثور وهو رمز الغباء في الفلكلور الشعبي!.

سألته: وما بال التصوف عند المماليك؟ قال: استخدموه أحياناً كي تكتمل الصورة القاتمة؛ فرغم وجود أساطينه من العلماء والفلاسفة، إلا أنه قد وُجِدَ معهم دجالون وساعدهم الحكام لتضليل رعيتهم.

قلت يا عم سمير: أنت رجلٌ له منتجه الإبداعي وكنت ولا تزال تحلق بنا في سماء التراث المفتوحة؛ هلا أخبرتني كيف ومتى بدأت الكتابة؟

قال: كانت منامات قريتي ومكتبة والدي ومولد المرشدي والكتب التي حصلت عليها بشق الأنفس  قاعدة لشيء بدأ يتحرك ويعتمل داخلي وفي أعماقي، شيء لم أعرف طبيعته إلا بنهاية المرحلة الثانوية حين فاض النهر وأغرق الضفتين، ومن يومها لم أعد أطيق صبراً على الكتاب والقلم.

ما الذي تود أن تقوله لأمك أعني منية المرشد؟ هكذا قمت بسؤاله في آخر اللقاء.

قال: عرفت هواكِ منذ أن كنت يافعا... وقد صرت كهلاً والغرام طريقتي، سلاماً على منية المرشد وعلى المرشد نفسه والناصر بن قلاوون والرحالة ابن بطوطة، وكل شخصٍ درج على أرضنا فوجدته كنزاً واستدعيته في أوراقي وأخرجت منه شيئاً يعجب الناس.

تعليقات