دكتور محمد عبد الراضي يكتب: سيميائية الحلم وتخصيب اللغة.. قراءة في قصيدة "صفصافة قلبي وقلبك سنبلة" للشاعر عاطف الجندي

  • جداريات 2
  • الإثنين 24 أغسطس 2020, 2:26 مساءً
  • 1363
دكتور محمد  عبد الراضي

دكتور محمد عبد الراضي

ترتبط هذه القصيدة للشاعر عاطف الجندى "صفصافة قلبى وقلبك سنبلة" ارتباطا قويا بدواوينه السابقة وقصائده كما حاولت الوقوف على بعض هذه القصائد من خلال صفحته على الفيس بوك، وإن كان هذا الشاعر يظل متميزا ومتفردا فى كل ديوان جديد بل فى كل قصيدة تطالعها له؛ لأنه لا يمل من الحلم والتطلع الدائم إلى عوالم شعرية تبهر القارئ وتحثه على القراءة بل وإعادة قراءة شعره مرات ومرات؛ لتتكشف له حقيقة مدى قدرة هذا الشاعر على توليد الوحدات اللغوية المعجمية وعلى توسيع الحقول الدلالية بشكل يبشر فى كل قراءة بكشوفات شعرية جديدة، تشحذ إرادة القارئ وتحفزها وتجعل منه طرفا فاعلا فى إعادة تشكيل علاقة الشاعر بشعره وبالعالم، ليجعل القارئ مشاركا فى صوغ عملا جديد، وهذا يقربنا من فكرة الأدب التفاعلى الذى يناقش ما بعد الحداثة وما بعد منجزات العصر التكنولوجى الرقمى.

 

لقد استطاع الشاعر عاطف الجندى من خلال هذه القصيدة أن يفتح آفاقا رحبة وغنية للتواصل والتفاعل مع القارئ المتلقي، وذلك من خلال استدعاء لغة شعرية تتضمن ألفاظا وعبارات ثرية وغنية بالإيحاء وبالدلالات البعيدة والمعانى العميقة، وتعبر فى نفس الوقت عن أحلامه وانفعالاته وكأنه يشارك المتلقى همومه لكى يلتقى المبدع والمتلقى فى قنطرة النص الشعرى الذى يعبر عنهما ورؤاهما الفكرية والفنية الإبداعية، كما تعبر القصيدة عن تأملاتهما الجمالية فى الإنسان وفى الحياة، وما يثقلهما من مفارقات وتناقضات، فتكشف القصيدة عن قدراته الإبداعية الخفية التى شحذت مخيلته وكشفت عن مشاعره وانفعالاته الضاغطة الناتجة عن تفاعله مع كل ما يحيط به من مكونات وعناصر العالم الخارجي.

لقد جعلنا الشاعر عاطف الجندى منذ الوهلة الأولى فى مواجهة مع شعرية العنوان "صفصافة قلبى وقلبك سنبلة " وهى شعرية تحيلنا على شعرية كل قصائده المختلفة، إن الشاعر يعى أهمية العنوان باعتباره العتبة الأولى للنص الشعرى بل نصا موازيا، له مقوماته ولغته الخاصة، وباعتباره علاقة لغوية دلالية تحدث وقعا وأثرا فى القارئ المتلقي.

وبتأملنا لهذا العنوان ندرك أن الشاعر قد توصل بطريقة مستحدثة فى عنونة القصيدة، وهذه الطريقة هى توظيف سيميائية الرمز فالجميع يعلم الصفصافة التى تعطى لنا فقط الظل ولا تمنح الثمار، وكأن قلبه مظلة تقى المحبوبة من حرارة الشمس مثلا، ثم يجعل قلب المحبوبة سيمياء رمزية أخرى وهى سنبلة القمح وهى رمز للخير والنماء وهو رمز للمرأة منذ القدم حيث درج الشعراء على تصوير المرأة برمز للخير والنماء.

