حسان بن عابد: المهارات الغريزية في عالم الحيوان دلالة واضحة على العناية الإلهية (فيديو)
- السبت 23 نوفمبر 2024
عاطف محمد عبد المجيد
كثيرًا ما يظل مَن يمتهنون حرفة الكتابة، مثقلين بتساؤلات مُؤرِّقة، تتعلق بفعل الكتابة، مُتسائلين عادةً، عن ذلك المجهول، الذي دفعهم بقوةٍ إليها، وما هي المغريات، أو الإغراءات، التي زيَّنتْ لهم الطريق إليها، فارشةً إياه بالورود والرياحين.ليس هذا وحسب، بل كذلك يتساءلون عن جدوى ما يقومون به، وهل ثمة مِن صدًى لكتاباتهم، أمْ أن الأمر لا يتعدَّى حدود النفخ في القِرَب المقطوعة؟
هذه التساؤلات وغيرها طرحها د.جابر عصفور، ذات مقال حمل عنوان: لماذا أكتب؟..وبطبيعة الحال، لا يخص هذا السؤال د.عصفور وحده، وإنما يخص كتائب عديدة من الكتَّاب والمبدعين الذين قضوا جُلَّ حياتهم يدورون في ساقية الكتابة. إن هذا السؤال هو نقطة المركز، التي تدور حولها كل تفاصيل حياتهم، خاصةً وأن الكتابة هي بمثابة الحياة ذاتها، بالنسبة للكتَّاب الذين لا يجدون متنفَّسًا في الحياة، سوى الكتابة، مثلما يعتبرونها الحِضْن الدافيء والحنون، الذي غالبًا ما يلجأون إليه، ويلوذون به، حينما تزيد مساحة العتمة، وتستطيل السوداوية، وتتمدد الإحباطات والانكسارات، والهزائم العامة والخاصة، ويشعرون وقتها، ألا مناص من الاستسلام والانهزام.
لقد سأل د.عصفور نفسه، السؤال الذي يسأله كل كاتب لنفسه: لماذا يحترف
الكتابة؟..لماذا يُصرُّ عليها؟..لماذا يشعر أنها حال وجوده وسر حضوره؟ هذه الأسئلة
تهجم علي الكاتب، عندما يعتريه مزاج رمادي، حتى يصل به الحال إلى التساؤل: لماذا
أستمر بدلاً من أن أريح نفسي من هذا الداء، الذي اسمه الكتابة؟ أحيانًا، يعثر
د.عصفور على إجابات لهذه الأسئلة لدى إبراهيم عبد القادر المازني الذي كان لا يكف
عن السخرية حتى من نفسه، ويعتريه في بعض الأحيان مزاج سوداوي يملأه بالسؤال الجارح
عن جدوى الكتابة في عالم لا يأبه بها، ولا يلتفت إلى أهميتها، ويتجاهل ما يكتبه
الكاتب الذي يشعر بإحباط رغبته في إصلاح العالم، أو تحديثه أو تثويره، فيصيبه
الحزن والكرب والمزاج السواودي الذي يدفعه إلى السخرية من كل شيء، وهذا ما دعا
المازني إلى أن يُسمي كتبه بـ " حصاد الهشيم " و " قبض الريح
".
وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف عن ممارسة فعل الكتابة وهذا يعني كما يرى د.عصفور أن المازني كان متعلقًا بها وأن علاقة تضاد عاطفي تصله بها كما تصلها به، ولذلك كان يكرهها بقدر ما كان يحبها، ويعرف قدرها بقدر ما يبخسها هذا القدر، ولولا هذا التوتر الذي يتسرب في كتاباته ما أحببناه، وما أقبلنا عليها، رغم تحذير صاحبها لنا، بأنها قبض ريح أو حصاد هشيم.
وبهذا يكون
هجوم المازني على الكتابة دفاعًا عنها، ونفوره منها انجذابًا إليها.
أما العقاد كما يراه د.عصفور، فكان حادًّا
كالنصل قاطعًا كالسيف، ولذلك اقترنت الكتابة عنده برغبة إصلاح العالم وتحريره على
السواء، وكان فعل الكتابة هو فعل الحرية، في أصفى حالاته.لقد كان مفهوم العقاد عن
الحرية قرين الثورة على كل نقيض للحرية التي هي الجمال.ونتيجة لمقالاته النارية،
سُجنَ العقاتد تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكية، وبهذا دفع ثمن الكتابة
الذي هو ثمن ممارسة فعل الحرية.
من هنا يرى د.عصفور أنه على كل كاتب من طراز العقاد أن يعرف أن عليه دفع ثمن فعل الحرية التي يمارسها بالكتابة.كذلك يذكر د.عصفور عددًا من الكتَّاب الذين طاردتهم تُهَمُ الكفر، وصُودرت كتبهم وكتاباتهم، مثل طه حسين ولويس عوض ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وعبد الحكيم قاسم وصنع الله إبراهيم وعلى الشوباشي. والآن وصلنا إلى زمن تزايد فيه قمع الكتابة وتزايد التضييق على الكتَّاب، وهبط سقف حرية الكتابة إلى أدنى حد، وأصبح القابض على قلمه الشريف النزيه، كالقابض على الجمر، خصوصًا بعد أن انحدر مستوى الوعي الجمعي، وأشاع دُعاة التطرف الديني أفكارهم، التي لازمها تكفير المبدعين في ممارسة كل فعل من أفعال حرية الكتابة التي هي فعل خالص للجمال المتحرر من كل قيد.
