«برواز صورة».. قصة قصيرة للكاتبة إنجي الحسيني

  • جداريات 2
  • الإثنين 10 أغسطس 2020, 00:42 صباحا
  • 1049
الكاتبة إنجي الحسيني

الكاتبة إنجي الحسيني

لم يصدق المهندس صلاح نفسه عندما علم أن شركة البناء الحديث قبلت تعيينه بأحد المناصب الهامة. وكاد يقفز من الفرح عند سماعه الخبر، لذلك فقد تألق على نحو غير عادى فاليوم سيتعرف برئيسه المباشر ويستلم مكتبه الفخم.

ركب سيارته ونظر لنفسه بالمرآة وابتسم برضا وهو يحلم بالتغيير الكبير الذى سيحدثه الراتب الضخم بحياته، فهو يعيش حياة عادية كما أنه أب لثلاث فتيات مقبلات على الزواج.

وأخيراً وصل لوجهته، توقف أمام المبنى العملاق ذى الواجهة الزجاجية، وتنفس بعمق وهو يدلف بثقة من الباب الأمامى نحوعالمه الجديد.

*****

تفضل مهندس صلاح: قالها كامل بك  الشريف وهو يشير له بالجلوس.

تجول صلاح بنظراته متفرسًا فى تفاصيل مكتب كامل، والذى فهم ما يجول فى باله، وسرعان ما أكد له على أن مكاتب الرؤساء والمديرين تمتاز جميعها بالفخامة، وقبل أن يشرح له مهام العمل، قاطعته مديرة مكتبه لتخبره عبر الهاتف بأن منال الموظفة الجديدة بقسم المبيعات فى حالة انهيار وترغب فى رؤيته، فأذن كامل بدخولها على الفور.

دخلت منال باكية وكامل يحاول تهدئتها لمعرفة السبب، وبعد أن هدأت قليلًا أخبرته بأن أمها تقضي أيامها الأخيرة فى المستشفي بعد صراع مع المرض الخبيث ومع ذلك فإن الأستاذ فؤاد لا يراعى ظروفها ويضيق عليها الخناق وخصم  من راتبها الكثير رغم علمه بأنها تساعد فى مصاريف العلاج الباهظة.

اكتسي وجه كامل بالغضب وقال فى نبرة حادة : منذ الآن أنتِ فى أجازة مدفوعة الأجر لتكونى بجوار أمك كما تريدين ولاتشغلي بالك بشئ آخر سواها، مفهوم ؟

حاولت منال الكلام لتشكره، ولكنه أوقفها مشيرًا نحو الباب : مع السلامة، أتفضلي قومى بواجبك، وبمجرد أن غادرت رفع سماعة هاتفه وطلب توصيله بفؤاد والذى ناله كم كبير من التوبيخ واللوم.

كامل رجل مخضرم، كثير التجارب ويجيد الحكم على الآخرين، يمتاز بالوقار والحكمة ويعرف متى يبدو طيبًا ومتى يستعمل قسوته، يتعامل مع من حوله كأنه غير منتبه لهم على الرغم من مهارته فى اكتشاف مكنونات كل من يقابله.

عاود الانتباه للموظف الجديد والذى جلس مراقبًا لكل ما حدث وهو يخبر نفسه بأنه أمام رجل قوى ولكنه عاطفي جدًا بعكسه تمامًا فلغة العواطف ليس لها مكان بقاموسه، ولكنه سيراعى طبيعة كامل حتى لا يصطدم به أو يخسره، فهذا ليس من مصلحته.

تحدث كامل عن الإنسانيات وصلاح يوافقه فى كل كلمة ثم دخلا فى تفاصيل العمل قبل أن يصطحبه فى جولة بالمكان، توقف الأثنان فى البداية عند مديرة مكتب كامل والذى قدمها قائلًا : أى معلومات عن مشاريعنا ستجدها فى النهاية عند سماح.

رمقها صلاح بنظرة باردة ومتعالية، جعلت الفتاة تشعر بالضيق ، فقد كان مغرورًا يهوى الشعوربأنه شخص مهم يهابه الجميع وسار وهو يضع يده فى جيبه وكأنه يتمم على العاملين والذين سارعوا بالوقوف بمجرد رؤية كامل، فهم يحبونه ويعملون له ألف حساب، وأثناء وجودهما بقسم المبيعات حاول فؤاد الدفاع عن نفسه ولكن كامل حذره متجهمًا من فتح الموضوع.

وبعد جولة سريعة بالشركة، أخبرهما "الفراش" بأن المكتب الجديد جاهز، ابتسم  كامل وهو يشاهد اعجاب صلاح بالمكتب والذى جاهد بأن يبدو رصينًا وكأن الأمر عاديًا على عكس الحقيقة، رافضًا الجلوس على مكتبه أثناء تواجد كامل احترامًا له ، فتركه الأخير كى يباشر مهام عمله.