 لكن مع متابعة القصيدة نجد أن المرأة لا يأتى ذكرها إلا بعد مرور أكثر من أحد عشر سطرا شعريا، ولكن مع تدقيق النظر فى المرأة نجد أنه رمزا وقناعا للحلم والهروب والفرار من الواقع كما عبر عن ذلك الشاعر فى قصيدته:

 

 

 

فإلى هناك

 

سنفرُّ من هذا الحصارِ

 

لأبتنى دنيا البراحِ

 

مخاتلا وجعَ الرفاتْ

 

فمحال أن يبقى الهواءُ ملوثًا

 

والذكرياتُ هى الخلاصْ

 

ثم نجد هذا الالتفات البلاغى الجميل والتحول من الأنا إلى النحن، من الذاتية لى الجماعية، ففى كل الأسطر الشعرية يتحدث بضمير المتكلم المفرد يقول (لا تترك الساعات لى _ لأختبر _فأنا أحبك _ وقلت _ أعادنى) فتحول إلى (سنفر من هذا الحصار)، بذلك يكن الشاعر قد خرج الى العام من الخاص وكأن القصيدة الآن تحمل هموم المجتمع كافة، ولا يخفى أن ذكر المحبوبة جاء بعد أحد عشر سطرا وهنا يحيل الشاعر عبر اللاوعى لديه المتلقى ليتفاعل مع سيميائية الحلم وكأن الأحد عشر هم كواكب رؤية يوسف ليحيلنا أن الحلم سيصبح حقيقة ملموسة بعد حين، أى بعد طقس الفرار، وكأن الشاعر قد تداخلت معه الرؤية الصوفية وبدى طقس الفرار لديه كأنه حج إلى الأمل المفقود المنشود ؛ لذلك يُظهر لنا الحلاج فيقول:

 

 لا تترك الحلاجَ فى أفكاره لمصيرهِ

 

بل يوجه له أمرا شديدا من ولى صوفي إلى الحلاج بعدما اتحد مع قوة عنترة وفلسفة ابن رشد وعاطفة وحب ابن زيدون، بل قل بعدما حقق الكمال البشرى الذى لا يحقق إلا فى الولى من النظرة الصوفية فيأمر:

 

فخذ حِصانك وانطلق

 

لتبيد عرشَ الأدعياءْ

 

لقد قام الشاعر عاطف الجندى بتكثيف الدلالة وتخصيب اللغة، بشكل مكنه من بناء صور تتميز بخيالها المرهف وبإيحاءاتها الرمزية وبلغتها التى تتفجر منها شعرية الكلمات معجميا وصوتيا وإيقاعيا، ويفهم من هذا أن الشاعر مدرك لميتا شعريته / وللغته التى تمتلك القدرة على ارتقاء مدارج الإبداع الشعرى، كما يتجلى ذلك بشكل واضح على امتداد قصيدته حيث تتفاعل التقابلات والتداخلات الدلالية والإيقاعية الناتجة عن قدرة شعرية فائقة، تتمثل فى اختيار المعجم الشعرى الموائم للأفكار والمجسد للمشاعر، بشكل يكشف عن رهافة وحساسية متميزة على مستوى بناء الصور الشعرية التى تتخذ فيها حركية الخيال أشكالا فنية متعددة ومتنوعة، إنها حركية الانبثاق والتفجر الشعرى الداخلى التى يتوجه بها الشاعر إلى الواقع الخارجي، لكنها تعود لترتد مرة أخرى إلى الذات الشاعرة التى ترى أن الواقع يعوق فاعلية الإبداع ويجهضها، فتلجأ إلى الحلم بواقع مغاير، تستحضر منه بعض اللحظات المبهرة، التى تترجمها شعريا لمواجهة الواقع الحاضر والراهن فنجد تقابلات الواقع والمأمول:

 

(تختلط الحياة بكل شيء ميت _ فى حرب الرماد _لا فرق فى الألوان _ لا ألق يجيء) هذا هو الواقع، فى المقابل الحلم (يطل عصفور _ انهض من رماد خريطة _ عاد للدفء _كى نعود مغامرين _ لا وقت للتردد_ يبتنى المجد).

 

لقد تمكن الشاعر عاطف الجندى من تشكيل صور شعرية، تتسم بالخيال الذى استطاع من خلاله بناء تصورات ذهنية عقلية مجردة عن مجموعة من الأشياء التى غابت لديه عن متناول الحس، وكذلك من خلال إعادة بنية المدركات، وتشكيلها ضمن عوالم شعرية جديدة تتميز بتركيباتها وتكثيفها وجمعها بين عناصر متنافرة وأشياء متباعدة، وتوظيفها فى صور شعرية فريدة، تذيب هذا التنافر والتباعد وتخلق نوعا من الانسجام داخل هذه التجربة الشعرية.