ونتيجةً لما يحدث الآن في عالم الكتابة ينتاب د.عصفور ومَن هم على شاكلته مزاج رمادي ويتساءل عن جدوى الكتابة في زمن اختلط فيه الكاتب بالكويْتب، وزادت التفاهة والسفاهة، وشاعت ثقافة التسطيح والخرافات والخزعبلات.
يتساءل د.عصفور عن جدوى الكتابة،
فيجد الإجابة لدى الرواد العظام، الذين دفعوا ثمن الكتابة وحريتها..وبعد أن يتذكر
بعض أبيات عبد الرحمن الشرقاوي التي يقول فيها:
" وفي شرفات هذا العصر
قد وقف الرجال الزائفون
مهفهفين ملمعين
مثل البغايا
حين يقطعن الطريق
على وقار العابرين
ولكنه زمن ويمضي
وسينتهون ".
وبعد أن يتذكر د.عصفور هذا يقول لنفسه: أنا أكتب
لأحرر نفسي من قيود الضرورة، وأساعد غيري على الوعي، الذي يفتح له أبواب حريته ولا
أتوقف عن الكتابة، لأني أسيرُ ما أنطوي عليه، من شهوة إصلاح العالم أو تطويره أو
تثويره بلا فارق.أكتب لأني أريد أن أسهم في القضاء على الظلم والاستبداد والفساد. أكتب لأن الواقع الذي أعيش فيه لا يعجبني،
وأرفض ما شاع من غياب للعدل الاجتماعي والحرية والتقدم مقابل تسلط التطرف الديني،
والقمع السياسي والتصلب الاجتماعي.أكتب لأني لا أزال أحلم وأُصرُّ على أن أستبدل
الحلم بالكابوس. أكتب لكي أشعر بمعنى
الجمال وأستمتع بفعل الكتابة، وأعيد بناء المعطيات بعد تفكيكها، وأحلم أن تصل
كتابتي إلى أكبر عدد من الناس، وأن تحثهم على مقاومة كل صور القبح والشر والظلم في
العالم، مؤمنًا أن الكتابة فعل مواجهة ورفض لكل ما يسهم في تشويه العالم، ولذلك
أشعر أن الكتابة هي روح وجودي وسر حضوري ونعيمي وعذابي في آن..فهي صنعة للخلق
والتهديم، وهي شَعيرة أشبه بأسطورة الخصب التي لابد أن تساعد على انبثاقه من الجدب،
والنور الذي ننتزعه من ظلام حياتنا.هذه هي الأسباب التي جعلت د.عصفور يكتب، وهي
أيضًا الأسباب نفسها، التي تجعل كل كاتب محترم وجاد يحترف الكتابة، كل كاتب لا
يريد شهرة أو ذيوعًا من ورائها، ولا لتسلط عليه الأضواء الزائفة، بل ليحقق قيمة
سامية من ورائها، داعيًا بكل ما أوتي، إلى العدل والحرية.حقًّا إن الكتابة عذاب
ونعيم ونار وجنة، لكن على مَن يختارها ألا يشكو حين تصبح عذابًا ونارًا، بل عليه
أن ينتظر حتى تتحول إلى نعيم وجنة.ولا ينسى د.عصفور في هذا الصدد أن يُذكّر بما قاله نزار
قباني: " أكتب
كي أفجر الأشياء
فالكتابة انفجار
أكتب كي أنقذ العالم
من أضراس هولاكو
ومن حكم الميليشيات
ومن جنون قائد العصابة
أكتب كي أنقذ الكلمة
من محاكم التفتيش
من شمشمة الكلاب
من مشانق الرقابة
لا شيء يحمينا من الموت
سوى المرأة والكتابة ".
أما كاتب هذه السطور، وبعيدًا عن الأحلام الكبرى
لدكتور عصفور ونزار قباني، فيكتب ليمارس شيئًا يحبه..يمارس شيئًا يُريحه بعد
الانتهاء منه.أمّا أن ينتظر صدًى لما يفعل، فهذا ما يصيب بالقلق والتوتر.هو فقط يكتب،
ولا ينتظر ما لا يجيء، وبهذا يُحوّل الكتابة إلى دواء، بدلاً من داء، ويجعلها
نعيمًا بدلاً من عذاب، ويراها جنة بدلاً من سعير.هو يكتب فقط ليكتب..لأن الأحلام
الكبرى لا يُحققها لا الكتَّاب ولا الكتابة وإنما تحققها أشياء أخرى، نفتقدها
جميعًا نحن معشر الكُتَّاب خاصةً الآن.