*****

ما رأيك بمدير المشروعات الجديد : سأل  المسئول القانونى للشركة ؟

رد كامل بحكمة : رجل ذكى يعرف ما يريد، ماهر فى عمله وصاحب وجهة نظر ثاقبة لكنه يهتم بالمظاهر ويعشق دائرة الضوء ويعلم أن حدوده تقف عندى، ثقته بنفسه غير متكاملة لذلك فهو يدارى ذلك بالكثير من الغطرسة وحب السيطرة. 

حقق صلاح فى سنوات قليلة أرباحًا عظيمة للشركة وكان عبقريًا بالفعل فى اختيار المشاريع الناجحة وأثبت كفاءته فى العمل مما جعل كامل يثق فيه ويحترمه.  

توطدت العلاقة بين الأثنين وصارا أصدقاء لا يفترقان بعيدًا عن الشركة، ، فصلاح ذكيًا بالفعل عندما لعب على وتر العاطفة وبدأ يشكو لكامل همومه وأشجانه ويطلعه على أدق تفاصيل حياته باكيًا لمحنة عاشها وهو الرجل القوى المتغطرس، مما جعل صديقه يشعر بأن لديه مكانة خاصة عنده وإنه موضع ثقته وبئر أسراره، وبالتالى دخل صلاح بيت مديره وأصبح فردًا مقربًا من أفراد أسرته أو واحدًا منهم حتى يستطيع أن يتقرب منه أكثر ويعرف عنه المزيد.

بدأ العاملون فى التندر على تصرفات صلاح  والذى نجح بشتى الطرق فى إرسال رسائل للجميع بأنه وكامل شخصًا واحدًا، وهذا بالفعل ما حدث، عندما بدأ بعضهم فى تملقه ونقل الأخبار إليه، حتى يضمنوا بأنهم حازوا رضا أهم شخصين بالشركة.

*****

زاد التقارب بين صلاح وسماح بحكم العمل، ورأى صلاح فيها شخصية قوية ذات عقلية ذكية أستطاعت أن تلفت نظره حول مهارتها ومدى أهميتها بالشركة، فطلب منها أن تصادق الجميع حتى تصبح ذات شعبية تمكنها من معرفة خبايا العاملين . 

لاحظ كامل تلك العلاقة والتى أخذت تنمو بسرعة، فلقد أصبحا لا يفترقان تقريبَا ولم يتفاجئ عندما أخبره صلاح عن نيته بالزواج من سماح سرًا مراعاة لمشاعر زوجته وبناته.

لم ينصاع صلاح لنصيحة كامل بأن ما سيفعله قد يهدد حياته الزوجية بالأنهيار، ولم يجد كامل استجابة فتركه وشأنه يفعل ما يريد، ففى النهاية هو لا يهمه إلا مصلحة الشركة وأرباحها ولذا فلم تستوقفه حياة صلاح الشخصية أو تصرفاته المتغطرسة والتى أثارت غيظ العاملين .

*****

وعلى الرغم من شعبية كامل بسوق العقارات إلا إنه مثله كغيره من الناس، فلديه أعداء وحاقدين، فلم يتحمل قاسم البنهاوى تلك المنافسة، واستخدم كل الطرق الملتوية لإزاحته من الطريق، وبدأ بشراء عملاء كامل مقدمًا تسهيلات لا يمكن مقاومتها ثم أقتنص منه أغلب المناقصات . 

*****

فمنذ  تعيين صلاح وهو يشعر بالغل وأحس بظلم كبير لانتزاع المنصب الذى حلم به منذ دخوله الشركة كنائب لكامل ، وزاد حقده وهو يرى المعاملة والنعيم الذى يتمرغ فيهما سعيد الفائز بالمنصب ، لذلك فقد أصاب البنهاوى الهدف عندما لم يرفض صلاح الاغراءات المعروضة عليه رغم إنه لا يجنى القليل.

سلط صلاح زوجته للتقرب من سعيد فهو ضعيف أمام النساء، والذى أخبرها متباهيًا عن عبقريته وأسرار العمل التى لا يعرفها أحد سواه .

بدأت الشركة فى الخسارة وانسحب العملاء واستقال أغلب الموظفين فى غضون شهور قليلة، ليجد كامل نفسه خاسرًا شركاءه بالمشروعات الضخمة والتى لا يعرف كيف يسدد قروضها.

باع كامل الكثير من الأصول التى يملكها فى محاولة لتسديد كل الديون، وقام بالتنازل عن بعض المشاريع والتى قطع فيها شوطًا كبيرًا، وشعر بحزن كبير عندما علم أن صلاح لم يصبرقليلًا وهو يحتفل بزفافه علنًا على سكرتيرته بأحد مقرات شركة قاسم والذى وعده بإدارة أهم فرع من فروع شركاته، وتذكر كيف أنقذ صلاح من الفقر الذى كان يعيشه، وكم المواقف الذى وقف فيها بجواره.