 

 كما أن المتأمل فى هذه القصيدة يلاحظ أنها مشحونة بطاقة انفعالية، فالنص يستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوى قادر على توليد حقول تسهم فى اتساع الفضاء الدلالى للجملة الشعرية باستيعابها لمعطيات النص وثرائها العميق فى الاختزال والتكثيف والخلق الفنى بذهنية متفتحة مما اضفى على النص كفاءة تأويلية كونه (نص متعدد الدلالة مفتوح بلا قيود) على حد تعبير رولان بارت، بل يؤكد لنا مقولة كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى.

ثم يلعب الايقاع دورا مهما فى هذه القصيدة يتمثل فى كونه يقوم بتثبيت دلالات الحلم، ويعزز مفهوم الشاعر ورؤيته للشعر التى تقوم على توظيف الإيقاع والتراكيب اللغوية والصيغ الصرفية لتتضافر مع المعنى الكلى للجمل والأسطر الشعرية ؛ لذلك يمكن القول إن تداخل وتراكب التصورات والمفاهيم والموجودات مع معجم النص وتركيبه وإيقاعه قد أدى إلى تكيف الرؤية الجوهرية وتأكيد دلالة الحلم المنشود.

وإذا كان الشعر، كما يراه بعض النقاد المحدثين، بناء لغويا يستمد دعائمه من الأنساق الثقافية التى ينتمى إليها الشاعر، شريطة أن لا يخضع لها وأن يعمد إلى بناء نصوص شعرية معادلة وموازية لهذه الأنساق للكشف عن زيفها وتناقضاتها، وهذه القصيدة تعتبر بناء شعريا مركبا يقوم على تحويل دلالة الأنساق الثقافية، وإعادة بنيانها وفق تصورات ذهنية معينة ترتبط بذاتية المبدع وبمخيلته الشعرية التى تحاول إلى تخصيب اللغة، والخروج بها عن السائد والمألوف، وذلك بشكل يوحى للقارئ بأن الإبداع الشعرى قادر على تشكيل أبنية جديدة للإدراك وللوعي، وهى أبنية رافضة ومدمرة للأنساق لثقافية السائدة وما تحبل به من دلالات سلبية تقيد الإنسان وتحاصره وتحد من حركته فى الزمان والمكان (سيموت قيس _ تبادر الخلان بالنسيان _الموت مسألة انتظار _عنقاء التوجع) .

 

ومازال الشاعر يعزف على وتر الرمزية موظفا ومستلهما شخصيات كثيرة مثل ابن زيدون الأندلسى ويلمح لنونيته الشهيرة:

أضحى التنائى بديلا من تدانينا / وناب عن طيب لقيانا تجافينا

 

وهنا يذكر بقضية السجن والإبداع، ويثير رمز عمرو بن كلثوم فى القوة والكبرياء وأبى علاء المعرى رهين المحبسين، وابى فراس وغيرهم، وهذا التكثيف يحتاج لمعانى كثيرة لشرحه وهو ما قلناه سابقا (ضاقت العبارة اتسع المعنى).

إن سيميائية الرمز تتميز بالتكثيف والتركيز والقدرة على الإيحاء والتضمين، وهى سمات ساهمت بشكل واضح فى تنويع أنماط الخيال الشعرى لديه وهى أنماط تعمل دائما على تخصيب اللغة وتشخيص الأفكار فى صور حبلى بالمعانى والدلالات الحية المتولدة عن فاعلية هناك ألف قصيدة حبلى بأوراد اليمام _ وضع قميص قصيدة _ نفتتح اخضرار قصيدتين).

لذلك يمكن اعتبار قصيدة صفصافة قلبى وقلبك سنبلة من النماذج الشعرية التى تسعى إلى بناء مشروع تفاعلى مع القارئ / المتلقى لتجاوز الواقع الراهن ومحاولة الوصول إلى واقع ممكن أو محتمل، أو ما أطلقنا عليه سيمياء الحلم، تتكشف فى هذا الواقع العلاقة بين الشاعر والإنسان من جهة وبينه وبين المجتمع والكون من جهة أخرى.

 

تعليقات