أندلس رشدي حسن تكتب: إبحار في رواية (أديب) لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين

  • جداريات 2
  • الإثنين 17 أغسطس 2020, 2:57 مساءً
  • 1186
أندلس رشدي حسن

أندلس رشدي حسن

إنها حقا لرواية خالدة، تلك التي تستعصم ببلاغة وفصاحة كاتبها عن اللبس والغموض، تلك الرواية التي ما إن نطالعها حتى نستشعر، وكأن الكاتب قد شطر نفسه  نصفين ،فما لبث أن أمسك بزمام أحدهما، وترك الآخر لصاحبه الأديب.

 ويا لشدة تعلق ذلك الكاتب العملاق بصاحبه، ويا لروعة انحيازه له وتعاطفه معه وتعلقه به، فها هو يقدم لنا  صورة واضحة المعالم عن بعض خصائصه والمتمثلة في كونه لا يحس شيئا إلا أذاعه، ولا يشعر بشيء إلا أعلنه، وكونه هو ذلك الشخص المريض بعلة الأدب، فهو الذي يكتب يقظا، ويكتب نائما، فما كانت أحلامه في الليل إلا فصولًا ومقالات، وخطبًا ومحاضرات، ما يلبث أن يدونها ثم  يذيعها على أصدقائه، الذين كانوا يجدون في كتاباته، الكثير من المتعة الحقيقية، التي تثير في نفوسهم الحب والمودة وتولد لديهم  ذلك الشغف الدائم لسماعها.  

 ويالها من صفات جسمانية، تلك التي وصف بها صاحبه أيضا، تلك الصفات المتمثلة في كونه قبيح الشكل، مقوس الظهر إذا قام، منحنيا إذا جلس، ذا صوت لم يكن عذبا ولا مقبولا، وإنما كان غليظًا فجًا.

وياله من مقام، ذلك الذي كان يطيب له في دار صاحبه، تلك الدار المقامة على ربوة عالية، تتيح له النظر إلى كل الأشياء من علٍ، والتي كان يشعر عند الذهاب إليها، وكأنه ينسل من صخب المدينة إلى حيث الهدوء والسكينة، فما إن يستقر فيها حتى يشعر بأنه يتخفف من الأعباء الثقال التي كانت تثقل كاهله، وتؤرق مضجعه، والتي كان يتحمل تبعاتها على مضض، وذلك حال إقامته في تلك المنطقة التي يسكنها، والتي كانت مكتظة بكل أنواع الآلام والأوجاع والبشر .

وما كان أعذب تلك الأوقات وأمتعها، حينما كان يجالس صاحبه في  تلك الغرفة، التي كان  صاحبه يكبرها أيما إكبار، ويبجِّلها أيما تبجيل، وذلك لكونها غرفة مخصصة للعلم ولدراسة الأدب، ولكونها أيضا مستقرًا لمختلف أنواع الأسفار والكتب، ومهدًا لكل أنواع القصص والروايات، فهاهما يواظبان على الجلوس  فيها معا، يتبادلان الأحاديث الشيقة، ويتدارسان علوم المنطق والبيان، وينشدان ما يروق لهما من الأشعار، ويظلان يتسامران ما وسعهم الوقت لحلو السمر، ويظلان يجتران الذكريات ما وسعتهما الطاقة لاجترار أحلى الذكريات.  

وهكذا تستمر اللقاءات بينهما ،فهاهو صاحبه يسعد بصحبته أيَّما  سعادة، فيظل يرافقه أينما ذهب ، ويقيم معه حيثما يقيم ،فباتا يقتسمان  الخطوب والنوائب، والأفراح والأتراح ، وباتا يتطرقان في أحاديثهما إلى الحياة في القاهرة وباريس ،وإلى مختلف مباهج الحياة من طعام وشراب ومن رياضة النفس والبدن. 

وما أعظم ذلك الشعور الذي تولد بينهما، فباتا يشعران وكأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ زمن بعيد، ولا غرو في ذلك، فقد صارا إلفين متقاربين متحابين، ليس  بينهما أي وجه من وجوه التكلف أو التصنع. 

ولقد تولدت لديه متعة حقيقية، لا يعادلها متعة أخرى، وذلك عندما كان يصغي لأحاديث صاحبه، التي كان يلقيها على مسامعه  بصوته الغليظ المؤثر، والتي كان يستشعر فيها القسوة أحيانا، واللين أحيانا أخرى، تلك الأحاديث المتغايرة في صنوفها ، والتي  كانت تزوده في أغلب الأحيان بطاقات إيجابية، كان من شأنها أن تعاونه على التغلب على ما يمر به من صعاب، ولكنها في أحيان أخرى ما تلبث أن تسلبه إياها، فيترك دار صاحبه، ثم يعود إلى داره  خاوي الوفاض، محزون النفس، مؤرق الذهن في معظم الأيام.

  وكم من مقترحات اقترحها عليه صاحبه، فزيَّن له أن يتخلَّى عن  زيِّه الأزهري، وأن يعود إلى زيِّه الريفي، فكان يذعن لتلك المقترحات  أحيانا، ويجادله فيها  أحيانا أخرى، وما كان اختلافهما في واقع الأمرإلا اختلافا ظاهريا سرعان ما يزول بزوال أسبابه ومقتضياته.

تمضي بهما  الأيام، وتتوالى عليهما الأحداث بحلوها ومرها، فيزداد تعلق كل منهما بالآخر، حتي يصبح كل واحد منهما، وكأنه الجزء المكمل لصاحبه ،فلا انفصام بينهما ولا افتراق في أغلب الأحوال، وإنما اتصال ومودة في كل الأحوال.