*****

بعد مرور ستة أشهر استعاد كامل نفسه، فلم ينقذه من الإفلاس سوى الشيخ عبد الله أحد أمراء الخليج ، والذى كان يعمل بشركته قبل أن يستقل بأعماله ويصبح من أكبر رجال الأعمال.

سدد الشيخ ديون كامل وأشركه معه فى الكثيرمن المشروعات الضخمة حتى يعطيه ثقلًا بالسوق ولتلميع اسمه ثانية، خاصة بعد علمه بالمكيدة التى تعرض لها، كما عرفه على العديد من الرجال الهاميين داخل مصر وخارجها، حتى تقوى شوكته بين منافسيه، فلكامل معزة كبيرة فى قلبه .

*****

جلس كامل بمقر شركته الجديد وهو ينظر للوجوه القليلة التى تبقت حوله أثناء محنته، وشعر بالسعادة لأن الظروف كشفت له عن حقائق من يحيطون به، وأحس بأن هذا من أهم المكاسب التى حصدها، فمهما كانت خبرته بالحياة فدائمًا هناك من يقفزون فوق سقف التوقعات سواء بالسلب أو بالإيجاب.

وبعد أن هدأت ضحكاتهم، قال أحدهم : هل تعرف يا كامل بك، أن البنهاوى طرد صلاح وسماح من شركته. 

سأل  كامل ذاهلًا : لماذا ؟ هل تعرف  السبب ؟

رد بشماتة : أخبرنى صديق لى يعمل هناك بأن الرجل دخل عليه مكتبه وأمره بأن يأخذ زوجته ويرحل، فهو لا يعين الخونة ، وأن وجوده كان لغرض معين وانتهى.

قال كامل بهدوء : هل تعلم إنه حاول الاتصال بي كثيرًا، ولكنى لم أرد عليه، لقد علمت السبب الآن.. ثم تردد قبل أن يسأل : وماذا عن سعيد؟ أهناك أخبار عنه؟

تطوعت منال بالإجابة: نحن من نريد أن نعرف أخباره ، فلم يره أحد منذ أن بدأت خسارتنا!

أجاب باقتضاب : إنه يعمل بشركة معمارية كبيرة ولكنها ليست بحجم شركتنا، ولكن ألم يتصل بأحد منكم؟

هزوا رأسهم بالنفي،وهم يشعرون بالحزن على غباء سعيد الذى جعله يقع فى الفخ. 

*****

ممكن أقابل المهندس صلاح 

رفعت السكرتيرة رأسها وهى تسأله عن اسمه وسبب الزيارة.

*****

وقف صلاح مهللًا ومرحبًا باصطناع : أهلًا أهلًا يا كامل بك، ما هذه المفاجأة السعيدة؟

كان صلاح يتكلم بلا انقطاع ليدارى خجله بسبب تلك الزيارة الغير متوقعة، لم ينطق كامل بالكثير ولكنه نظر حوله يتأمل المكتب مقلدًا صديقه القديم كما فعل معه بالمرة الأولى لزيارته، لم يكن مكتبًا فخمًا كما تخيل، بل كان مكتبًا عاديًا بشركة صغيرة ليس لها اسم بالسوق. 

 أعطى كامل ظهره لصلاح وهو يبتسم قائلًا : لقد أتيت كى أطمئن عليك يا صديقى، وأنا أرى إنك بخير حال . 

*****

أنصرف كامل قاطعًا خط الأعتذار على  صلاح

وبعد أن عاد إلى شركته دخلت منال واللهفة تكاد تقتلها وسألته كيف سار اللقاء بينهما.

أجابها: يبدو أن العلاقة بين صلاح وسماح على غير ما يرام، لأنه لم يعينها معه بالشركة، ثم تابع مسردًا تفاصيل المقابلة، وهو يعلق قائلاً: على الرغم من أن محبة صلاح كانت مزيفة أو غير قوية لكنه أعطانى درسًا لن أنساه.

سألت: وما هو ؟!

أجاب: أن الصداقة لا تقاس بعدد السنين، ولكنها تقاس بالمواقف، وللأسف لم أستطع تذكر أى موقف لصلاح يحسب له كرجل يستحق ثقتى ومحبتى، ثم تابع آمرًا وهو ينظر إلى الأوراق الموضوعة أمامه : كانت لى صورة بمكتبي القديم تجمعنى بهذا النذل ، فلتذهبي وتحضريها كى أضعها بمكتبي، فبالتأكيد لقد أعتلاها التراب.

عقبت مستفسرة: وأين ستعلقها؟           

رد مشيرا للحائط الذى أمامه : هنا، كى أتذكر دائمًا أهم دروس حياتى، فلم يعد بالعمر المزيد كى أتعلم دروسًا أخرى..

خرجت واستمر هو فى أعماله كأن شيئًا لم يكن.



** القصة من المجموعة القصصية «حكاية ريال فضة» 


تعليقات