كثيرا ما كان صاحبه يطرح عليه سؤالا، فلماذا لا يقوم بإعلان أفكاره على الملأ، ولماذا لا يصرح بها أمام الناس ، ولكنه كان لا يجيب صاحبه على تلك الأسئلة ، بل كان يؤثر الكتمان لكيلا يبوح بما قد يعرضه للهجوم عليه من قبل البعض.

 كان صاحبه هو الذي يدفعه دفعا لتحصيل العلم من كافة مناهله، ولتعلم اللغة الفرنسية واللاتينية والتاريخ كما أنه كان هو الدافع الحقيقي وراء اجتهاده ومثابرته لتحقيق أحلامه وأمانيه.

  ويالها من مفاجأة سارة تلك التي أثلجت صدره، وأراحت ذهنه وضميره، وذلك عندما طرق عليه صاحبه الباب متغنيا  بصوته الغليظ بما يحضره من الشعر،  معلنا له أن الجامعة  قد أعلنت في الصحف أنها سوف ترسل طلابا إلى أوربا، وما هي إلا أسابيع حتى تم لصاحبه ما كان يريد، وأصبح عضوا في بعثة الجامعة ، وأخذ يتأهب للرحلة إلى باريس.

تمضي بهما الأيام في باريس، ولكنها لم تكن كسابق عهدها بهما، فقد اختلفت دروبهما وتباينت، وسلك كل منهما طريقا يختلف عن الآخر ، فما كان أتعس من صاحبه ذاك ،الذي أودت به  الظروف التي أحاطت به أثناء إقامته في باريس ،إلى  حالة من الجنون ،لا يمكن أن تخطؤها العين، فهو يبدو أحيانا  محزونا مغرق في الحزن ، وأحيانا أخرى يبدو مسرورا مغرق في السرور .

ولكم كانت نهاية صاحبه في باريس محزنة حقا، فقد بات أشبه بكائن خواء لا يحمل في نفسه سوى الشعور بالاضطهاد وعدم التوازن.

وفي النهاية لم يترك له صاحبه سوى تلك الحقيبة  الضخمة المملوءة بالأوراق، التي لم يعرف أحد مصيرها على وجه الدقة ، وما كانت تلك الأوراق وكما عبر الكاتب عن ذلك  سوى  درب من دروب الأدب الحزين الصريح الذي لا يعرف أحد مصيره حتى الآن.  

حقا إنه لكاتب  عملاق لن يجود الزمان بمثله، ذلك الذي اصطنع بخياله الخصب، شخصية موازية لشخصيته تماما، تجري منه مجرى الدم في العروق ، وتسير معه جنبا إلى جنب  في عالم موازٍ لعالمه ،الذي يحيا فيه ،فما كان صاحبه ذاك ،سوى رجع صوته الذي يتردد في أعماقه دائما، ذلك الصوت  الذي كان يخبره بأنباء شتي عن الأدب والشعر والحكايات ،ويتنبأ له بإمكانية  تحقيق أحلامه التي يصبو إليها، والتي كانت تبدو مستعصية عليه في أغلب الأوقات.

وما كانت تلك الأحاديث التي كان يتبادلها مع صاحبه إلا أحاديث  الذات للذات، ومناجاة  النفس للنفس، وما كان صاحبه إلا جزءًا لا يتجزأ من شخصيته وتكوينه، فهو صوت العقل بداخله ، الذي يتأرجح بين السكون والحركة ،وبين الاتزان والرعونة، وبين الأناة والتسرع، وهو أيضا يعد بمثابة  المرآة  العاكسة التي  يرى فيها بوضوح  تلك  الجوانب الخفية ،التي لا يريد لأي أحد من البشر أن يطلع عليها ،أو أن يسبر أغوارها ،وذلك لما اتصف به من حياء يجعله غير قادر على البوح بها  في معظم الأحوال.

وما كانت  أحداث تلك الرواية إلا حياة حافلة بين الكاتب وبين تلك الشخصية الموازية له ،والتي كانت بالنسبة له  بمثابة غذاء الروح للروح ،وتهيئة النفس للنفس ،والظل الظليل الذي يستظل به من خطوب الدهر ونوائبه ، والنور الذي ينير له الدروب المعتمة.

وما كانت تلك الرسالة الأخيرة التي اختتم بها الدكتور طه حسن روايته إلا رسالة منه هو  شخصيا ،يشير فيها إلى أنه قد ترك لنا ثروة أدبية ضخمة لم يُكشف عنها الستار بعد،فهل ياترى  كُشِف النقاب عنها  بالفعل ، أم أنها مازالت قيد الأغلال والقيود.

والآن وبعد أن وصلنا إلى نهاية حديثنا عن تلك الرواية  لا يسعني إلا أن أطرح بعض الأسئلة:

*هل نستطيع أن نجزم على وجه اليقين، أنَّ الدكتور طه حسين قد أعلن على الملأ كل ما يحمله عقله من أفكار ورؤى؟

* هل كشف لنا ذلك الأديب العملاق النقاب عن كل ما كان يراوده من خواطر وهواجس ألمت به خلال مراحل حياته المختلفة؟

*وهل تقدم لصاحبه الأديب بإجابات وافية شافية على تلك الأسئلة  التي طرحها عليه؟

أم أنه قد رحل عنا وما زال في جعبته الكثير والكثير .

تعليقات